مقالات

«أوراق ميتة»: الحب بوصفه مخرجًا من التعاسة

لم يتوقف رثاء المخرج الفنلندي آكي كوريسماكي للطبقة العاملة منذ تحقيق ثلاثيته «ظلال في الفردوس» (1986) و«أريل» (1988)، و«فتاة مصنع الثقاب» (1990) في مجتمع مدينة هلسنكي، وبرغم إعلان اعتزاله في عام 2017 بعد العرض الأول لفيلمه السابق «الجانب الآخر من الأمل»، يعود هذا العام في «أوراق ميتة» للحديث عن ظلم العمال في تتمة أخيرة للثلاثية التي أطلق عليها اسم «ثلاثية البروليتاريا».

في جميع أعمال آكي كوريسماكي، تبدو هلسنكي متشابهة للغاية، حيث تدور أفلامه عن المنبوذين والمهمشين، وتجري في العالم السفلي للمدينة، بعيدًا عن المناطق المزدحمة والسياحية. وبرغم اتهامه بتقديم صورة لم تعد موجودة عن فنلندا، واستخدام المَشاهد الخارجية لعرض صورة أكثر جمودًا وقسوة، فإن فيلمه الجديد يدور في مدينة هلسنكي الحديثة، وإن كان به هواتف قديمة وأجهزة الراديو ومقهى إنترنت والسترات الجلدية والشعر المنسدل ومظهر عتيق لمفروشات وملابس المتاجر المستعملة.

يفتتح كوريسماكي فيلمه في أول لقطة على موظفة رفوف في سوبرماركت تُدعى أنسا (ألما بويستي)، تلتقط بعض الأطعمة التي لا تزال صالحة للأكل من صندوق القمامة، وتسمح للفقراء بمساعدة أنفسهم في الحصول على هذا الطعام، فيواجهها رئيسها قائلًا: «لقد كنت تحت المراقبة» ويقوم بطردها. تتضامن معها صديقتها ليزا (نوبو كويفو) وتستقيل من العمل. تحصل أنسا بسهولة على وظيفة جديدة في غسل الأطباق في إحدى الحانات، ومع ذلك، في يوم الدفع، يتم القبض على رئيسها من قِبَل رجال الشرطة بتهمة بيع المخدرات أو الحشيش من دون أن تحصل على أول شيك لها. وأثناء خروجه، يصرخ في وجهها بطريقة مازحة: «خذي إجازة لمدة أسبوع. خذي أسبوعين».

لا يوجد كثيرٌ من الأحداث ولا أشرار في هذه الحكاية. تعيش أنسا حياة رتيبة ومكررة، وبالكاد تأخذ قسطًا من الراحة، حيث تحاول كسب المال للحفاظ على الشقة التي ورثتها عن جدتها. إنها لا تستطيع حتى جمع  المال الكافي لإبقاء الإنارة مضاءة. ونسمع من خلال الراديو القديم حينما تعود إلى المنزل، أخبارًا عن غزو روسيا لأوكرانيا، في إشارة إلى الأزمة الحالية وانعكاس الأحداث السياسية على العمال. وفي موازاة قصة أنسا، نتعرف إلى رجلين يعملان في ورشة، أحدهما اسمه هولابا (جوسي فاتانين) يقضي أيامه في تنظيف الأدوات المعدنية، ويُطرد باستمرار من عمله بسبب إدمانه الكحول.

يعاني هولابا من اكتئاب ينجم عن شربه المستمر. وتخضع أنسا لنمط العيش القهري الذي يحكم عليها بالوحدة والموت مللًا. يسلّم الاثنان نفسيهما للحياة اليومية في صمت. تبدو شخصيات كوريسماكي أقرب إلى لوحات إدوارد هوبر، حيث تحدق طويلًا إلى الفراغ وكأنها توشك على البكاء. تعبس وتدخّن وتفكر وتتوقع الأسوأ. غير أن مسار حياتهما يتغير في الحانة بعد لقائهما، وفي تلك اللحظات المحددة، لا يتحدثان مع بعضهما، لكن النظرات التي يتبادلانها للوهلة الأولى كافية لإشعال العاطفة داخلهما، فكلاهما يبحثان عن الحب ولكنهما غير متأكدين منه، ومترددان في الاستسلام له.

يغمر كوريسماكي فيلمه بهالات من إضاءة «فيلم نوار»1 المعتادة لتصوير الشوق والوحدة والعاطفة المتزايدة، ويتنقّل بين وجهات نظر أنسا وهولابا، حيث يقضيان معظم وقتهما بمفردهما، ويعتمدان على نفسهما يوميًا.  لديهما تاريخ حزين، وأحلام يحتاجان إلى مشاركتها قبل أن ينسياها، ولكن وضعهما الاجتماعي وسلوكهما يقود إلى إبعادهما عن المجتمع، فيما تزداد محبتهما لبعضهما.

يستطيع كوريسماكي دومًا أن يطمئنك حتى وأنت تشاهد شخصياته تخوض صراعًا شديدًا في مجتمع غير مكترث، فهو لا يضع أبطاله في مواقف صعبة لكي يراهم يعانون، وإنما لكي يبحث عن الأمل. ومن هنا فإن أنسا تعمل بوصفها رمزًا للعامل الذي أصبح قانعًا بعدم امتلاك كل شيء، لكن هذا لا يعني التخلي عن الملذات البسيطة أيضًا. لذا يتطور اللقاء القصير بين أنسا وهوبلا إلى شيء أكثر روعة بالنسبة إليهما، حيث تجد أنسا قدرًا من الرضا برفقته، ويبدأ هولابا، الذي ليس لديه أي نية في التخلي عن المشروبات الكحولية من أجل امرأة التقى بها في حانة ما، بمراجعة نمط حياته حين يدرك أن هناك شيئًا لا يمكن للمشروب تعويضه. ليس هناك قبلة، ولا تلامس بين العشاق في الفيلم بأكمله، ولكن ثمة أمل لهذه النفوس الضائعة، وعديد من أغاني الحب الجميلة التي تتخلل كل اللقاءات. يعرف كوريسماكي أن الرومانسية الحقيقية هي عندما يجد شخصان هذه السعادة النادرة معًا، على الرغم من كل شيء. وطبعًا هذا الإحساس بالتعاطف الاجتماعي لا يعيق كوريسماكي عن طرح النكات السوداء، والتهكمات العبثية، والتي تقول كثيرًا عن الشخصيات في لحظات قليلة أكثر مما تستطيع ساعات من العرض.

في الموعد الغرامي، يوجه كوريسماكي تحية ظريفة إلى مخرج متمرد مثله، حيث يدعو حبيبته إلى السينما لمشاهدة أحدث أفلام جيم جارموش «الموتى لا يموتون»، ويخرج مشاهدان من صالة السينما فيقول أحدهما للآخر: هذا يذكّرني بفيلم بريسون. والآخر يرد عليه: بل يذكّرني بغودار. وفي لحظة الوداع، تعطي أنسا رقم هاتفها لهولابا على قصاصة من الورق. ولكن الورقة تنزلق فجأة من جيبه ولا يعرف عنها شيئًا أبدًا. تتساءل أنسا عن سبب عدم اتصاله فيما ينشغل هو في العثور على وظيفة جديدة. وهكذا، بعد أول موعد، تمنعهما سلسلة من العوائق المؤسفة مثل فقدان رقم الهاتف، وعدم معرفة أي من الطرفين اسم الآخر، وإدمان هولابا للكحول، من إعادة الاتصال. ولكن مسارات حياتهما تتقاطع في النهاية، ويتجاوزان الإحباطات الشخصية والمجتمعية، وكل الحوادث الصغيرة والمراوغات المتعلقة بالرومانسية والتي تعرقل اللقاء والوقوع في الحب. قد لا يكون هذا تحفة كوريسماكي، لكنه بالتأكيد فيلم كوريسماكي بكل معنى الكلمة، ولديه القدرة على جعلك تضحك وإبهاجك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

1. فيلم نوار (film noir): نوع سينمائي ظهر في الأربعينيات يتسم بالإضاءة المظلمة والحوار الخالي من العاطفة والحبكات المعقدة وزوايا التصوير المثيرة للإرباك والنظرة التشاؤمية للحياة.
أ. محمد الكرامي
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا