قد تُطوَّع أخلاقيات إنسان اليوم حسب البقعة الجغرافية، فما يؤنبه هنا قد يغفر له هناك، كما هي مساوئه المستورة هنا والتي يجاهر بها هناك، ولعل اليقظة التي تراودنا بعد الانغماس في خطأ ما، ليست سوى فكرة تنكمش وتنبسط، مدفوعة بالحشود المنقسمة ما بين التحرج من الخطأ، أو المفاخرة به، أو مدفوعة بما يؤمن به المنغمس فيه، إن كانت بوصلته الأخلاقية متصلة بالعامة أو بالدين أو بقناعاته الداخلية. ولكن الأكيد هو أن لكل امرئ أسبابه التي تُنفِّره مما قد يبدو صائبًا ومما قد يبدو خاطئًا، حسب المبادئ التي تشرَّبَها ضميريًا.
وما ينفرنا، ينبثق كحقائق تشعرنا بالدونية، رغم رغبتنا القصوى في تجاهلها، لا سيما تلك التي تُسقط كبرياءنا من علو شاهق. وقد تتنوع تلك الحقائق من الأفعال الممنوعة إلى السلوكيات الشائنة المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بماضينا السحيق أو حاضرنا المُتجاهل، كالمواقف المقترنة بلفظيات التجريح التي تلفّظنا بها أو تلَفَّظَ بها الآخرون علينا فكان لها من الأثر البالغ الذي أحدث بنا تشوهات عاطفية، أو حتى السخرية من إعاقة جسدية نتسم بها، أو يتسم بها غيرنا، أو موقف حميمي حدث أثناء استكشافنا لأجسادنا أو لأجساد غيرنا في لحظة حيوانية أتت في غير محلها وزمنها.
ولا يذكر هذه المَشاهد على الملأ سوى مَن توقّف عن الرضوخ لها ومَن تشجّع على فكرة مواجهة ماضيه بتذبذب، كما فعلت الكاتبة النوبلية «أني إرنو» في روايتها «العار» حين استبدلت باِسم بلدتها «إيفتو» التي نشأت فيها حرفَها الأول «إ» كما لو أن نطق اسمها تمنّع على اللسان وعلى القلم، كون البلدة كانت مصدرَ عار لها.
ولكن نوع العار الذي سنتحدث عنه أولاً اقترن برغباتنا الدفينة التي تعمّقت بمسألة الستر لما هو أكثر من الجسد، متجاوزةً الوعظية التي اقترنت بقصة آدم وحواء، حين أكلا من الشجرة وبدت لهما عوراتهما، ولمّا ظهرت عوراتهما خجلا، وجعلا يغطّيانها بأوراق شجر الجنة، في سلوك يُعبّر عن اليقظة الذاتية.
ولعل هذا سبب بكاء براندون الذي قام بدوره الممثل مايكل فاسبندر في نهاية فيلم «خزي» الصادر عام 2011 للمخرج ستيف ماكوين، مفاقمًا المشهد الذي غنّت فيه أخته على المسرح مرددة «نيويورك نيويورك»، فالمدينة تحضر بوصفها حاضنة لخوافيه التي يحتقرها سرًا، كما حصل للروائية إرنو أعلاه، كما أن بكاءه يُعبّر عن مساوئه التي طفت أمام ناظريه بشجن صوت أخته.
يتحدث الفيلم عن رجل ناجح عمليًا ومدمَّر نفسيًا لا يكف عن الرضوخ لرغباته الجنسية التي أدمن عليها، مع كل فرصة اختلاء ذاتي، دون احتياج حقيقي، أو لعل احتياجه للجسد يحضر في علاقة أشبه بعقد إنجاز عمل مؤقت تنتهي حالما تنتهي النشوة. كان براندون يستمتع بشقته، وألعابه، وأفلامه الممنوعة على الكمبيوتر المتنقل الخاص به، حتى حضرت أخته سيسي كزائرة ثقيلة، متطفلة عليه، وهذا يشبه إلى حدٍ كبير أن يشاركك أحدهم هاتفك النقال، وأن يكون على اطلاع على الرقم السري، ليستكشف تاريخ بحثك على المتصفح، والإعجابات، والعلامات المرجعية التي حفظتها على تطبيق إكس، كما أنه -برأيي- كان يرى أخته كما لو كانت مرحلة سابقة من مراحل حياته كان قد تخطاها، حيث إن احتياجها إلى الشخص الآخر يحضر بصورة مستميتة متذللة، متنقلة من رجل لآخر، كإنسان لا يستطيع العيش مع فردانيته، فتظل للأبد ساعية لملء الفراغ، مستندة إلى أي عاطفة من أي رجل بإمكانه توفير الرعاية المناسبة لها، وهذا عكس ما أصبح براندون عليه. وتلك هي المسارات اليائسة التي يتخذها المرء بصورة راديكالية مدمرة للذات وللمعنى التشاركي، دون قدرة حقيقية على الموازنة ما بين التفرد والحاجة إلى الآخرين.
وأثناء عيش سيسي مع أخيها براندون تكتشفه بمحض الصدفة وهو ينبري لقصف رغبة جنسية ذاتية، أثناء تواجده في دورة المياه. ومع كون الإدمان عارًا بحد ذاته، فإن إدمان الجنس أكثر عارًا عن غيره، كونه يتصل مباشرةً بالأعضاء التناسلية التي يخجل الإنسان من إظهارها فطريًا، وهذا يضاعف من فكرة الشعور بالخزي كما حصل في قصة آدم وحواء، كإدمان يتسبب في انحسار القيم شيئًا فشيئًا.
وهذه السلوكيات التي كان يتسم بها مايكل فاسبندر كانت حقيقية حسب الدراسة التي قام بها المخرج ستيف ماكوين أثناء زيارته لمركز مدمني الجنس، فقد أجاب الأغلبية حين سُئلوا عن مشاعرهم بعد الانتهاء من تلبية رغباتهم القهرية بإجابات مشابهة، عبّروا من خلالها عن شعورهم بالذنب والفراغ والخزي الذي اتفقوا عليه جميعهم.
ولعل المخرج ستيف ماكوين برع في اختلاق مساوئ شخصية براندون التي ظلّت تتكشف على نحو متتابع بصورة أقرب إلى وصف هرمان هسه حين قال: «إن الإنسان بَصَلَة مكونة من مئة غلاف!» حيث بدأ الفيلم وهو يرتضي فكرة استمالة امرأة متزوجة، لتتكشف السوءة عندما ينام صديقه المتزوج مع أخته العزباء، لينتهي الفيلم بمشهد بدايته نفسه، حيث المرأة المتزوجة تلتقي به مجددًا في القطار نفسه، ولكن هذه المرة يتجاهلها، وقد طوّر العقل وعيًا ليصطدم بالسلوكيات المعجونة في غموضها وظلاميتها.
ولعل هناك تجليات أخرى للعار المتصل بالتعاسة الدنيوية، وأقصد الذي يتشكل في هيئة الحماقة التي يدركها المرء لاحقًا، وما أشد أن يكون المرء غبيًا، كالوعي بالغباء المتسبب بإزهاق الأرواح التي ظنناها شريرة مثلاً، حيث يعود إلينا بأشد تقزيم ذاتي وأشد احتقار، كما حدث في الفيلم المصري «البريء» للمخرج عاطف الطيب الصادر عام 1985، والذي تناول أحداث انتفاضة يناير 1977 وعالم المعتقلات والتعذيب. كان الفيلم من بطولة أحمد زكي الذي قام بدور شخصية أحمد سبع الليل، الفلاح الجاهل، الذي استُدعي للخدمة العسكرية، ليساهم في تعذيب المعتقلين الذين يُسمّونهم أعداء الوطن، مطعمًا إياهم الخبز من الأرض كمَن يقدّم الكلأ للبهائم، حيث كان يعتبرهم كفرةً وزنادقة في عدم طاعتهم لولاة الأمر، لنشهد لاحقًا على لحظات التيقظ حين يرى «قريبَه» يوفد إلى المعتقل كعدو للوطن ليردد مستنكرًا: «حسين أفندي ابن عم وهدان لا يمكن يكون من أعداء الوطن أبدًا».
يلطم على خدّه في ندم، مستحضرًا أثناء سجنه مع قريبه، فعلته التي أقدم عليها سابقًا، حين قتل أحد المعتقلين الفارّين، والذي ظل يردد على أحمد سبع الليل قبل وفاته:
«انت حمار مش فاهم». يرددها على نفسه موبخًا ذاته على عدم سماعه لهذا التحذير حينها، ليمضي، بعد أن اُغتيل قريبه، إلى عمله بعد عقوبات تم تنفيذها عليه نظير اعتراضه، لينتهي الفيلم بصرخة ساخطة صرخها أبو السبع، تزامنت مع قدوم مجموعة جديدة من المعتقلين أثناء تواجده في برج المراقبة، محتجًا على رضوخه لسلطةٍ ومحيطٍ ومجتمعٍ يتغذى على الخنوع. وهذا يشابه ما كتبه سالتيكوف شيدرين في روايته «الخزي» التي تناول فيها بسخرية التنازلات التي قد يقدّمها الإنسان لترضى عليه السلطة، إبان تصاعد الحركة الثورية ضد النظام القيصري.
كتب:
«لم نسأل أنفسنا عن طبيعة هذا الخزي، بل شعرنا بحضوره وحسب. شعرنا بوجوده في أنفسنا وفي البيئة المحيطة بنا وفي الشارع وفي كل مكان؛ خزي رُسم على وجوهنا، جعل المارة ينظرون إلينا بذهول».
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش