مقالات

«ناب الكلب»: هوس السيطرة والتحكم من المنزل إلى العالم

يقدم الفيلم اليوناني «ناب الكلب» أو Dogtooth رحلة سينمائية مزعجة وشديدة الإرباك، من خلال قصة عائلة مضطربة في كل تفاصيل حياتها، ومن خلال الحوارات شديدة الغرابة داخل هذه الأسرة، وأداء الممثلين لشخصيات غريبة لا يوجد بينها شخصية يمكن القول بأنها تقترب ولو قليلاً من أنماط الحياة شبه الطبيعية للبشر، فالفيلم يمكن تصنيفه بأنه فيلم غير مناسب للأشخاص الذين ينزعجون من المَشاهد الغريبة والظلامية (أو المريضة!) في فيلم مربك نفسيًا بامتياز سيبقى بذاكرة مَن يشاهده طويلاً، ويطرح كثيرًا من الأسئلة التي ستبقى حتى النهاية معلقة بلا إجابة.  
أخرج الفيلم اليوناني يورجوس لانثيموس، والذي اشتُهرت له عدة أفلام تُصنف بأنها أفلام دراما نفسية تميل إلى الرعب والعنف النفسي، وهي أفلام مزعجة ومربكة بتفاوت مثل فيلم «قتل غزال مقدس» أو The Killing of a Sacred Deer أو فيلم «سرطان البحر» أو The Lobster، وفازت أفلام المخرج بأكثر من 58 جائزة سينمائية عالمية، إضافة إلى ثلاثة ترشيحات للأوسكار، اثنان منها عن فيلم «المفضلة» أو  The Favourite وذلك بترشيحه لجائزة أفضل فيلم وأفضل إخراج لعام 2019، إضافة إلى ترشُّح سيناريو فيلم «سرطان البحر» لجائزة أفضل سيناريو أصيل في 2017.
إضافة إلى المخرج، ساهم في كتابة النص الكاتب والممثل اليوناني إفثيميوس فيليبو، وقام بأداء الأدوار الرئيسة في الفيلم كريستوس ستيرجيوجلو في دور الأب، وميشيل فالي في دور الأم، وأنجيليكي بابوليا في دور الأخت الكبرى، وكريستوس باساليس في دور الأخ، وماري تسوني في دور الأخت الصغرى؛ الأدوار أُديّت على نحو مميز، حتى إن المُشاهد لا يكاد يشك بأن هذه الشخصيات مضطربة بالعمق ولا بأن هناك مستويات لا يمكن إصلاحها.  
يتناول الفيلم قصة عائلة تعيش في منزل كبير ومتوسط الفخامة محاط بأسوار عالية، يتضمن حديقة ومسبح، ويتحكم الأب بكل ما يدخل إلى المنزل، ولا يسمح لأحد بالخروج منه، فحتى الملصقات المكتوبة على المنتجات الاستهلاكية تُنزع، وهناك أدوات كثيرة استخدمها الأب بمساعدة الأم لفرض السيطرة على أسرتهم المكونة من ابن وبنتين، في حياة مغلقة تمامًا ومتحكَّم بكل ما فيها بصورة مربكة ومضطربة.
ليس للأسرة أسماء، فالعائلة مكونة من أب وأم، وأخت كبرى وأخت صغرى، وأخ، فمن البداية قام الأب بسلب أسرته هويتهم وبالتالي ذواتهم، لكن الأمر يبدأ هنا فقط، فمع مرور الوقت نكتشف أن أدوات السيطرة التي يستخدمها الأب، الشخص الوحيد من الأسرة الذي يحتك بالعالم الخارجي، تتضمن تقنيات أكثر تعقيدًا وفاعلية، يتواطأ الأب مع الأم لترسيخها، مثل اللغة، والأسطورة، والرعب، والضرب، والعزل، فعلى سبيل المثال، هناك تغيير لأسماء الأشياء التي قد تربطهم بالعالم الخارجي، أو لها دلالات جنسية، أو وسائل تواصل، فمعنى كلمة «هاتف» في عالم «ناب الكلب» هي «مملحة الطعام» والبحر هو كرسي موجود في الحديقة، ومعنى «مهبل» هو «مصباح إضاءة»، وعلى هذا المنوال يمضي التلاعب اللغوي، فالخطوة الأولى للسيطرة أن يكون الأشخاص بلا أسماء، وأن تكون الكلمات بلا معانٍ، لقتل أي إمكانية مستقبلية للتواصل مع العالم الخارجي.
لا يُسمح لأحد بالخروج من حدود المنزل إلا باستخدام السيارة، وإلا فإن «القطط» ستقوم بقتله وتمزيق جسده؛ القطط هنا كائنات أسطورية، متوحشة، منتشرة خارج محيط المنزل، وتقوم بالفتك بأي إنسان يمشي على قدميه، لذا فإن الوسيلة الوحيدة للنجاة هي الخروج باستخدام السيارة، الشيء الذي لا يتوفر إلا للأب وحده، فهنا منع الأسرة من الاحتكاك بالعالم الخارجي يتم عبر الترهيب، «أسطورة القطط المتوحشة»، والتأكيد على استخدام السيارات في التنقل، والحديث عن أخ موجود خارج السور، يبدو بأنه أخ رابع لم تُذكر قصته قط، إلا أننا نعرف نهاية قصته عندما يدخل الأب ملطخًا بالدماء مدّعيًا أن الأخ الهارب خارج السور قطعت جسدَه القطط، فالأسطورة هنا أداة ترهيب، وترسيخ للعزلة.
العائلة منقطعة تمامًا عن العالم الخارجي، فإضافة إلى منع الخروج من المنزل والتواصل مع العالم الخارجي، لا يُسمح للعائلة بمشاهدة التلفاز أو متابعة أي وسيلة إعلامية، حتى إن التلفاز يُستخدم فقط لعرض أشرطة الفيديو والتي يغلب عليها المحتوى الجنسي لمتعة الأب والأم وحدهما.
عندما يبلغ الابن، تظهر مشكلة أخرى مرتبطة بحياته الجنسية، المشكلة التي يحلها الأب على طريقته، من خلال الاتفاق مع عاهرة، كريستينا، لإجراء عملية تفريغ جنسية بحت تبدو خالية من أي مشاعر أو متعة، وكأنها إجراء علاجي، قبل أن تبدأ كريستينا بنقل أشياء من العالم الخارجي إلى داخل محيط الأسرة، ما يتسبب بطردها في نهاية المطاف، وتحول العلاقة الجنسية بين الابن وكريستينا لتكون بينه وبين أخته الكبرى! الأمر الذي يحدث لاحقًا بين الأب والبنت الصغرى أيضًا.
الإرباك في الفيلم لا يقتصر على العلاقات الجنسية المضطربة داخل محيط الأسرة، أو السيطرة المحكمة المفروضة عليها، أو الأساطير والألعاب التي تخدم هذا الغرض، فأداء الممثلين شديد الاضطراب، حتى إنك لا تشك بأن هؤلاء شخصيات مضطربة نفسيًا، فهم بشر، ولكنهم معزولون تمامًا عن البشر، وبالتالي تحكم تصرفاتهم الغرابة والإرباك، فطريقتهم في التسلية هي تناول مخدر يُدخلهم في نوم عميق، والفائز مَن يستيقظ أولاً، وفجأة تبدأ الأسرة بتدريبات طرد القطط «الأسطورية» من خلال النباح كالكلاب، وتصبح أغاني فرانك سيناترا هي أغاني جدهم الذي لم يروه ولا يفقهون لغته، ويصبح دليل الأسرة للعلاج من خلال كتب تقرؤها الأخت الصغرى عن الأمراض والتشخيص الطبي.
ويبقى السؤال الأهم هنا، لماذا أراد الأب السيطرة على عائلته وعزلهم عن العالم بهذه الصورة؟
وهذا السؤال بلا إجابة، فلا يبدو الأب معتنقًا لأفكار دينية متطرفة، ولا مهووسًا، ولا يعاني من الخوف من العالم الخارجي، لأنه يعمل في وظيفة ويخرج من المنزل للتسوق، فله حياة محدودة مشتبكة مع الآخرين خارج حدود أسرته، رغم أننا لا نكاد أن نرى تفاعله مع أحد خارج محيطها، وترْك هذا السؤال مفتوحًا بالطريقة التي تُرك بها، أي أننا نرى كل هذه الاضطراب في تعامل الأب مع أسرته دون معرفة السبب، يجعل الفيلم أكثر إرباكًا وإزعاجًا، فالسؤال الذي لن تجد له حلًا طوال الفيلم، لماذا يحدث كل هذا؟ ولكن لن تجد جوابًا عن هذا السؤال، فحتى أكثر الأشياء اضطرابًا يمكن أن تحدث بلا سبب، أو لأغراض مرتبطة بالحماية، أو شهوة التحكم والسيطرة، أو ببساطة لأننا لا ندري.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

أ. بدر الراشد
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا