1خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ
في تجربته السينمائيَّة الثانية - بعد فيلم «مدينة الملاهي» 2020 كأوَّل فيلمٍ روائيٍّ طويلٍ له - يقدم لنا المخرج «وائل أبو منصور» تجربةَ فيلم جداويٍّ جدًّا في «صيفي» 2024؛ ولعلَّ هذا الإبراز للمدينة وأجوائها من أهم ملامحِ الفيلم ومميِّزاته، خصوصًا لارتباطها بفترةِ نهاية التسعينيَّات الميلادية. وهذا، في واقع الأمر، عند الإعلان عن الفيلم وقصته، يثير الارتياب من بعيد، وكأنَّنا إزاء عملٍ يدور حول النوستالجيا وفقدان الكاسيت، وبساطة الزمن الجميل الذي بدأ بسقوطِ جدار برلين، وحرب الخليج الثانية، وليس انتهاءً بخسارة البرازيل لكأسِ العالم لصالح الفرنسيس (واللاعبون أفارقة!). والحق أنَّ الفيلم لا يثيرُ أيَّة مشاعر من هذا القبيل ولا يحاول استدرار عواطف الجمهور، بل يقدِّمُ سرديته بتقشُّفٍ جماليٍّ على مستوى الصورة من ناحية، وبواقعية قذرة (إلى حد)2 على مستوى الشخصيَّات وعلاقاتها ببعضها بعضًا.
يحكي الفيلم قصة بطله «صيفي» (أسامة القس) قائد فرقةٍ موسيقيَّةٍ شعبيَّةٍ لإحياء الأفراح وصاحب متجر «تسجيلات شريطِ الكون» لأشرطة الكاسيت، ومغامراته في تحقيق حلمه بالثراءِ السريع رفقة رفيقِ دربه «زرياب» (براء عالم). بالمقابل لدينا «رابعة» (عائشة كاي) طليقة (حبيبة سابقة؟) «صيفي»، والتي تعمل كـ «مرشدةٍ روحيَّةٍ» رفقة شقيقتها «رابية» (نور الخضراء). أمَّا على الجهة المضادَّة فأمامنا الشيخ «أسعد أمان» (أحمد يماني) أحد أغنياء مدينة جدَّة، والذي يبيِّض صفحته اجتماعيًّا بالأعمال الخيرية، وذلك بالاعتماد على مستشاره الديني «المهدي» (حسام الحارثي).
لطالما رأيتُ في محاولة قصِّ قصَّةِ أيِّ فيلمٍ ضربًا من العبثِ المحض الذي لا مفر منه أحيانًا، سواء كان ذلك كتابةً أم مشافهةً؛ فقصَّة أيِّ فيلم هي صورته. غير أنِّي هنا أعطي صورةً عامةً عن قصَّة الفيلم من باب التقديمِ السريع، والأهم من هذا هو الإشارة إلى ذكاء اختيارات أسماء الشخصيات في الكتابة: «صيفي» - ساخن، رطب، سريع الانزلاق؛ «زرياب» - فنَّانٌ شعبيٌّ يشدُّ الكف بالتصفيق في الأفراح؛ «رابعة» - وليست عدويةً بالطبع، فتصوّفها ذاهبٌ باتجاه الطبيعة والأحجارِ الكريمة وزيت الزيتون المخلوط بزيت الطعام؛ «رابية» - الوحيدة التي تقود أختها «رابعة» إلى نوعٍ من الراحة والاستقرار كما لو على رابية؛ «المهدي» - هدانا الله وإياكم؛ «أسعد أمان» - ومن أسعد من الشيوخ الأغنياء وآمَنُ؟… حقًا، آمن؟
يهتزُّ أمان الشيخ «أمان» عقبَ تسريب تسجيلٍ صوتي له، في شريط كاسيت، يتضمَّن كلامًا من الممكن أن يسيء إلى سمعته تمامًا وينقض كل «أعماله الخيرية» لو انتشر بين الناس. وبعد أن حاول «صيفي» أن يلعبَ دور «العَلَقَة» ويتسلَّق على قفا «المهدي» ليصل إلى الشيخ، أملًا في تحقيق الثراء، عبثًا - حيث كان «المهدي» ينفضه عن قفاه في كلِّ مرة - يقعُ، بمحضِ الصدفة، على شريط الكاسيت الفضائحي بين مجموعة الأشرطة في محلِّه عن طريق صديقه «زرياب». ومن أجل وضعِ الأمور في نصابها، فإن العلاقة بين «صيفي» و«المهدي» قائمة على أن يزوِّد الثاني الأولَ بأشرطة كاسيت لمحاضراتٍ دينيَّةٍ ممنوعة، يستفيد الثاني من بيعها بنسبةٍ شحيحةٍ بينما يستفيد الأولُ من انتشارها بين الناس. وسط هذه الكاسيتات الدينية كان كاسيت فضيحة الشيخ. وبوقوعه في يد «صيفي»، ثمَّة فائدةٌ له لو ابتزَّ «المهدي» وساومه عليه، وبهذا يحقِّقُ حلم الثراءِ الذي يريده، أما لو حاول «المهدي» أن ينفضه مرةً أخرى عن قفاه، كعهده معه، فإن «صيفي» سيدقُّ تلك القفا بالذات عبر نشرِ الشريط بين الملأ، والمُلام الأول أمام الشيخ هو «المهدي».
حول هذا تدورُ أحداث الفيلم دوران بكرة الكاسيت بـ«فرّار» (لا أعرف له اسمًا آخر، ولستُ آدمَ)3 المسجل. وكما أن للكاسيت بكرتين كذلك للفيلم؛ فالبكرة الأولى، كما أشرنا، تدور في فلك صراعِ «صيفي» و«المهدي»، بمقابل بكرةٍ ثانية تدور بين «صيفي» و«رابعة» في محاولة لاستعادة علاقته معها بعد فشله في تحقيق حلمِه بالثراء. هكذا نرى أن العلاقات تقوم على مصالح من جهة، وإزاحاتٍ عن مصالح من جهةٍ أخرى بين مجموعة الشخصيات: عَلَقٌ يستلقِ وأيدٍ تنفض عن قفاها العلق، والجميع يلعبون الدورَين ذاتهما على حسب الموقف. فـ«المهدي» الذي يتخلَّص ويزيحُ «صيفي» في كلِّ مرةٍ، ينقلبُ إلى عَلَقَةٍ في حضرة الشيخ أو سكرتيره.
ونشير هنا - بدخول عرضي - إلى ما لا تُخطئه عينٌ في العمل، أعني الأداءات التمثيلية. هنا برزت أداءاتٌ شديدة التميُّز، وخصوصًا أداء بطلا العمل «أسامة القس» (صيفي) و«عائشة كاي» (رابعة). إنَّ المعايشةَ العميقة التي قدَّمها الممثلان لشخصيَّتيهما، وتقديم اسم «القس» للساحة السينمائيَّة بهذا الدور (الأول سينمائيًّا على الأرجح) يمثل إسهامًا في مستقبلِ الصناعة، بما في ذلك الأدوار المساعدة لكل من «الخضراء» (رابية) و«الحارثي» (المهدي). واللافت أيضًا أننا - أخيرًا - شاهدنا «براء عالم» (زرياب) يقدّم دورًا يحمل درجةً من التعقيد بمعايشةٍ حقيقيَّةٍ وتقديمٍ أصيل.
موضوعنا، كما الفيلم، هو «صيفي»، ولئن أخذنا مقاربة "العلقة" في تفسير تصرُّفات الشخصيات، فإنَّنا لا ندين بهذا أو نستنقص (اكتم الضحكة)، بل نفعلُ ما يفعل عالم الحيوانات: إن العلقة، أو على الأقل بعض أنواعها، في حال شعرت بالخطر، قامت وتكوَّرت حول نفسها وتوقَّفت عن أيِّ حركة، إيحاءً منها لخصمِها بأنَّها قد ماتت. وهذا هو عين ما فعله «صيفي» بعد أن تلقَّى ضربةً قويَّةً من «المهدي»، إذ نشاهد هروب الأوَّل إلى البحر، في مشهدٍ يشبه العمادة الذاتيَّة، ومن ثم ينتقل إلى بيت (كابينة) «رابعة» ويجلس عند بابها كالمتسوّل طلبًا للقرب منها واستعادة العلاقة. وهذا، في الحقيقة، لافتٌ للنظر، فالرجل (بالمعنى العام) كلَّما استكبر وبطر على أنثاه، يظلُّ في بطره حتى إذا ما جاءت الدنيا عليه وضربته بقوَّة، عاد إليها وتكوَّر على نفسه، إيحاءً منه لها بأنَّه ميِّتٌ بدونها.
4ليتَ وهل ينفع شيئًا ليتُ
تسير سرديَّة العمل، من ناحية الشخصيات وعلاقاتها ببعضها بعضًا، بذكاءٍ شديدٍ وتوازنٍ في حضور الشخصيات. بل لعلَّ «صيفي» واحدٌ من الأفلام السعودية القليلة التي استطاعت الموازنة بين حضور شخصياتها بشكلٍ فعَّالٍ يخدم كل واحدةٍ منها على حدة، ويعطيها صوتها الكامل أو ما يقاربه. إلا أنَّها - أي السردية - من جهة سيرها الديناميكي في ترابط سابقها بلاحقها، تقعُ في حالةٍ من «الانفراط»، كما لو أنَّ شريط كاسيت انفرط وسط الأغنية (أو المحاضرة الدينية)، خصوصًا في انتقاله من قسم الصراع بين «صيفي» و«المهدي» إلى قسم «صيفي» و«رابعة». وفي الواقع، فإنَّني أعتقد أنَّ القراءة الأفضل للعمل هي قراءته بوصفه مجموعةً من الفصولِ القصيرة المتوالية، وقد تطولُ نسبيًّا، لسردِ قصَّة بطل العمل. ومن هنا نقول «ليت». وبالفعل «هل ينفع شيئًا ليتُ»، حسب الشاعر؟ إن من ثقالة الدم وضيق الأفق الإملاء على مُخرجِ عملٍ ما بأن يقالَ له لو فعلت كذا، ولو بدلت هذا بذاك… فالنقد هو إبراز محاسن ومثالب العمل في أضعف الإيمان، أو أقواه: بأن تفتح له شبابيك جديدة للتأويل؛ وهذا اجتهاد. أما دخول «ليت» في النقدِ فهي كدخولِ الغراب بين اليمام. إلا أنَّني سأكون الغراب، مع ذلك، للأسف: ليت العمل قُسِّم بوصفه فصولًا، بعناوين واضحةٍ وتقسيماتٍ تحدِّد للمتفرج انتقاله من ألف إلى باء، في سبيل أن يندمجَ بشكلٍ أكبر. ومدعاة ذلك عندي أنَّني تحسَّرت على فوات العمل على عددٍ من مُشاهديه، فبنظرةٍ سريعةٍ حول آرائهم تجدُ أن الغالبية منهم شعرت بذلك «الانفراط» في انسيابيَّة العمل فنفضت يدها منه، حاكمةً عليه بالرداءة. والحق أنَّه ليس بهذا السوء؛ وأي نعم، ولا بتلك الجودة: إلا أنَّه، وهذا هو الأهم، صوتٌ سينمائيٌّ مميَّز وُفِّق في الموازنة بين الجماهيري الخفيف والمُستقلِّ الساخر.