في اليوم الثالث من مؤتمر النقد السينمائي، قُدمت مناظرة تحت عنوان:«لماذا لا تزال الأفلام الصامتة مهمة؟» على منوال: هل من اللازم لنا العودة إلى الوراء؟ في الوقت الذي ولدت فيه السينما بأدوات قاصرة عن إيصال الصوت، في أواخر ثمانينيات القرن التاسع عشر، الفترة التي اعتبرت فيها السينما عاجزة تماما عن إنتاج أي نوع آخر غير الفيلم الصامت؛ إذ أن الصناعة لم تستطع بعد تمرير ما يقوله الممثلون، وبهذا لم يكن ممكنا للسينما حينها احتواء أي نوع آخر أصلا. ولكن ما إن «تمرحَلت» السينما وتقدمت الصناعة، ظهرت معها العديد من الأنواع الأخرى، تبعًا لتطور التقنيات التصويرية، مما أزاح الصمت جانبًا ليحرّر الصوت. لا يزال السؤال يُطرح، وكأن الأفلام الصامتة محطة في تاريخ السينما مثل «الموجه الفرنسية» التي تم تخطيها حتى مع استمرار الاقتباس من ملامحها من حين لآخر. لكن ذلك ليس دقيقا، لأن الفيلم الصامت أقرب للفرع التقني منه إلى التصنيف المرحلي. وبالرغم من ارتباط الأفلام الصامتة بالماضي والتجربة البدائية للسينما ككل، فإن أفلام النوار (الأبيض والأسود) تحمل المواصفات نفسها ولكن مع ذلك لا يُطرح السؤال عن أهمية أفلام النوار. لأنها صارت نوعا مستقلا بذاته، مما يجعلنا نشهد باستمرار إنتاجاتٍ حية تحمل طابع النوار، مثل فيلم «مالكوم وماري» الصادر عام 2021 والذي كان من أبرز ما أنتج مؤخرا وقد لاقى أصداءً جيدة. ولكن إذا استدلَلنا انطلاقا من سؤال الجلسة، أن هناك تهميشاً واضحاً للفيلم الصامت الذي لا نكاد نشهد أعمالاً تحملُ مواصفاته، فهنا نُغير دفة النقاش، ويُردّ التساؤل للسينما الصامتة ذاتها، هل يمكنها أن تصير نوعا مستقلا حديثا؟ وما التحديات التي ستُواجهها؟
«إن أنظمة النوع توفر أسبابًا للمزيد من التوقعات» - ستيف نيل
يُحدَّد «النوع السينمائي» عبر المواصفات التي تتشارك فيها مجموعة من النوع نفسه، مثل النمط البصري، والحبكة القصصية، والموضوعات التي يناقشها الفيلم، وكل هذا يُشكل سماتٍ دقيقة تتشارك فيها مجموعة نوع واحد لا تقدمه الأنواع الأخرى، أو أنها تقدمه لكن بشكل أقل كثافة من نوع التصنيف نفسه. إذ أن النوع كما أشار «ستيف نيل» يحصُر عددًا معينًا من الأفلام كان قد لَبَّى توقعات المشاهد نفسه، مما يجعل دور الجمهور فعّالاً في اختيار التصنيف. إذ أن استهلاك عدد معين من الأفراد لنفس النوع يشكل نمطا معينا من مجموعة أفلام تتشابه في السمات البارزة بشكل لا يَحتِمل المصادفة أو العشوائية، مما يجعل تشكيلة الصنف محط اهتمامِ النقاد والمنظرين. ولتُحقق السينما الصامتة غايتها فإنها تمتلك سلفًا السمات التقنية التي تُهيِئها لدور كهذا. فالسينما الصامتة تحمل نمطا مميزا رئيسيا يفصلها عن بقية الأنواع وهو خلوها من الحوار لا الصوت على وجه الدقة والتحديد، وهذا الإيضاح ضروري، مبعثه تساؤلٌ طرحته إحدى الصديقات في مؤتمر النقد، حيث كنا في جلسة المؤتمر حين قالت: «هل السينما الصامتة تُنتج أفلاما صامتة تماما؟ بلا موسيقى ولا تأثيرات أخرى؟ لأنه لم يسبق لي أن رأيت فيلما صامتًا من قبل!» لم يكن التساؤل غريبا إذ أن الأفلام الصامتة المعروفة قديمةُ عهدٍ جداً، والأعمال التي قُدمت تحت هذا النوع لا يُعاد تصويرها أو التسويق لها بالقدر الذي تحظى به الأنواع الأخرى، مما يحصر عرض هذا النوع في فئة معينة من الجمهور المهتم بالسينما ككل، كونهم يأخذون على عاتقهم مشقة التنقيب والبحث عن الأفلام الصامتة وتاريخها وملامحها وحتى أشهر أنواعها. وسؤالٌ كهذا يُؤخذ كمؤشر سلبي لــ «مكانة» السينما الصامتة بين بقية الأنواع، فهي لم تكشف عن نفسها للناس غير المهتمين بالسينما اهتماما ثقافيا، ولم تستقطب جمهورا متنوعا بعد، ولكي لا يَبقى السؤال خاليا من الإجابة؛ فإن السينما الصامتة لا تقدم فيلما خاليا من الصوت بقدر ما هو خالٍ من الحوار فقط. وبفضل التقدم التقني الذي نشهده اليوم فإنها تستطيع وبسهولة تغطية مكان الحوار والاستغناء عن تواجده بالتركيز على الصورة والموسيقى. يمكن للمخرج اليوم بإمكانياته الحالية أن يخلق تجربة فريدة مستغنيا عن الصوت الحواري تماما، إذ بالاستعانة بالهندسة الصوتية، والتأثيرات الموسيقية، فإنه يمكن للموسيقى وحدها أن تجسد ما يود أن يقوله الحوار. قد تبدو الفكرة حالمة بعض الشيء لكن هذا ما حدث فعليا في بدايات السينما. حيث كان المشاهد يستطيع وحده ترجمة معاني المؤثرات والموسيقى دون نص حرفي يشرحها. ولكن ما الذي يؤخر المخرجين عن اتخاذ خطوة جادة تجاه صناعة الأفلام الصامتة؟
السينما الصامتة والجمهور… هل تقبل التحدي؟
كما سَلّمنا قبل قليل، أن السينما الصامتة قد تمتلك ما يؤهلها لتكون صنفا نوعيا بذاتها من حيث العناصر التقنية، وما تبقى فهو مُعلَّق بين الصناع والاستعدادِية للإنتاج الذي يشجعه الجمهور بصفته مستهلكا. ولكن هل جمهورُ هذا النوع مستعدٌ لذلك؟ نحن نتكلم عن بدايةٍ شبه جديدة، تعتبر تحديا حقيقيا وكبيرا أمام أي مخرج مُقابل الميزانية التي تُقدّم لهذا النوع من الأفلام، فهناك مخاوف حقيقية تجاه الــ«العودة للوراء» لأن انسحاب الحوار في عالم صاخب مثل عالمنا اليوم، الذي يرافقه شبه إدمانٍ كلي للصخب الحاضر في أغلب الأماكن حتى المخصصة للاسترخاء، قد يكون إما عامل نجاح لهذا النوع من الأفلام أو عامل فشل ذريع. فبإمكان الفيلم بصفته تجربة نوعية مستقلة أن يجذب الكثير من الأفراد المتعطشين للتجارب الجديدة، والتي تقدم لهم نموذجا صامتا بتحدٍ ثقيل يكسر قواعد الصوت الحاضر في الأفلام الأخرى. كما أنني لا أعتقد أن انسحاب الحوار وحده هو ما يُشكّل عامل تحدٍ، بل إن هناك ركائز أخرى لمحبي الأفلام الموسيقية والحبكات الأكثر غموضا، ومُحبي الرمزية تسمح بأن يكونوا جزءا من ذلك الاستهداف، أو أن يحدث العكس، فتفشل في استخدام عوامل قوة الفيلم لتصبح هي أسباب خسارته. وبالأخير على الصناعة أولا أن تفرض تواجدها في السوق قبل أن تتوارى بحجة «اللاجمهور» والذرائع الأخرى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش