في «غوثام»، لا تأتي السلطة بسهولة ولا تُبنى إلا فوق ركام الآخرين. بعد فيضانٍ هائلٍ ضرب مدينة «غوثام» في خاتمة فيلم «ذا باتمان» الأخير لمخرجه «مات ريفز»، فقدت المدينة ظلها لبعض من الوقت والذي من شأنه أن يسمح لنا باستكشاف ظلام غوثام الغارقة في حالة من الفوضى، مُتتبعين ما يحدث في الظلام بتتبع من رأينا في الفيلم أنه قد أتى، وأنه ينتمي إلى هناك؛ «أوزوالد كوبل بوت» أو «البطريق».
كان هذا ما دار في بالي لحظة الإعلان عن مسلسل « دي سي - DC» الأول، الذي يتناول ويطرح حال «غوثام» بعد الفيضان من جانب «أوزوالد» وعن سيرته وصعوده.
عند الحديث عن غوثام ووصفها بمدينة فقدت ظلها فإنه وبالطبع لا يمكن أن تحضر بذهنك أي صورة غير صورة «باتمان»، إلا أنه في «ذا بينغوين» كان الظل الغائب هو «كارماين فالكون» ولا أحد غيره؛ فمن بعده سقطت المدينة في حالة من الفوضى والفراغ الذي سمح لـ«أوزوالد»، ومنذ الدقائق الأولى، بالعمل سعيا للحصول على مكانة زعيمه السابق، أو ما هو أبعد من ذلك!
يبدأ المسلسل بمشهد «أوزوالد» وهو يقتل «ألبيرتو فالكون» في بدايةٍ كشفت عن جرأة وشراسة «البطريق» المصحوبة دائماً بالهشاشة والخوف المخفي. وعلى عكس الجميع، خوفه لا يدفعه للتراجع بل للانطلاق نحو أهدافه بسرعة تمنعه أحياناً كثيرة من إدراك العواقب، التي يتعامل معها دائماً، ولا تمنعه عقدة النقص العميقة بداخله عن الوقوف عند نقطة ما. نشأ «أوزوالد» في حياة تبدو قاسية من المظهر الخارجي، حياة غير مرتبة مع أمه وأخويه وإعاقة قدمه التي أكسبته لقبه «البطريق» الذي تحول بمرور الوقت من لقب للسخرية إلى إنسان صلب قادر على التكيف مع الظروف القاسية تماماً كما البطريق. «أوزوالد» هو نتاج بيئته؛ شكلته نفس القوى من الجشع والسعي إلى البقاء التي تميز «جوثام». قدرته على الصمود أمام الوحشية والنكسات، واستخدامها لصالحه، تجعله مرآةً مظلمة للمدينة نفسها.
ومن كونه تابعاً في عصابة «فالكون» تظهر شخصية «صوفيا فالكون» إبنة «كارماين» المحرَّرة حديثاً من مصحة «أركام» والمعروفة إعلامياً لغوثام بلقب «الجلاد»، تظهر ليس فقط للإعلان عن بدأ صراع للتحكم في عالم غوثام المظلم، صراعٌ يبدأ مع العائلة وينتهي مع أوزوالد، بل للانتقام. ورغم أن الصراع في مضمونه يبدو كأي صراع عصابات آخر إلا أنه كان يجب أن يكون ديستوبياً تماماً في مدينة تبدو على شفا الهاوية. فما بين سعي صوفيا للانتقام من عائلتها وبين تلاعب أوزوالد المستمر بالجميع كانت كل التفاصيل -ولست أتطرق إلى سردها جميعها باعتبار أنك شاهدت العمل مسبقاً- تكشف عن الثمن المُستحق للحصول على القوة في مدينة مثل غوثام وكيف عليك أن تقدم الخيانات والخسارات والتنازلات الأخلاقية وأن تتخلى عن جانب من إنسانيتك. ذلك الجانب الذي ربما فقدته صوفيا عندما اتخذت قرارها بالانتقام من عائلتها، وهو قرار قد يبدو مفهوماً، بل وحتى متوقعاً بالنسبة للمشاهدين، خاصة مع الأحداث التي قادت إلى «العشاء الأخير» للعائلة، الذي انتهى بقتلهم نياماً بالغاز فيما عدا الصغيرة «چيا ڤيتي» التي أرسلتها لما لا يختلف كثيراً عن محبسها في أركام، إلا في أنه كان ملجأ للأطفال. وحينما أرادت «چيا» الحديث عن ما فعلته «صوفيا» بعائلتها وأمها «كارلا»، ذهبت للتأكد بنفسها أنها لن تتحدث بشيء، في مشهد يعيد تكرار ما فعله والدها بها حين اتهمها بالجنون وأرسلها لمصحة أركام أو كما أحب أن أسميها «قلب المدينة الأسود».
إلى جانب «چوني فيتي» الذي كان الناجي الوحيد بعد الصغيرة من حادثة «عشاء آل فالكون الأخير»، والذي سنعود إليه لاحقاً. فأنا لست بصدد مراجعة أو سرد مرتب للأحداث بل إلى ما هو أقرب لاستغلال تلك الصورة التي ظهرت عليها «غوثام» في غيابٍ تامٍ للصورةِ المملة أحياناً بالنسبة لي عن العدالة. فبرغم ظهور عمدة غوثام وقوة الشرطة وعدد من الشخصيات المسؤولة بشكل أو بآخر عن إدارة المدينة إلا أن ظهورهم كان متماهيا بشكل مثالي مع الطبيعة السوداوية الغامضة أحياناً لعالم البطريق أو ما بعد الفيضان، سواء تحدثنا عن المحقق المرتشي أو عضو مجلس البلدية أو حتى عمدة غوثام «بيلا ريال» التي بظهورها السريع أثارت بعضا من الشكوك.
وبالرجوع لأوزوالد، فلا يمكنني وصفه بشيء غير أنه الشرير المثالي. تعددت شخصيات الشر في غوثام، فمنها من يملك دوافعا واضحة ومنها من هو مختل عقلي! يُطارد باتمان وخصومه بعضهم البعض في لعبة مستمرة من الكر والفر، تنتهي غالباً بوضعهم في السجن أو في «أركام» ومن ثم تشرق شمس العدالة فوق المدينة البائسة. رأينا كل ذلك ولم نقترب من الشر المطلق الذي لم يبلغ ذروته حتى الآن في غوثام. «مات ريفز» وفي جسد أوزوالد تحديداً، هو مثال ذلك الرجل من أفلام العصابات الذي يستطيع أن يكسب إعجابك للوهلة الأولى، لكن سرعان ما يزول هذا الإعجاب حينما تزداد رغبته وحاجته المستمرة للتحكم والحصول على القوة، كاشفاً تماماً عن طبقاتٍ من الصدمات والطموح والتصور الذاتي. ثم تبدأ باكتشاف أنه الشيطان كما وصفته أمه «فرانسيس كوب» التي تلهمه وتحمّله عبئاً في الوقت ذاته، وهو ما يجعله يعزز ولاءً عميقًا لها يصعب التخلص منه حتى مع التطلع لأهدافه الخاصة.
أثارت اهتمامي تفاعلات أوزوالد مع والدته التي في أحيان كثيرة كانت تكشف عن طبقات من التبعية والشعور بالذنب والغضب المكبوت. علاقتهما تتجاوز حب العائلة التقليدي، وتظهر كنوع من التبعية العاطفية التي تقارب الاعتماد المتبادل. إذ أن رضا والدته (أو عدم رضاها) لا يزال قوةً دافعةً تشكل تصرفاته حتى مع تقدمه نحو ما يريد. وهو الشيء الذي كان يخلق نوعًا من الصراع الداخلي، حيث يحاول أوزوالد الموازنة بين الصورة التي يحملها عن والدته والواقع القاسي لنمط حياته العنيف. وبالرجوع للحديث عن الولاء ومفهومه عند أوزوالد فهو دائماً يرتبط عنده بالتلاعب والخداع. فهمُ أوزوالد للولاء مشوهٌ بشدة. فبالنسبة له، الولاء مشروط ومبني على أساس المنفعة المتبادلة بدلًا من أن يكون دافعًا صادقًا. هناك رواسخ معقدة تجعله متقنًا للتلاعب، فهو يشكل تحالفاته بشكل استراتيجي مع التركيز على كيفية استفادته منها. لكن هذا النهج غالبًا ما يؤدي إلى عزلته، أو بشكل ما يجعله شخصاً خارجياً، تماماً كما مع والدته. فهي كانت تعلم طوال الوقت بحقيقة قتله لأخويه في تلك الليلة الممطرة، وحينما أخذته للرقص كان من المفترض أن تكون الليلة الأخيرة للطفل الشيطان، لكنها وفي اللحظة الأخيرة وبعد أن وعدها بأنه يستطيع أن يحقق لها كل ما تحلم به وأن يجعل منها شخصًا مهمًا كحال أثرياء غوثام. بدلا من أن تدعه لريكس يقتله، قررت أن تمنح للشيطان حياته كما يجب أن تسير، مشددة على أنه يجب أن يحصل على ما يستحق! ليحرقَ الجميع فيما بعد ويحرقها.
ولكونه كان تابعًا طوال حياته، فالسلطة بالنسبة له ليست مجرد وسيلة للسيطرة على عالم الجريمة في غوثام، بل هي بديلٌ لقيمته الذاتية والتحقق من ذاته.
يشتاق إلى الاحترام الذي يعتقد أن السلطة وحدها يمكنها أن تجلبه له. شوقٌ يدفعه للصعود إلى قمة غوثام بعزيمةٍ لا ترحم حتى وإن كان أعرجًا. قدرته على التخلي عن كل شيء للوصول إلى تلك القمة والعلية المطلة على غوثام هي الثمن المأساوي الحقيقي لتلك المكانة، ثمن تأتي معه الإطاحة بكل العقبات في طريقه، وعلى رأسها صوفيا التي تفاجأت بأنه يمكنه مشاهدة قطع إصبع أمه فضلاً عن الاعتراف بحقيقة هو يعلم أن جميع من بالغرفة يعرفونها بالفعل. وفي نفس المكان الذي كان من المفترض أن يقضي فيه أوزوالد ليلته الأخيرة تحاول أمه مجدداً قتله بنفسها هذه المرة، لكنها بدل ذلك، تموت هي «اكلينيكياً».
بينما وبالرجوع إلى «چوني فيتي» وبعد فترة قصيرة من حادث الغاز، تقتله صوفيا في أول اجتماع لها، معلنة للجميع ولذاتها بأن إرث فالكون أصبح من الماضي وأنها أخيراً استبدلته بـ«جيغانتيه». إلا أنها ورغم تخلصها من عقباتها لم تستطع صقل هويتها الجديدة، والتخلص من صراعها الداخلي مع نسختها القديمة. زيارتها لچيا في الملجأ، حديثها مع والدة أوزوالد، حرقها لقصر فالكون، وقرار التنحي عن مكانها لمن يجلب لها أوزوالد مجدداً، كان أشبه بتدميرٍ ذاتيٍ سهّل الطريق لأوزوالد لإرسالها إلى الجحيم مرة ثانية عن طريق صفقة عقدها مع عضو مجلس البلدية. ولأن أوزوالد بات منفرداً بكل شيء لم يكن ينقصه سوى أن لا يكون له أي ولاء آخر حتى ولو كان ولاءً زائفًا يهدده بالابتعاد عن قمة المدينة. وهو ما يدفعنا إلى الوصول لمشهد قتل «ڤيك» والصمت الصادم بعدما شعرت وأنا أتابع المشهد باختناق كاختناق «ڤيك» الذي تُركت جثته في جانبٍ مظلم من الحديقة، مُجرداً من ماله ومن هويته، تماماً كما في البدء.
يصل أوزوالد أخيراً إلى مسعاه، فهو الأن سيد ظلام غوثام، مع منزل كبير مطل على غوثام وجسد أمه النصف ميتة بالأعلى. في مشهد يجعلني أحسم الشك في أنه -حتى مع والدته- لم يكن الأمر غير استغلالٍ للحصول على شعور زائف بالرضا عن ذاته. حتى مع طلبها الواضح للموت، عندما تكون في تلك الحالة، إلا أنه فضل تركها هكذا ليصنع لنفسه مجدداً تلك العلاقة التي لم تكن يوما ما موجودة، بينه وبين أمه، ويصنع وهمَ أنها فخورة بابنها القوي كالثور!
وفي رقصة مريبة، نرى «أوزوالد» وهو يحاول إحياء هذه العلاقة الضائعة مع حبيبته، التي جسدت شخصية معقدة تتأرجح مشاعرها تجاهه بين الحب والخوف واليأس. هذا الفعل، المتمثل في إجبارها على الظهور بمظهر والدته وأداء رقصة تبدو شبه كاريكاتيرية، يكشف عن محاولة أوزوالد لاستعادة جزء من ذاته التي فقدها. حاجته الملتوية للتقدير والموافقة من والدته تظهر هنا بطريقة مزعجة وتراجيدية، تُظهر كيف أن الصدمة، صدمة أنها لم تحبه، وأنها تمنت لو تقتله؛ شوّهت نظرة أوزوالد، وربما للأبد، إلى العلاقات الإنسانية.
وأخيراً، وفور ظهور شارة باتمان مجدداً في إيماءة لاقتراب عودته، تساءلت عمّا إذا كان يمكن ترويض قلب جوثام المظلم، أو إن كانت شخصياتٌ مثل «أوزوالد كوبل بوت» قد كُتب عليها أن تزدهر في ظلاله إلى الأبد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش