النقد

«أيامٌ مثاليّة»: تدرجات في الحياة وفي الحب

أشباهنا من الحياة..

عندما نتحدث عن السينما اليابانية في المطلق، نجد أن اليومي الياباني جدير بالالتفاتة والتركيز، لما له من معطيات تسمح للكاميرا باكتشافها والتدوير في جماليتها والتفنن في مساحات الفرجة التي تأخذنا إلى عوالم من الراحة النفسية والهدوء النسبي وكثير من الخفة والنسمة، وهذا ما يحدث عندما نصبح أصدقاء لإنتاجات  تصويرية يابانية. تجعلنا هذه العلاقة -مع شريط الحياة الذي تلتقطه آلات التصوير- نطمح داخليًا إلى أن نكون داخل تلك البنية النسقية شديدة الأصالة وكثيرة العذوبة. هذا الشعور يترافق مع أي شخص لديه ذلك الارتباط الوثيق بالشعوب وأنماطها وطرائق معاشها وأساليبها في التمسك بالحياة. يحاول هذا الفيلم الذي يتميز بالارتكاز الفني والبصري أن يصحبنا في أزقته السمحة الهادئة وإيقاعه المتداول البطيء في نواحٍ عدة من تقسيمات الفيلم الرئيسة.

عندما يكون للحمّامات معنى..

يحاول عالِم الاجتماع الألماني يورغن هابرماس -من خلال نظرياته العلمية المبرهنة حول الفضاء العام أو ما يُسمى بالعمومية أو المجال العام في بعض الاجتهادات العربية- أن يضع السياقات التاريخانية للفضاءت العامة على أنها مجال للحرية والديمومة بصياغات لفظية في مرحلة تاريخية معينة، وأنها كذلك هي مرادفات للمجال الاقتصادي المتمثل في السوق الحر أو النظام الاشتراكي اللذين يحتويان على كل المركبات الاجتماعية المختلفة انطلاقًا من لبنة مجتمع الأسرة إلى غاية مؤسسات الدولة الكبرى. من خلال هذا الطرح السوسيولوجي يتبين لنا أن الفضاء العام هو جزء من التركيبة النفسية والانطباعية التي تحدد علاقة المواطن بمجتمعه، حيث إن البنى الخرسانية القابعة داخل المجتمع لديها نصيب كذلك من الرؤية العامة لطبيعة وتكونات الأفراد السيكولوجية والنفسية. في هذا الفيلم بالتحديد يقدم لنا المخرج وجبة دسمة عن علاقة المواطن الياباني بمؤسسات دولته، حيث إن طبيعة عمل الشخصية تُعتبر في الوعي الجمعي عملاً قد يكون محتقرًا إلى حد ما ولا يليق بالآدمية، بقدر ما هو  توجه علائقي تاريخي يصدر لنا صورة نمطية عن الرجل الياباني في تعاملته مع أبنية مجتمعه. تنظيف الحمّامات هو العمل الأكثر شبهيةً ببطل القصة، انطلاقًا من كونه إنسانًا لا يحب التعاطي بإسهاب وتكرار مع البشر من حوله، ولذلك يجد في تنظيف الحمامات ابتعادًا نسبيًا غير مؤذٍ له من كون هذا العمل يجعل من الناس يُقلِّبون الأحكام في عقولهم حول نظافة هذه الشخصية من جهة، كما نرى في مشهد المرأة مع ابنها في بداية الفيلم، وإن هذا العمل في سيرورته التاريخية مرتبط بطبقة اجتماعية مسحوقة نوعًا ما.

إن رمزية الحمّام الأبيض تدل حرفيًا على طبيعة الشخصية التكوينية، حيث إن اللون الأبيض يوحي بالسلام والهدوء، وإن جميع الحمّامات التي ظهرت في الفيلم كانت شديدة البياض والنظافة، مع قلة تواجد الأشخاص فيها، وأرى أن هذا كان مقصودًا جدًا لأنه يوحي بأن الشخصية الرئيسة تعاني من الوحدة على نحو كبير في حياتها.

كيف يجعل منا الحب بأنواعه نتلذذ بالسعادة اللحظية، ونفقدها بعده؟ هل هو مخدِّر…؟

إن العلاقة الشاعرية بين بطل الفيلم والموسيقى من جهة والكتب من جهة أخرى، تحدد لنا أهمية هذين العنصرين في تحديد طبيعة المفاهيم الحياتية لهذه الشخصية العميقة الباهتة. في إحدى كتاباته عن أهمية الموسيقى، يقول نيتشه بأنها قد تكون مرادِفة للفلسفة لولا أن الفلسفة كانت تحمل فقط حيوات المعنى، بقدر ما تربطنا الموسيقى بهرمونيا الوجود وتجعل منه معنى، بقدر ما وُظِّفت في مَشاهد الفيلم السردية على أساس أنها فاتحة خير وشهية لبطل العمل في مشواره الصباحي للعمل مُنظِّفًا للحمّامات العمومية. إن المعاني التي كانت تطرحها الموسيقى المسموعة داخل شاحنة العمل دائمًا ما كانت ترتبط بتوصيف الطبيعة والإنسان، حيث إن هذين المجالين -على الرغم من ضيقهما نسبيًا فيزيقيًا مقارنة بالكون- يمثّلان عالمين من البراح الذي يجعل كل القواميس تنفذ في وصفهما واستنطاقهما. كما كانت الموسيقى التصويرية الهادئة في كل المَشاهد الفيلمية حاضرة دومًا بلمسات من الإتقان والتفرد والصمت، حيث إن المَشاهد التي كانت خالية من الموسيقى في كثير من الأحيان كانت مُعبِّرة جدًا لما تحمله من قيم نوعية تركز على الأداء التمثيلي والحضوري لأبطال القصة.

إن الكِتاب والقراءة كانا حاضرين بطريقة سلسة جدًا وبسيطة كذلك، حيث إن عالَم البطل مع القراءة هو ما كان يجعل منه إنسانًا حكيمًا قادرًا على التواصل مع نفسه ومع مراده من الحياة والمجتمع. دعونا نستحضر هنا قول نيتشه عن القراءة بأنها فعل شاق لا يقدر عليه إلا من يتسم بالقوة والصبر والمثابرة، وهذه كلها صفات بطلنا في الفيلم.

وكذلك هنالك شغفين أساسيين عند شخصيتنا الرئيسة، ألا وهما التصوير الفوتوغرافي والاهتمام بالنباتات. أما الأول فإن عنصرَي الزمان والمكان اللذين وثَّقهما الأسلوب الممارساتي للشخصية يكادان يدخلان ضمن إطار ما يُسمى بهالة الفن، وهي حالة مصاحبة للأشخاص ذوي النظرة الجمالية للطبيعة الخارجية، حيث إن خصوصية بطل قصتنا مع الأشجار والأشياء والأشخاص هي جزء لا يتجزأ من تقاليده الفنية وتقاليد حضارة بلده التاريخية، وبالرغم من أن الكاميرا الفوتوغرافية متهالكة ومتآكلة، فإنه يحاول شهريًا أن يلتقط من الحياة صورًا للذكرى لتؤطَّر مكانيًا وزمانيًا، ويحس -بفضل هذا التوثيق- بأن رغبته في الاستمرار على هذا النحو وبهذه الكيفية في الحياة ماتعةٌ ومميزةٌ تشبهه هو فقط لا غيره، وأستطيع التعبير عنها بأنها صور خارج الزمان للمكان. أما الزراعة، فهي النمط الذي يسعى بطل قصتنا إلى إيلائه اهتمامًا خاصاً، ليشعر بأن هناك حياة أخرى تشاركه فضاء سكناه. ويعكس اهتمامه هذا بالنباتات صدى عميقًا لفلسفة شوبنهاور، إذ يمكن اعتباره دليلاً دامغًا على أثر هذه الفلسفة في حياته اليومية، بصمت أعمق من أي كلمات.

والعاطفة ونهاية المدرج..

بعد لقاء هيارما بأخته وسؤلها عن طبيعة عمله، حاول بطل قصتنا تدارك الأمر أمامها، لكن التحديات التي تصنعها العقليات المجتمعية أكبر من تحملات بشر عاديين. حاول أن يُبرز ذلك الكم من الكبرياء أمامها، لكنه انهار بمجرد اختفائها وتواريها عنه، وبعدها دخل في حالة نفسية تشبه الناس وهي التفكير في طبيعته وحياته وإنجازاته، وبالرغم من الألم اللحظي الذي صاحب سؤالها عن عمله في تنظيف الحمّامات، فإنه عند اللقاء الأخير تبين له أن ما يملكه هو الآن يفتقر إليه كثير من البشر حوله، وأن المثالية التي يرسمها الناس لنا، ليست بالضرورة هي مناسبة لأحجامنا واستيعابنا وقدراتنا، فإن المنظور الذي أرسمه لشخصي هو الذي يحدد مثاليتي وكيفيتي في الحياة والعيش.

عندما لا يوجد تمزقات، تكون قماشة جيدة للاتكال عليها في صناعة البصريات. إن الأفلام في المطلق ما هي إلا استنطاق للجدريات الصامتة التي شهدت وتشهد على أفعالنا وممارستنا وحكواتنا وطبائعنا، فهي الأكثر ملازمة لنا لأننا نستند إليها ونمارس أمامها حقيقتنا، وهي التي تشهد على انتكاساتنا وضعفنا الجميل منه والمؤذي.

إن الأفلام اليابانية بهذا الشكل والتي تتشابه وتتقاطع مع الأفلام التسجيلية -وهذا راجع للخلفية والمرجعية الإخراجية- هي ضرورية جدًا لاكتشاف منحنيات حياتنا وإنسانيتنا، وإن العمل اليومي -بقدر بساطته- يحمل تاريخًا وذكرى لصاحبه، وإن نسبية الحياة هي ما تجعلنا نعيش بالطريقة التي نراها نحن مناسبة لنا بعيدًا عن إملاءات وتدخلات الغير. المنطوق في الفيلم هو الصامت منه، حيث إن الشخصية التي تصحبنا معها في جولتها ما هي إلا نموذج بشري نعرفه ويتقاطع ويشترك معنا في كل أساليبنا وسلوكياتنا التي نمارسها في يومياتنا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

حذيفة أمين
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا