مقالات

«أوراق متساقطة»: سينما الهشاشة والضعف الإنساني

بسينماه ذات النزعة الإنسانية العالية يُواصل المخرج الفنلندي آكي كاوريسماكى1 مشواره السينمائي بدأب ونجاح، إذ يمتلك أسلوبًا رفيعًا، ولغة سينمائية خاصة تضعه في مصاف فنانين السينما الكبار. ينطلق من موضوعات محدّدة بتنويعات مختلفة، محققًا مشروعًا جماليًا وفكريًا ذا رؤية شاملة عن الحياة، حيث تدور أغلب أفلامه عن المهمشين من العمال، والمهاجرين، والوحيدين الضائعين، وما تنطوي عليه حياتهم من آلام وتعاسة، فهو يحاول أن يبثّ الرحمة، ويقيم العدالة بين البشر كملاك دون الوقوع في فخ السياسي الدعائي.

تمتاز الدراما لدى كاوريسماكي بسياسة متقشفة حيث تحرص على التركيز الكامل داخل الإطار الأساسي وتقطع كل ما هو زائد خارج الكادر، مُقتصرة على الأسلوب البصري والتعبير الفني بمعنى أعمق من مجرد الحوارات. تعكس هذه السينما الشاعرية جمال الإيقاع الهادئ الذي يسمح بانغماس الجمهور في تجربة فنية تشبه قصيدة متحركة.

ثمة ولع لدى كاوريسماكى بالموسيقى كلغة تعبيرية، يستعيض بها عن الحدث الغائب من زاوية، ويعطى المتفرج مساحة للتأمل والتفكير من زاوية أخرى. تشيع لديه أيضًا روح السّخرية التي لا تتخلل الحوار فقط وإنما تُحيط بأجواء الدراما. أفلامه من حيث التصنيف أقرب إلى الكوميديات السوداء، وشخصياته معزولة، هامشيّة، تحمل طهارة الضعفاء ونبل القدسيين، تقاوم بشاعة العالم بالحب، دائمًا ما تحاول أن تبنى لها حياة جديدة إزاء كابوس الواقع، واستبداد الأقدار. يتعمّد الإكثار من المصادفات، ليس من باب سهولة الكتابة، فهو يتغاضى قليلاً عن المنطق العقلي ليفتح بابًا للحلم والأمل أمام أبطاله، حتى يتمكنوا من الوقوف على أقدامهم ومواجهة العالم.

معروف أن آكي كاوريسماكي لم يتعلّم السينما على نحو أكاديمي، إنما بروح الهاوي ومثابرة المحترف ثقّف نفسه. بدأ حياته المهنية ناقدًا سينمائيًا وممثلاً، والتحق بالعمل مع أخيه الأكبر في شركة  للإنتاج السينمائي، ثم بدأ مشروعه بفيلم «الجريمة والعقاب» (1983) Crime and Punishment المقتبس من رواية دستويفسكي، ثم توالت محطاته السينمائية وأهمها أفلام «فتاة المصنع» (1990) The Match Factory Girl و«رجل بلا ذاكرة» (2002) The Man Without a Past و«الجانب الآخر من الأمل» (2017) The Other Side of Hope ومؤخرًا «أوراق متساقطة» Fallen Leaves وهو فيلمه الجديد الحائز على جائزة لجنة التحكيم من مهرجان «كان» عام 2023. تُعدّ حصيلة إسهاماته عشرين فيلمًا بين الوثائقي، والقصير، والروائي الطويل، ويُعتَبر الوجه الأبرز في صناعة السينما ببلده.

قصة حب.

بخيط واحد يحوك كاوريسماكى عالمه الدرامي في فيلمه الأخير، حيث يتتبّع حياة عاملة أنسا (ألما بويستي)، عاملة متجر، وهولابا (جوسي فاتانين)، عامل بناء. وحيدان وتعيسان، لكن يتقاطع مسار حياتهما بالمصادفة، فتنشأ بينهما قصة حب. من هذه الحكاية البسيطة يطرح كاوريسماكي أسئلة كبيرة عن الحب والوحدة والصراع الطبقي. يصوغ عالمًا من الهشاشة والضعف الإنساني، فإن بطلَي الفيلم -مجازًا- هما بطلان على الشاشة فقط في حين لا نكاد نراهما خارجها. هما مهمشان، محبطان، لا جديد ينتظرانه في المستقبل. يشبهان أوراق الخريف؛ أقل هبّة هواء تسقطهما.

على شريط الصوت تحاصرهما كوارث الحرب الروسية الأوكرانية، في حين أنهما في الداخل يخوضان حربًا خفية تقودها أنظمة رأسمالية على المواطن. مثل مُعارض خفي يضع كاوريسماكى تحت لقطاته قنابله الموقوتة. في المشهد الأول تأكل البطلة أطعمة المتجر منتهية الصلاحية، فتُطرد من العمل لذلك. في المقابل يُفصَل هولابا من العمل بسبب إدمانه الشّراب، فيتحول إلى مشرّد. إنّه يدين أنظمة سياسيّة تقتات من جسد الإنسان وروحه، وتدّعى -يا للمفارقة- أنها بلاد الرفاه الاجتماعي.

أليس هنالك طريق للخروج من الهاوية؟

ينجح المخرج في العبور ببطليه إلى بر الأمان بمنطق الفن لا بقانون الواقع، إذ ينجو البطل من حادثة قطار مفتعلة غير أنها ذات ضرورية درامية، حيث كانت ذريعة للقاء الحبيبين مرة أخرى. في آخر مشهد يسيران في طريق مُعشب في منظر عام، تُحيطهما الأشجار، وتكللهما أضواء الشمس. تتعقبهما الكاميرا من الخلف، تاركين تجارب الماضي، ناظرين إلى أحلام المستقبل، فالخلاص يأتي عبر الإيمان بالجمال، والحب، والتعاضد والتآزر بين المستضعفين.

السينما الخالصة.

سينما كاوريسماكى تبتعد عن الحكائية، والخطابية المسرحية، ولا تقطع الصلة بهما أيضًا. هي مثل الشعر: تأخذ جوهر الحكاية، وأقل ما يمكن من الحوار، لتفسح المجال كاملاً للتعبير بالصورة، حتى تفتح أمام المتفرج حالات لانهائية من الرؤى والمعاني والمشاعر، فالكلمة يقين، والصورة عالم مفتوح من التأويل.

طوال الفيلم نرى وجهَي البطلين كتابًا مفتوحًا على حالات من اليأس القصوى، والعطش للمسة حب. حينما تدعو البطلة عشيقها على العشاء يتشاجران نتيجة إفراطه في الشّراب، فيتركها، لكنها لا تلجأ إلى الصراخ والبكاء. فقط ترمى أطباقه في القمامة. هذا الموقف البسيط، أو سوء التفاهم، هو عقدة الفيلم. البساطة والرهافة هما عنصرا بناء سرديته. ليس مهمًا لدى كاوريسماكي أن يروى ملحمة أو رواية ضخمة. المهم أن يصل إلى المعنى ولو من دون حكاية أصلاً.

ما هي إذًا أدواته التعبيرية؟ إنه يشيّد من العُقد الصغيرة أسطورة كبيرة، من خلال التكوينات الموحية الشاعرية، والأغنية التي تأتي بوصفها استراحة سردية تارة، وبديلاً للموقف الدرامي المحذوف ضمنيًا تارة أخرى، كما يستخدم الإضاءة بذكاء ملموس: مرة تأتى كابية، وذات ظلال أقرب إلى الظلام تعبيرًا عن شحنة من مشاعر الوحدة والحزن الطاغي، وأحيانًا تكون مبهرة، وساطعة حد الفضيحة مثل مَشاهد العمل الشّاق للبطلين، فإن أجساد العُمّال تُنتهك أمام الجميع ولا تستوقف أحدًا، في حين أن عذابهم داخلي، ويحاصرهم في الغُرف. أحيانًا يُسلّط لقطاته المقرّبة على وجوه أبطاله الضّاجة بالشكوى، مما يجعلنا نتماهى مع مأساة هؤلاء المعذبين. تذكرنا بوجوه المخرج بيرغمان الحزينة المعقّدة التي يحاول سبر أغوارها بالتركيز عليها صامتة أحيانًا، ويدعها تتحدث بإفراط غالبًا باستخدام تقنية التغريب البريختي، لأنه قادم من عوالم المسرح.

يستخدم كاوريسماكي أيضًا كاميرا ثابتة على الدوام، حياديّة لا تورطنا في الحدث، بل تضع مسافة من الإيهام، كي تدعونا لإعادة التفكير والتساؤل عن قيمة الحب، والعمل، وإعادة النظر في مصير العمال، والطبقات المسحوقة، ومحاولة الإجابة عن تلك الأسئلة الوجودية.  

علاوة على ذلك يخلق زمنًا ماضويًا، يعبّرُ فيه عن حنينه الشخصي، وذوات أبطاله الرومانتيكية. زمن ما زال الناس فيه يرتادون دور السينما، ويناقشون مسائل فنية عن غودار وبريسون، وينصتون إلى المذياع لمعرفة أخبار الدنيا. لديهم شغف قراءة الروايات العاطفية فيما وجودهم على حافة الخطر. فطرتهم الإنسانية تقودهم إلى أن الحب هو المعنى الأسمى في الحياة، ولا معنى للعيش من دونه، رغم أنهم ضحايا وحُطام بشر.

عاشقان ثالثهما الوحدة.

يوظف كاوريسماكى التوليف في صنع عالمين متشابهين ومنفصلين في آنٍ عبر عملية فصل ودمج بين حياتين. يضع كل مشهد عن أنسا يقابله آخر عن هولابا. ليست تلك تعاقبية اعتباطية بقدر ما هي محاولة إيضاح شقاء البطلين بمفردهما، وتشابه المشاغل الحياتية، والهموم الوجدانية، واحتياج كلٍ منهما إلى لقاء الآخر، لذا يتدخل ليُلقي لهما مصادفة غريبة تجمعهما في حانة، وتتصاعد الحكاية المفرّغة، فيتشاجران ويتصالحان في نهاية سعيدة.

المكان بدوره يقوم بمهمّة درامية، فبالرغم من أن الأحداث تقع في مدينة هلسنكي الكبيرة، فإن كاوريسماكي يُفرّغ المدينة من الزحام اليومي، والمصانع، والمباني الشاهقة، فتبدو مثل قرية نائية. بطلا الفيلم يسيران في شوارع شبه خالية، وفارغة من الضجيج، ضائعين في مسيس الحاجة إلى رفيق. يفرض المكان عليهما وحشته وشروطه القاسية كمرآة عاكسة لمكنون ودهاليز عقليةِ ونفسيةِ مُهمشيه. يتجرّد المكان من موجوداته، مثلما تُصفّي الحكايةُ شخوصَها، فلا رحمة تأتى من جماد أو بشر، كأننا نسقط في بئر من الوحشة والعزلة.

جاء أداء الممثلَين الرئيسين ألما بويستي وجوسي فاتانين على درجة من الرقة والحساسية الفائقة، متماشيًا مع أسلوبية المخرج. يتكئان على نظرات العيون، والإيماءات الصغيرة، والأصوات الخفيضة، في أداء تلقائي دون تكلف أو افتعال، يعبّر عن  سجون المرء الداخلية، ممّا أضفى مصداقية وبساطة في التشخيص.

في النهاية، أقول إن أبطال كاوريسماكي يشبهونه، فهم مولعون بالشّراب والموسيقى والسينما، يجلسون في طرف قصيّ من العالم، ينددون بالظلم، يُحذِّرون من مصير البشرية المظلم، ويحلمون بأن ينصت إليهم أحد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

1. أكي كاوريسمكي (Aki Kaurismäki؛ أوريماتيلا، 4 أبريل 1957) كاتب سيناريو ومخرج سنيمائي ومنتج فنلندي.
أ. مازن حلمي
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا