يتناول الفيلم السوداني «وداعًا جوليا» (2023) العلاقات الإنسانية بين السودانيين على ضفاف الاختلافات الدينية
والعرقية بينهم، ويتطرق إلى آثار تركة الحرب الأهلية الطويلة التي عصفت بالبلاد حتى انتهت بتقسيم السودان في العام
2011 إلى «جمهورية السودان» في الشمال بهويتها العربية الإسلامية و«جمهورية جنوب السودان» في الجنوب
بطابعها الإفريقي وهويتها المسيحية، وذلك من خلال قصة بسيطة مدارها الشعور بالذنب والتكفير عن الخطايا، ومحاولات
العيش مع المختلف في الدين والعرق، وتصوير تفاعلات البشر فيما بينهم في مجتمع ممزق وسط شلالات الدموع والدماء
ورغبات الانتقام وهواجس التكفير.
كتب الفيلم وأخرجه محمد كردفاني، وهو الفيلم الطويل الأول للمخرج بعد فيلمه القصير «نيركوك» (2016)، والفيلم من
بطولة إيمان يوسف بدور منى، وسيران رياك بدور جوليا، ونزار جمعة بدور أكرم (زوج منى) وجير دواني بدور أجير
(صديق جوليا الجنوبي).
تبدأ قصة الفيلم بإبراز أوضاع مدينة الخرطوم بعد مقتل جون قرنق، أحد قادة الحركة الشعبية لتحرير السودان، بحادث
تحطم طائرة في عام 2005، بعد اتفاقية السلام بين الشمال والجنوب التي وضعت حدًا لقرابة العقدين من الحرب الأهلية
التي راح ضحيتها مئات الآلاف من الجانبين، وفي وسط الاضطرابات التي شهدتها الخرطوم آنذاك، تصدم سيارةُ منى عن
طريق الخطأ ابنَ جوليا الصغير، وبدافع الارتباك والخوف تهرب من المكان ليلحق بها والد الطفل المرتبك، وبعد وصول
منى إلى منزلها خائفة مرعوبة يكون زوجها أكرم بانتظارها، والذي يبادر بقتل والد الطفل بمجرد إشارة منى أن غريبًا
يلاحقها دون مبرر. تُدفن القضية باعتبار القتيل من ضحايا الاضطرابات التي شهدتها الخرطوم وقتها، ثم تتطور القصة
تحت وقع الشعور بالذنب، فتبدأ منى التي ترى نفسها سبب مقتل والد الطفل، في البحث عن ذويه، عندها تجد جوليا والدة
الطفل، لتبدأ قصة التكفير عن الخطايا في مجتمع تقسمه الاختلافات الدينية والعرقية. ترعى منى جوليا وابنها، وتعرض
على جوليا العمل في منزلها، ثم تنتقل جوليا وابنها للعيش في منزل منى، التي تدفع تكاليف دراسة الطفل، لتتعمق العلاقة
بين منى وجوليا ليصبحا صديقتين بصورة ما، وبمرور السنوات يرعى أمجد، زوج منى، الطفل، دون معرفة خلفيات
وجوده في منزله، وكأن الشعور بالذنب، من طرف منى وحدها، كان كافيًا لخلق التعايش وعلاقة رعاية مدارها الذنب
والتكفير بين منى وجوليا، وأمجد والطفل، بين المسلم والمسيحي، والعربي والإفريقي.
يحاول الفيلم تقديم انقسام المجتمع السوداني من خلال هذه القصة البسيطة، فالشماليون يرون الجنوبيين همجًا بلا دين أو
أخلاق، يخافونهم فيُضطرون إلى قتلهم، والجنوبيون يرون الشماليين مجرمين وقامعين، لا يضعون لحياتهم أي قدر،
والتعايش بين الجانبين في وسط هذا الاختلاف العرقي والديني والسياسي والاقتصادي يبدو مستحيلاً، فالحل هو الانفصال
التام، إلا أن الشعور بالذنب قد يصنع فُرَصًا ضئيلة للتعايش قابلة للانهيار في أي لحظة عندما تظهر الحقائق، ويعرف كل
جانب في هذه المعادلة نوازع ونوايا الطرف المقابل، فتكشف المصالح النفسية والمادية عن تجلياتها، فالحقيقة قد تُفرق
أحيانًا.
الفيلم مكتوب بصورة جيدة في المجمل، فالقصة جيدة، وسيتأرجح موقف المُشاهد خلال الفيلم بين جانبين؛ هل القتل بدافع
الخوف مبرر؟ وهل الكراهية بين المختلفين قَدَر لا مفر منه؟ هل التعايش مع الآخر ممكن أم أنه قصة تنتمي للأساطير
والخيالات والأوهام؟ لا يقدم الفيلم إجابات بقدر ما يدفع المُشاهد إلى التفكير باستمرار في هذه الأسئلة، فالإنسان يخاف
ويجزع، ويفتش عن الغفران وتكفير خطاياه، وضمير الإنسان يمنعه من النوم، ويدفعه لفعل المستحيل، إما قتلاً لهذا
الضمير بأن يكذب الإنسان حتى على نفسه، أو السير وراءه في رحلة لا أحد يعرف نتائجها.
أداء الممثلين عادي، قُدِّمت شخصيات منى وجوليا وأكرم وأجير بصورة جيدة، لكن لا يمكن القول إن أداء الممثلين كان
مميزًا أو مواكبًا للقصة، وظهر الأداء في بعض المَشاهد باردًا بلا روح أو نكهة، وبعض الانفعالات لم تُعطَ حقها من
الممثلين، أما الحوارات فكانت عادية أيضًا إلى ضعيفة، لا ترتقي في مجملها إلى مستوى قصة المجتمع الممزق والبحث
عن الغفران، والحب الضائع لمنى التي تزوجت أكرم لأنه «رجل صالح» في حين تركت حبها «طارق» وراء ظهرها،
وهذه قصة على هامش الفيلم تذهب إلى متنه في النهاية، أما نهاية الفيلم فمخيبة للآمال، فالحوارات والأحداث في آخر
الفيلم، وبعد معرفة منى بحقيقة جوليا وانكشاف جوليا أمام منى، حوارات مفتعلة تنقض ما بناه السيناريو طوال الفيلم،
فالحوار الأخير هو الأضعف في الفيلم في حين يُفترض أن يكون ذروة للأحداث، قد لا نتوقع نهاية مختلفة، لكن الحوار
الأخير بين جوليا ومنى بدا باردًا، ولا يواكب أحداث القصة.
ينتهي الفيلم الذي بدأ بالاضطرابات التي شهدتها الخرطوم بعد مقتل قائد التمرد في جنوب السودان جون قرنق في
2005، بتحقيق حلمه بانفصال جنوب السودان عن شماله بعد استفتاء 2011، وكأن السنوات التي مرت ما بين توقيع
اتفاقية السلام بين الشمال والجنوب في مدينة نيفاشا الكينية، سنوات التكفير عن خطايا الخلافات بين السودانيين منذ
الاستقلال عن بريطانيا في 1956 والحرب الأهلية الممتدة من ثمانينيات القرن العشرين، لم تؤدِّ إلى رأب الصدع بين
الجانبين، وكأن الرغبة في تأجيل انفصال جنوب السودان كانت أيضًا محاولة للتكفير عن خطايا الحرب الأهلية، إلا أن
الجانبين لم يتمكنا من بناء ثقة كافية تجعل التعايش بين الطرفين ممكنًا، بل كانت سنوات التكفير سياسيًا في السودان
سنوات ترقب، فإما تندلع حرب جديدة مرهقة لن يربحها أي طرف، أو يحدث انفصال تام يحفظ لكل طرف حياته
وكرامته، ويمكّنه من تحقيق أحلامه وطموحاته (هل حدث هذا؟!) فكما انتهت قصة الفيلم بتوديع منى لجوليا وداعًا لا لقاء
بعده، وكما عادت جوليا إلى الجنوب لتبدأ حياة جديدة، بدأ السودان مرحلة أخرى موازية في بلد لم يُكتب له الاستقرار
والسكينة حتى اليوم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش