«علي: الخوف يأكل الروح»: عن الحب والتعصب والكراهية

أ. محمد الكرامي
و
January 25, 2025

يُعَد فيلم «علي: الخوف يأكل الروح» (Ali: Fear Eats the Soul - 1974)، من إخراج راينر فيرنر فاسبيندر، واحدًا من أبرز العلامات البارزة في سينما الموجة الألمانيَّة الجديدة التي ظهرت في أواخر الستينيات. ويُعتَبر مخرجُ هذا العمل من أبرز دعاة هذه الحركة السينمائية، والتي ضمَّت مخرجين مشهورين آخرين أمثال فيم فيندرز وفيرنر هيرتسوغ. ولئن بدأت الحركة بوصفِها حركة رافضة لموقف صناعة السينما التجاريَّة في ألمانيا، من الواضح أنَّ «قلب» هذه السينما الألمانيَّة الجديدة قد توقف عن النبض عام 1982، وهو عام وفاة فاسبيندر.

روح دوغلاس سيرك

يرتكز فيلم «علي: الخوف يأكل الروح» على ميلودراما المخرج دوغلاس سيرك، الذي بدأ حياته المهنيَّة في ألمانيا في الثلاثينيات قبل أن يهاجر إلى هوليوود، وتحديدًا فيلم «كل ما تسمح به السماء» (All That Heaven Allows - 1955)، وهو فيلمٌ عن الحب الذي يتغلَّب على الحواجز الاجتماعيَّة المثيرة للانقسام. الروابطُ واضحةٌ بينه وبين «علي: الخوف يأكل الروح»، الذي يستعير حبكته وبعض العناصر الرئيسيَّة، السرديَّة والبصريَّة. ففي فيلم سيرك، تؤدِّي جين وايمان دور كاري سكوت، وهي أرملةٌ ثريَّةٌ من الضواحي تبدأ علاقةً غراميَّةً مع البستانيّ رون كيربي (الذي يؤدِّي دوره روك هودسون)، وهو شاب كادحٌ يصغرها في السنِّ، ممَّا يثير فضيحةً بين أوساط جيرانها وأطفالها الجامعيين. أمَّا في فيلم فاسبيندر، فالمرأة الأكبر سنًا (إيمي كوروفسكي التي تؤدِّي "بريجيت ميرا" دورها) هي نفسها من الطبقة العاملة (عاملة تنظيف) وغريبةٌ نوعًا ما (كان زوجها مهاجرًا بولنديًا)، والرجل الأصغر سنًا الذي تزوجته هو عاملٌ مغربيٌّ في الثلاثينيات من العمر (علي الذي يؤدِّي دوره الممثِّل المغربي "الهادي بن سالم"). يقوم فاسبيندر بتضخيم القوى القمعيَّة المجتمعيَّة التي تتآمر ضد هذين الزوجين دون المساس بأيٍّ منهما، على عكس فيلم «كل ما تسمح به السماء»، حيث نرى الطبقة الإجتماعيَّة فقط هي التي تفرِّقُ بينهما.

فيلما «علي: الخوف يأكل الروح» و«كل ما تسمح به السماء» ليسا مختلفين تمامًا، فجوهرُ كلُّ فيلمٍ منهما يستكشف الوصمات الاجتماعيَّة حول المواعدة خارج العرق والطبقة والموقعِ الاجتماعي. وبالطريقة نفسها التي قام بها تود هاينز - في فيلم «بعيدًا عن الجنة» (Far from Heaven - 2002) - بتحديث رواية سيرك الكلاسيكية، قام فاسبيندر أيضًا بتجديد القصة من خلال إضافة عناصرَ مختلفة من الصراع. تقدَّم قصة الفيلم عن العشاق الذين تفرِّق بينهم الثقافة والعمر، والعرق والعقيدة والوضع الاجتماعي، بنوعٍ من البساطةِ التي تزيد من تأثيرها العاطفي. تسمح وتيرة فاسبيندر البطيئة والمهذَّبة لممثليه بالعثور على أنفسهم والتوسع في جلود شخصيَّاتهم، بحيثُ نسجِّل كلَّ تغييرٍ دقيقٍ في التعبير، في الشعور وفي المواقف.

الحبُّ كوصمةٍ اجتماعيَّةٍ بين غريبين

يبدأ الفيلم على صوت أغنية عربية تتردَّد داخل حانةٍ خانقةٍ في أحد أحياء المدينة الألمانية. تقضي مجموعة من المهاجرين المغاربة وقتًا مع المشروبات وألعاب الورق. تتحرك كلُّ الأنظار نحو الباب عندما يُفتح ليكشِف عن امرأة ألمانيَّة، قصيرةٍ رثَّة الثياب، تهرب من المطر في الخارج، وتتوقَّف عند طاولة على يسار المدخل. تركِّز لقطات الكاميرا على المسافة الكبيرة بين البار والطاولة، والعيون الثاقبة للساقية الشقراء وضيوفها المغاربة، وهو ما يكشف عن الانزعاج المفاجئ بسبب وجودهم المشترك. وعلى سبيل المزاح، يقترح أحدهم أن يطلب منها علي (الهادي بن سالم) أن ترقص. يراقبُ الألمان والعرب الثنائي بحكمٍ صارم. إن صمتَ المتهكِّمين العابرين الذين يراقبون الطرفين بشيءٍ من الكراهية يقودُ في النهاية إلى إثارة الرومانسية الناشئة، حيث ينتهي به الأمر وهو يرافقها إلى منزلها، ثمَّ يأتي لتناول مشروب، من بعدها يقضي الليل في سلسلة من المشاهد التي تنقل للمشاهد، وعلى نحو مثالي، كيف يمكن لشخصين يعيشان وجودًا متوازيًا ذا قيمةٍ متضائلة، أن يجتمعا بسهولةٍ وبسرعة. تنمو علاقةُ حبٍّ وعطاءٍ وينتقل علي في نهاية المطاف للعيش معها ويصبح عشيقها. ولكن بطبيعة الحال، لن يقبل المجتمع الألماني بذلك، حيث ستنكشفُ فوضى قبيحة في حي ميونيخ الذي يعيشان فيه، باعتبارها قصة شخصين يعملان على سد الفجوة الثقافيَّة، وجميعُ المحيطين بهما سيعملون على تحويل حياتهما إلى جحيمٍ لا يُطاق.

تغدو إيمي منبوذةً من مجتمعها الخاص، وهو المجتمع الذي كانت جزءًا أساسيًا منه قبل زواجها بـ «علي». إن عمر إيمي يجعلها كائنًا غير جنسيٍّ بالنسبة إلى أصدقاء علي الصغار، وتأتي حالة علي بوصفه مهاجرًا، وكذلك جنسيته، بمثابة صدمةٍ خاصَّة لأصدقاء إيمي وعائلتها. إن التفاصيل الدقيقة التي يصوِّر بها فاسبيندر نبذ الزوجين اللاحق، والتحيُّز العنصري المتفشِّي الذي يواجهانه، هي جزء من المخاوف الحقيقيَّة للفيلم. يتمتع فاسبيندر بقناعةٍ قويَّةٍ بشأن طبيعةِ التعصُّب والتحيُّز دون أن يجعل الفيلم يبدو تعليميًا أو متعاليًا. كان فاسبيندر نفسه ملعونًا باعتباره رجلًا مثليًا وفنانًا استفزازيًا على أعتاب السينما الألمانية الجديدة، لذلك كان مدركًا تمامًا لما تمرُّ به شخصيَّاته.

يسلط الفيلم الضوء، بصورةٍ كبيرةٍ، على كراهية الأجانب والعنصريَّة التي تواجه الزوجين علي وإيمي: زملاء إيمي في العمل يتجنبونها، البقال المحلي يرفضُ خدمة علي، الجيران ينبذونها، يتبرأ منها أطفالها، ويحطّم أحد أبنائها جهاز التلفزيون الخاص بها بغضب (في إشارة مباشرة إلى فيلم سيرك «كل ما تسمح به السماء»). وفي هذه الأثناء، يبدو علي أكثر انسجامًا مع الأحداث وغير متأثر، ربما لأن أيًا من التمييز والإساءة لم يفاجئه، لأنَّ التحيز الذي تواجهه إيمي هو عن طريق علي فقط. ومن هنا لا يستغرق الأمر وقتًا طويلاً حتى تبدأ إيمي في مهاجمة علي و«عقليته الأجنبية»، وكذلك يبحث علي عن الراحة في مكان آخر.

ظلال الرايخ الثالث

أحد العناصر المرئية المثيرة للاهتمام، والتي غالبًا لا يلاحظها أحد، هو شعر إيمي. ففي المشهد الأول من الفيلم يكون رماديَّ اللون، ومع تواصل الفيلم يصبح أكثر احمرارًا وأكثر تصفيفًا، ويبدو أنَّها تصبح أصغرَ سنًا على مدار الفيلم. ثمَّة ملاحظة أخرى، عندما يطلب علي من إيمي الرقص في الحانة وتخلع معطفها المَطَري الباهت، تكون مرتديةً ملابس زاهية الألوان، فستان منقوش بجرأة تحته. وهو ما سيستخدمه لاحقًا فاسبيندر في المشهد المهم في الفيلم عندما تذهب إيمي وعلي لقضاء العطلة، حيث يكونان محاطَين بسربٍ من الكراسي الصفراء بلونِ زهرة عباد الشمس أثناء جلوسهما في الفناء الرمادي لأحد المقاهي، راضيَين في سلامٍ وهدوء. تنتقل الكاميرا بعد ذلك إلى عمَّال المقهى، الذين يحدقون جميعًا بحقد وكراهية. أمَّا العاشقان ففي عالمهما الخاص، عالمٌ مليءٌ بالألوان والفرح والحب، في الوقت الذي يقبع الجيران في مكانٍ رمادي كئيبٍ ويغرقون في الأحكام المسبقة القائمة على الجنسيَّة، العرق، العمر، الجنس والاختلاف العام، وهو ما يَنتجُ عنه تعصبٌ هجينٌ غير مرحَّبٍ به في تشريح فاسبيندر لتعصُّب المجتمع الألماني في السبعينيات.

يتلاعب فاسبيندر بالوقت والمرئيات والألوان على الدوام، ويؤطّر اللقطات بصرامةٍ شديدةٍ؛ إذ تبدو الشخصيَّات مسجونةً، مخنوقةً ومحدودةً في المساحات التي يمكنها التحرُّك بها. سوف يحبس إيمي في المقدمة وعلي في الخلفية بحيثُ لا يستطيع أيٌّ منهما التحرُّك دون مغادرة الإطار. وعندما يكونان بمفردهما معًا، يتجنَّب فاسبيندر وضعهما في الإطار نفسه، من أجل مضاعفة الإحساس بالغربة والعزلة. وكما تقول العبارة الافتتاحيَّة للفيلم: «السعادة ليست ممتعةً دائمًا» (وهي إشارةٌ سينمائيَّةٌ أخرى إلى سطرٍ من فيلمٍ لمخرج ألماني مهاجر آخر، ألا وهو «المتعة» (Le Plaisir - 1952) لماكس أوبهولس) وبهذه الطريقة، يشير إلى أن هناك أمل، ولكن ليس من دون معاناة.

يقدم الفيلم نقدًا لألمانيا التي لا تزال تعيش في الظل الطويل الذي يلقيه الرايخ الثالث. عبارة العنوان «الخوف يأكل الروح» هي مقولةٌ عربيَّةٌ يرددها علي على مسامع إيمي أثناء قضائهما الليلة معًا لأول مرة. المعنى هو أنَّ هذه المخاوف الصغيرة ستؤدي في النهاية إلى تدميرك. وعلى الرغم من أنَّ فاسبيندر يقدِّم نهايةً سعيدةً دون تجميلِ الموضوعات التي لا تزال ذات صلة على نحوٍ مؤثِّر، فإنه ما يزال ممكنًا ومناسبًا اليوم استخدام تحفة فاسبيندر «علي: الخوف يأكل الروح» بوصفها تعليقًا اجتماعيًا وسياسيًا على التحيُّز والاضطرابات الأخيرة في ألمانيا.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى