يقدِّم أندريه بازان في كتابه "ما هي السينما؟"، في الفصل المُعنون" الويسترن الفيلم الأمريكي بامتياز"، تحليلًا عميقًا لهذا النوع من الأفلام. يرى بازان أن الويسترن ليس مُجرد نوعٍ سينمائي (Genre)، بل هو تعبيرٌ ثقافيٌ يمتدُّ إلى جوهر الهويَّة السينمائيَّة الأمريكيَّة. يختزلُ الويسترن تاريخَ السينما الأمريكية، حيث كان حاضرًا بقوَّة منذ بدايات السينما الصامتة، كما يظهر في أفلام مثل "سرقة القطار الكبرى" (The Great Train Robbery - 1903) و"العربة المغطاة" (The Covered Wagon - 1923)، التي عبّرت عن الروح التأسيسية لهذا النوع.
مع منتصف وأواخر الستينيات، أضاف مخرجون إيطاليون مثل سيرجيو ليوني بفيلمه "الطيب والشرس والقبيح" (Il buono, il brutto, il cattivo - 1966) وسيرجيو كوربوتشي بفيلمه "جانغو" (Django - 1966) بُعدًا جديدًا للويسترن. حيث قدموا رؤيةً أكثر واقعيَّةً وقتامة عَرضت الغرب الأمريكي كعالمٍ يسوده الجشع والفساد، بدلاً من المثالية التقليدية، وأصبحت الشخصيات الرماديَّة، التي تحرِّكها المصالح الشخصية، محور السرد بدلًا من الأبطال المثاليين.
يُبرز هذا التحول الذي استشرفه بازان (توفي عام 1958) قدرة أفلام الويسترن على التطوُّر والتكيُّف مع التحوُّلات الاجتماعية والثقافية، مما يجعلها نوعًا سينمائيًّا دائمًا ومتجددًا. يُعالِج الويسترن موضوعاتٍ إنسانيَّةً عالميَّةً تتجاوزُ حدودَ المكان والزمان، ما يُفسِّر نجاحَه في مخاطبة جماهيرَ متنوِّعةٍ حول العالم.
جذور الويسترن والسينما
ساهمت الروايات والعروض الشعبيَّة قبل ظهور السينما في تأسيس أسطورة الغرب الأمريكي كفضاءٍ للمغامرات والصراعات البطولية، حيث لعبت روايات، كرواية "آخر الموهيكيين" (The Last of the Mohicans - 1826) لجيمس فينيمور كوبر، دورًا أساسيًا في تشكيل هذه الصورة، وذلك عبر تصويرها للمواجهات بين المستوطنين والسكان الأصليين. كما أسهمت عروضٌ مثل "وايلد ويست شو" التي قدَّمها بوفالو بيل كودي في تعزيزِ هذه الصورة. علاوةً على ذلك، كان لروايات زين غراي، كرواية "فرسان الميرمية الأرجوانية" (Riders of the Purple Sage - 1912)، دورًا في تعزيز صورة الغرب بوصفه فضاءً للمغامراتِ والبطولة، بحيث أصبحت هذه الصور والمفاهيم جزءًا لا يتجزَّأ من وعي الشعب وثقافتِه البصريَّة.
بالعودة إلى بازان، فإن حُضور السينما - بصفتها فنًّا شعبيًّا يستهدفُ جميع فئات الشعب، بما في ذلك العديد من المهاجرين الجدد الذين لم يكونوا متقنين للُّغة الإنكليزيَّة - قد فَرضَ اللجوء إلى لغةٍ بصريَّةٍ يفهمُها الجميع، تعتمدُ على الحركة والإثارة للتعبير البصري (من هنا ربما جاء تعبير "motion picture" لوصف الأفلام). كانت أفلام الويسترن هي الأقدر، من خلال مَشاهد مطاردات الخيول والمعارك، على مُخاطبة هذه الشرائح الواسعة من الناس. وعلى الرغم من أن أنواعًا سينمائيَّة أخرى قد استفادت من المناظر الطبيعية، يبقى الويسترن فريدًا بقدرته على دمجِ هذه المناظر كجزءٍ من الصراع الدرامي، حيث تُعبِّر المدينة الصغيرة عن الحضارة التي تُحاول التمسُّك بالاستقرارِ في مواجهة الفوضى التي تحيط بها، كما أنَّ هذه الطبيعة بقسوتها تعكس هذا الصراع الملحميَّ بين الإنسان والطبيعة.
في سياقٍ تاريخيٍّ مختلف، ساهمت أفلام الغرب في تعزيز الصورة التي كانت تعمل الثقافة الأمريكية على نشرها: صورة أمريكا بوصفها أرضَ الأحلام والحريَّة والمغامرة، ممَّا أضاف بعدًا رمزيًا يعزِّز من متعةِ نقل المتفرِّج إلى عوالمَ جديدة.
استمراريَّة وتطوُّر أسطورة الويسترن
تتميَّز هذه الأفلام بتصويرها لحكايات تنبع من الأسطورة الشعبية الأميركية، مثل الشجاعة في مواجهة المخاطر وتحدي الطبيعة القاسية، فحكاياتها موجودةٌ قبل ظهور السينما في الأدب كما أسلفنا. ومع ذلك، يختلف تأثير هذه القصص المكتوبة عن تأثير الأفلام، حيث توسعت السينما إلى جمهورٍ عالمي أوسع، مُحوّلة الحكايات المحلية إلى رموز عالمية. بالنسبة لبازان، يَرتقي هذا المزجُ بين الواقعية الدقيقة لحياة الغرب الأمريكي والرمزية الأسطورية بأفلام الويسترن من مُجرد توثيقٍ تاريخي إلى تعبير عن قضايا إنسانية كونية.
تشبهُ أفلام الويسترن، كما يقول، "المنمنمات" في الكاتدرائيات، فهي تجعل القصص الأسطوريَّة متناغمةً مع الخيال، وتصبحُ ذات أبعادٍ أكبر تُناسبُ حجم الشاشةِ السينمائية.
شهدت السينما العالميَّة مع بداية ثلاثينيَّات القرن الماضي تغيُّرات جذريَّة نتيجة التحوُّلات الاجتماعيَّة والثقافية، إلا أنَّ أفلام الويسترن ظلَّت مرنةً وقادرةً على التكيُّف مع تلك التأثيرات دون فقدانِ هويَّتها. يرى بازان أنَّ التأثيرات الخارجيَّة التي تَعرَّض لها الويسترن هي أشبه "بلقاحات"، فقد أسهمت في تشكيل النوع وإثرائه دون المساس بجوهرِه الأساسي. على صعيد آخر، لعبت التطوُّرات التقنيَّة دورًا كبيرًا في تعزيزِ الطابع الأسطوريِّ لأفلام الويسترن، حيث ساعد التصويرُ الملوَّن واستخدام الكاميرات المتنقِّلة على جعل الشاشة أكثر قُدرةً على تجسيدِ عظمة القصصِ وتفاصيلها، ممَّا أضاف أبعادًا بصريَّةً جديدةً إلى هذا النوع. ومع ذلك، بقيت بعض الأفلام الأقل تكلفة، والمُوجهة للسوق المحلي، وفيَّةً لجذور الويسترن التقليديَّة، مُقدِّمةً قصصًا بسيطةً تحمل عمقًا أسطوريًّا، ما عزَّز من استمرارية هذا النوع السينمائي. أخيرًا، يُبرز بازان أيضًا أهميَّة الزمن في الويسترن، حيثُ تُضيف المَشاهد الطويلة للمُطاردات إحساسًا واقعيًا بالزمن، ممَّا يتيحُ للجمهورِ الاندماجَ الكاملَ مع الشخصيَّات وقصصِها.
مفارقات الأخلاق والعدالة في قصص الويسترن
ما يميز الويسترن عن غيره من أنواع السينما ليس فقط قدرته على تصويرِ صراعاتٍ إنسانيَّةٍ عالميَّة، بل أيضًا عُمقه التراجيدي. وفقًا لبازان، فإنَّ البطل الغربي في هذه الأفلام يخوض صراعًا ضدَّ قوى الفوضى الخارجيَّة، وصراعًا أخلاقيًا داخليًا، وهو ما يمنحُ هذه الأفلام بُعدًا تراجيديًا.
يشير بازان إلى هذا التوتُّر بين الأخلاقيات الفرديَّة وسيادة القانون، حيث قد لا يكون المأمورُ، المُكلَّف بحفظِ النظام، أفضلَ من الخارج عن القانون الذي يُطارده. يشكِّل هذا التوتُّر جوهر القصة. فغالبًا ما يكونُ البطل شخصيَّةً وحيدة، يعيشُ في المساحة الغامضة بين هاتين القوَّتين. يعملُ البطل في كثيرٍ من الأحيان خارج حدودِ القانون الرسمي، ولكنَّه في نهاية المطاف يعملُ لإقامةِ النظام أو الدفاع عنه في عالمٍ تَعمُّه الفوضى. يخلقُ هذا التوتُّر ديناميكيَّة جذابة، تُسلِّط الضوء على هشاشةِ الحضارة والتضحيات المطلوبة للحفاظِ عليها.
يمكنُ اعتبار المَشاهد الأيقونية للغرب - التي يواجه فيها رجلان مسلَّحان بعضهما البعض والناجي هو الأسرع - تجسيدًا لهذه القيم؛ ففي الغرب عليكَ أن تعتمدَ على نفسك، ولا يمكنك الاعتماد على أيِّ شخصٍ آخر، ولا حتى على الحكومة.
إذًا تمثِّل العلاقة بين الأخلاقِ والقانونِ جزءًا رئيسيًا من قصص الغرب الأمريكي؛ إذ يظهرُ القانون كوسيلةٍ لضمانِ النظام في المجتمع، ولكنَّه في كثيرٍ من الأحيان يكون غير عادلٍ، حيث يفرضُ قواعدَ صارمة قد تتجاهلُ المزايا الفردية أو الظروف المخفيَّة لبعضِ الشخصيات، ممَّا يؤدي إلى تطبيق العدالة بشكلٍ سريعٍ وصارمٍ دون محاكمة عادلة.
يلاحظ بازان أنَّه غالبًا ما تُظهِر الشخصيَّات التي قد تبدو مشكوكًا في أخلاقها، مثل العاهرة أو المقامر، شجاعةً وسموًا أكثر من الشخصيَّات "المرموقة" اجتماعيًا مثل المصرفي. يُوضح بازان أنَّ هذه الشخصيات "الخارجة عن القانون" تمثِّل فضائلَ الولاء والشجاعة، في حين أنَّ الشخصيَّات المرموقة قد تنخرطُ في سلوكيَّاتٍ غير أخلاقية.
في هذه الأفلام، يُنظر إلى الهنود الأمريكيين على أنَّهم بشرٌ مُتأقلِمون مع الوحشيَّة الطبيعية، بينما يُصوَّر المستوطنُ الأبيض المسيحيُّ على أنَّه الشخص الذي يفرض النظام الأخلاقي والتقني على الأرض الجديدة. وفقًا لبازان، يمكنُ اعتبار هذا التوتُّر بين الأخلاق الفردية والقوانينِ الاجتماعيَّة تعبيرًا عن تأمُّلٍ أعمق حول مكانةِ الإنسان في الكون وصراعه مع معايير يفرضُها الوجود نفسه.
النساء في الويسترن
تحتلُ المرأة مكانةً محوريَّةً في هذه الأفلام، فغالبًا ما تكون المرأة إمَّا عذراء طاهرة يمرُّ البطلُ بمِحَنٍ عديدةٍ للفوز بحبِّها، أو فتاة صالونٍ تُضَحِّي بنفسها من أجل سعادةِ البطل. تتجلَّى الأسطورة في تصوير النساء بشكلٍ يجعلهنَّ عنصرًا مركزيًا في النسيج الأخلاقيِّ للقصة، سواء كنَّ رموزًا للفضيلةِ أو للتضحية. في حين أنَّه غالبًا ما يمثِّلُ الرجال شخصيَّات الأشرار، أو أولئك الذين يحتاجون إلى التكفير عن ذنوبهم.
تتمثل أحد العناصر المركزية في فكرة أن أفضل الرجال في هذه الأفلام لا يمكنهم استعادة فضيلتهم أو تطهير أنفسهم إلا من خلال المرور بتجارب معينة. تستدعي هذه الفكرة المقارنة مع قصة آدم وحواء من الكتاب المقدس، حيث أغوت حواء آدم، لكن المفارقة في الأفلام الغربية هي أن سقوط الرجال الأخلاقي غالبًا ما يكون نتيجة لعلاقاتهم مع النساء، بدلاً من أن يكونوا هم مصدر الإغواء.
تستند هذه الفكرة إلى الواقع الاجتماعي والسوسيولوجي لمجتمع الويسترن، حيث كان حضور النساء في تلك المجتمعات نادرًا، وكان الحفاظ على حياتهنَّ يُعتبر جزءًا أساسيًا من استمراريَّة المجتمع في بيئةٍ قاسيةٍ وخطرة. وُضِعَت الكثير من العقوبات لمواجهة أيِّ ضررٍ قد يلحق بهن، إلا أنَّ هذه العقوبات لم تكن كافيةً لضمان احترام النساء، بل كانت الأسطورة والرمزيَّة الأخلاقيَّة هما ما يُضفي على المرأة تلك الأهميَّة في المجتمع.
ختاماً، ومع مرور الوقت وتغير القيم المجتمعية، تغيرت أيضًا السرديَّات والصور النمطيَّة لهذا النوع. كان الغرب في أيَّامه الأولى مُحتفيًا بالغزو والتقدُّم، وغالبًا ما تمَّ تصوير السكان الأصليين والمجموعات المُهمَّشة الأخرى كعقباتٍ أمام الحضارة. لكن مع تطوُّر هذا النوع، بدأ في استجواب هذه السرديات وقلبِها، مُقدّمًا رؤى أكثر دقةً و تحليلًا لتاريخِ وأساطير الغرب. بحلول سبعينيات القرن الماضي، ومع تصاعد شكوك الجماهير تجاه أساطير أفلام الغرب وصورها النمطية، ظهرت أفلامٌ مثل "العصابة البرية" (The wild bunch - 1969) لسام بيكينباه و"أرض ميزوري الوعرة" (Missouri Breaks - 1976) لآرثر بن التي عملت على تفكيك هذا النوع، كاشفةً عن تعقيداته الأخلاقيَّة وعن عدم دقَّته التاريخية. عكست هذه الأفلام تحوُّلًا ثقافيًا أوسع، حيث بدأ الأمريكيون يواجهون ماضي أمَّتهم ويطرحون تساؤلاتٍ عميقةً حول السرديات التي شكَّلت هويَّتهم لسنواتٍ طويلة. وعليه، ليس من قبيل الصدفة إذًا أن يكون أحد رؤساء أمريكا السابقين نجمًا في أفلام الغرب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش