يحضر الفخر حين يعتلي الفرد المراتب السامقة، مُودِعًا في نفوس مَن حوله الثقة والاعتزاز الذي سيختالون به، بفضل إنجازات تتصل بهم بصورة أو بأخرى، مضيفًا لذاته ولعائلته وبلده القيمة التي تعزز من مكانته بوصفه فردًا ونموذجًا رمزيًا يستفز تطلعات الآخرين ويرفع من سقف آمالهم ويعزز من مستوى التنافسية لديهم. ولعل غذاء الفخر هنا كان الإشادة والتشجيع المقدر للمحاولات المضنية المبذولة وقوة العزيمة التي تحلّى بها المرء.
وأقصى مراتب المفاخرة ما كان مقترنًا عبر التاريخ بتفشّي الشوفينية كوسيلة لسد الثغرات التاريخية، حيث تحضر في أذهاننا صورة مَن بذل نفسه في الذود عن وطنه مقدمًا ذاته وممثلاً لملايين من أبناء جلدته، ليقاتل بالنيابة عن هويتهم، حاملاً عنهم ثقل انتقامهم وتعصبهم وراية وطنهم سواء لأسباب صحيحة أو خاطئة.
وقد استغلت السينما منذ بدايتها هذه الصورة البطولية المراد منها شحذ همة الجماهير أو تثبيطها، تارة بصورة ساخرة وتارة بصورة جادة، كما فعل يوزف غوبلز وزير الدعاية السياسية في ألمانيا في نهاية ثلاثينيات القرن الماضي، عندما أنتج عدة أفلام لتأسيس هوية العِرق الآري المفاخر بها، وخدمة الجهود الحربية النازية مثل فيلم «انتصار الإرادة» الصادر عام 1935، مغرقًا الجماهير الألمانية بالأفلام الفاشية. وقد تدرّج هذا الاستيطان التدجيني الاعتزازي عبر التاريخ وصولاً إلى حاضرنا الذي تناول أفلام مسيرات الفخر المحرضة على الشذوذ الجنسي، وهي الأقل شحذًا لأنفس الأغلبية، كونها أساسًا تحضر على استحياء من فكرة دونية لا يرتجي الجميع منها أن تطفو لمنزلة زهو عليا، كمنزلة البسالة، كونها تكتسب زخمها في اللحظات الرخائية التي ينعم فيها المجتمع بالرفاهية.
وبالعودة إلى الأعمال المعنية بسد ثغرات الأخطاء التاريخية والقرارات السياسية، هناك فيلم «القنّاص الأمريكي» للمخرج كلينت إيستوود الصادر عام 2014 والذي تناول قصة القناص كريس كايل الذي شارك في الحرب العراقية، مخلفًا من دورة خدمته 160 قتيلاً، مُظهرًا بطولته على العراقيين الذين قدّمهم الفيلم كخونة وغدارين يتوقع المرء منهم الانزلاقة، بصورة تاريخية استجلبت على أثرها بداية نشأة السينما الهوليوودية عندما كان الرجل الأبيض يقتل الهنود الحمر لأسباب خاطئة، كما لو كانوا جميعهم حيوانات وحشية، ما عدا أن الجانب التعاطفي المعزِّز لفكرة الفخر حضر حين تناول الفيلم التحديات النفسية والانعكاسات التي حدثت وطرأت على حياة عائلة القناص كريس كايل، في محاولة لفرض عملية التعاطف مع الصراعات الداخلية التي عانى منها المحارب، على الرغم من أن الصورة الخارجية تتقاطع بشكل كبير مع البطل الألماني الخيالي فردريك زولر الذي قدّمه كوينتن تارانتينو بوصفه شخصية نرجسية تفخر بالدموية التي أحدثتها، والأرواح التي أزهقتها من خلال التفاخر بما أحدثته في فيلم «أوغاد مجهولون» الصادر عام 2009، حيث قدّمه المخرج في صورة قنّاص قتل 250 عدوًا خلال ثلاثة أيام من تواجده في أحد أبراج المراقبة الحيوية، لتُقدَّم قصته باعتبارها مادة دسمة يستغلها سيد الدعاية الألماني جوزيف غوبلز في فيلم يتناول من خلاله مغامرة القنّاص، عنوانه «فخر الأمة».
ولعل هذه هي الطريقة المثلى في تقديم الرموز الوطنية، ألا وهي تنميق التأدية وتزويق الإتمام من خلال إبراز الجانب العاطفي وإخفاء الحقائق المثبطة منها، كما حصل في فيلم «قلب شجاع» (1995) الذي أخفى حقيقة أن المحارب السير ويليام والاس أصله من ويلز وليس اسكتلندا، وأنه انتقل إلى اسكتلندا وهو غني ليس فقيرًا، بل وأجمع كثيرٌ من المؤرخين على أنه تاجر حرب!
كما أن هناك أفلامًا تناولت فكرة النموذج الاعتزازي المتواضع على نحو غير مباشر، بعيدًا عن محاولة تزييف الوعي الجماهيري، تحمل في طياتها خيالاً توعويًا يعزز من قيمة الفرد، وهي فكرة بعيدة عن محاولة عكس جزء من الحقائق بغرض التضليل عن الحقيقة الكبرى سواء كانت حيال وقائع سياسية أو دينية أو عسكرية أو حتى محاكاة هزلية، وإن كان الفيلم الذي سأتحدث عنه اشتُهر بقصيدة والت ويتمان الوطنية المرتبطة كذلك بمسألة سياسية، والتي قال في مطلعها:
«أيّها الربان! يا قائدي!
ها قد انتهتْ رحلتُنا الرهيبة،
بعد أنْ تصدّتْ سفينتُنا لكلِّ حاجزٍ، والفوزُ المنشودُ تحقّق.
المرفأُ مُجاورٌ؛ إنّي لأسمعُ الأجراسَ، والناسُ كافةً يهلّلون،
بينما العُيون تُلاحِقُ السفينة الآخذة في التقدّم؛
تلك الباخرة المُوحشة والمُجازِفة؛
ولكنْ آهٍ أيّها القلب وألف آه!
آهٍ أيّتها القطرات الحُمْر النازفة،
حيثُ يرقد قائدي على ظهر السفينة
وقد خرّ باردًا وميّتًا»
والتي كتبها والت ويتمان في رثاء الرئيس الأمريكي أبراهام لينكولن الذي مات مقتولاً، مشبِّهًا إياه بالقبطان وأمريكا بالسفينة، والحرب الأهلية التي خرج منها الرئيس الراحل منتصرًا -لا سيما في قرار تعزيز قيمة الفرد في إلغاء نظام العبودية- بالرحلة التي حققت الفوز المنشود. وقد اشتُهرت القصيدة في المجتمع الفني بسبب فيلم «مجتمع الشعراء الموتى» الصادر عام 1989، وتحديدًا مشهد وداع الطلاب لمعلمهم المفصول مدرس اللغة الإنجليزية جون كيتينغ الذي قام بدوره روبن ويليامز، حين قام بالمبادرة الثورية الطالب الخجول الذي وقف على طاولته مرددًا: «أوه كابتن ماي كابتن».
يقلّده بعدها جميعُ طلاب الفصل كعربون امتنان لمعلمهم الذي عزز هو بدوره من فردانيتهم وأعاد تعريف هويتهم التي ذابت في حوامض العائلة والإرث والعادات والتقاليد، كما لو كان المعلم هو لينكولن المدرسة، كونه قائدًا للتغيير الذي حدث، رغم أنه تسبب في وفاة الطالب الذي انتحر بعدما شذّ عن قواعد عائلته ليصبح ممثلاً مسرحيًا ويتوَّج لذلك، ليُجبَر لاحقًا على التخلي عن أحلامه الفنية ويتتبع الخطوات المرصودة مسبقًا لتقوده نحو المكانة التي اختارها له والداه. الفيلم، كما شبهه الشاعر السعودي عبد الله ثابت: «من الأفلام التي تُرى مرارًا، أو كتاب عميق على هيئة فيلم، عن الشعر والفرادة، وخوض الحياة، والتعب الإنساني، وبصمة الكلمات المؤثرة في هذا العالم».
وهناك كثير من الأفلام التي تتناسب مع كل حقبة زمنية وكل ظرف كان، ولكن علينا أن نتبين الحقيقي منها والزائف المتغذي على اعتقادات أفيونية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش