صانع الأفلام الذي تمرّد على قواعد السينما التقليدية وقام بتفكيكها وخلَق قواعد جديدة. وضع جان لوك غودار بصمته على تطور السينما الفرنسية وكان مبدعًا في ابتكار أساليب غير مسبوقة في صناعته لأفلامه على طريقته وفلسفته الخاصة والتي تعكس طيفًا واسعًا من الموجات السينمائية سنذكر بعضها لاحقًا. كان غودار أيضًا فنانًا استثنائيًا جعل اللغة جزءًا لا يتجزأ من أعماله وحرّر الصورة السينمائية بطرق لم نشهدها من قبل، ولعل بداياته كناقد سينمائي في مجلات الأفلام صنعت منه كاتبًا ومخرجًا رائدًا في مجال السينما ومطبّقًا لنظرية المؤلف "Auteur Theory" ممّا جعل من أفلامه شعرًا مرئيًّا يركز على تغذية الحواس وإثراء المُشاهِد بالقضايا الثقافية والاجتماعية بإيقاعٍ سلس يتعدّى الحشو الدرامي. ساهم غودار بكتابة ما يقارب 100 فيلم من مجموع 130 فيلمًا من إرثه السينمائي. كان وما زال غودار مؤمنًا بالسينما كوسيلة تنويرية تحقق صدمة للوعي وعالج في أفلامه قضايا سياسية شتى من بينها حرب فلسطين والجزائر، بالإضافة إلى النسوية والماركسية والوجودية والمنهج العلمي.
وُلد المخرج الفرنسي السويسري في باريس 30 ديسمبر 1930 لعائلة برجوازية من أبٍ طبيب وأم ابنة لمؤسس أشهر مصرف في فرنسا "باريبا" وانتقل وعائلته للعيش في سويسرا أثناء اندلاع الحرب العالمية الثانية وأكمل دراسته هناك حتى المرحلة الثانوية التي درسها في باريس. واجه غودار صعوبة بداية في اجتياز الاختبارات النهائية التي تزامنت مع انفصال والديه واجتازها لاحقًا وسجّل عام 1948 في جامعة السوربون الفرنسية لدراسة علم الأجناس البشرية Anthropology. بدأ شغف غودار للسينما يكبر شيئا فشيئًا في هذه المرحلة بفضل قراءته لمقال أندريه مالرو "Sketch for the Psychology of the Moving Pictures" الذي زعم غودار بأنه كان بوابته إلى عالم السينما. انخرط غودار في هذه الفترة في اجتماعات الأندية الثقافية السينمائية في باريس. وفي مطلع الخمسينات أسس غودار مجلة سينمائية بالتعاون مع المخرجين الفرنسيين الشهيرين إريك رومر وجاك ريفيت وبرع ككاتب وناقد سينمائي ونشر أيضًا في مجلات سينمائية أخرى. عاد غودار إلى سويسرا في عام 1952 وبدأ بإطلاق سلسلة من الأفلام الوثائقية القصيرة، كان أولها "Operation Concrete" عام 1955.
الموجة الجديدة New Wave
كأحد المبتكرين الأوائل لحركة جديدة في السينما الفرنسية، أعاد غودار تعريف الطرق التي ننظر بها إلى السينما بصفته فيلسوفًا للسينما، قام بتزويد الجماهير بأدوات تحليلية جديدة لمشاهدة الأفلام.
صنّف النقاد فترة الستينات كفترة ذهبية للمخرج وبرز كأحد روّاد "الموجة الجديدة New Wave" التي تمرّدت على الطابع الكلاسيكي السينمائي حينها واعتمدت على الاستقطاعات المفاجئة والكاميرا المتحركة المحمولة باليد ينتقل تركيزها من أكبر التفاصيل وحتى أصغرها، عوضًا عن المشاهد الثابتة مما أعطى حركة في الفيلم بدلًا من مشاهد جامدة. وركزت هذه الحركة السينمائية على تصوير مشاهد يومية وعشوائية مبنية على أحداث روتينية عفوية، كمشهد يركز على تبدد رغوة فنجان قهوة، مما يجعل المشاهد يتأمل ويستغرق في أكثر المشاهد اعتيادية وبطء، منافيًا طابع السرعة للعصر الحديث.
أطلق غودار أول أفلامه المطوّلة "Breathless" عام 1960 الذي حاز على جائزتي مهرجان برلين للسينما العالمية "Berlin International Film Festival" كأفضل مخرج، وجائزة جان فيغو الفرنسية "Prix Jean Vigo" كأفضل فيلم. وغيّر المخرج ملامح السينما وأعاد اكتشافها بحلة جديدة، و "موجة جديدة Nouvelle Vague" كان هو عرّابها. يحكي الفيلم قصة مايكل الذي سرق سيارة وأطلق النار على شرطي وفرّ هاربًا إلى صديقته باتريشيا التي يكنّ لها بعض المشاعر. استضافته باتريشيا التي تدرس حينها الصحافة والإعلام وتعمل كبائعة للصحف في شوارع باريس. يتناول الفيلم الحب والشهوة والجريمة والوجودية، ودور المرأة في هذه السياقات. سلّط الفيلم الضوء أيضًا على النسوية الظاهرة على شخصية باتريشيا التي تسعى إلى استقلاليتها وتقاوم وترفض استغلالها واستسلامها لمطالب الرجل الذي تبادله ذات المشاعر بالتخلي عن مبادئها.
الخيال العلمي Science Fiction
أنتج غودار فيلم الخيال العلمي والديستوبيا "Alphaville" في عام 1965 والذي حاز على جائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين السينمائي في العام ذاته، يحكي قصة مدينة حيث المشاعر فيها محرمة ومحذوفة من قاموس اللغة وحتى من الإنجيل الذي يملكون نسختهم الخاصة منه، ويخضع سكانها لمراقبة دائمة من كمبيوتر هائل Alpha 60 وتقوم سُلطات المدينة بقتل كل من يعبر عن مشاعره أو يتصرف تصرفات غير منطقية بنظرهم. بطل الفيلم المحقق ليمي كوشن يصل المدينة في مهمة لتحرير المدينة من استبداد الذكاء الاصطناعي. نلاحظ أن الظلام يسيطر على أجواء الفيلم حيث أن غودار لم يستخدم أي إضاءة واعتمد في تصويره على الإضاءة الطبيعية. نرى أيضًا التصوير العشوائي والشكل الدائري في كثير من تفاصيل الفيلم كالوسائد والسلالم وشكل المدينة والإنارة. كان الفيلم خاليًا من كل عناصر الفن المحظورة في هذه المدينة، كما أن الديستوبيا السائدة على تصوير الفيلم تجسّد اضطراب الهوية والصراع بين العقل والقلب وتلقي الضوء على انبثاق التقنية الحديثة حينها.
الموجة الانطباعية Impressionism Wave
بدأت الموجة الانطباعية في السينما في أوائل القرن العشرين ودمرت الطرق المألوفة في رؤية الأشياء وخلَقت طريقة جديدة لإدراك المشاهد من حيث التقنيات والتأثيرات المستخدمة التي تهدف إلى إبراز العمق النفسي للشخصيات بأقل قدر من الكلمات وإظهار كل تعقيدات العالم الداخلي باستخدام الصورة فقط. فلا عجب أنه أصبح يُنظر إلى الأفلام على أنها قطعة فنية يمكنها إيصال المشاعر والأفكار دون نطقها بصوت عالٍ، بل من خلال الصوت والصورة بأقل قدر ممكن من اللغة السردية.
ولا يسعنا الحديث عن الانطباعية دون ذكر فيلم غودار "Goodbye to Language" عام 2014 الحائز على جائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان السينمائي في نفس العام وأول أفلامه المصوّرة بتقنية التصوير ثلاثي الأبعاد 3D. غودار هنا وعلى عكس عادته، أبحر في هذا الفيلم إلى ما وراء اللغة التي تلاشت في حياة الزوجين وعلاقتهما التي فترت بمرور الوقت. ولأجل أن يخلقا شكلًا جديدًا من أشكال التواصل بينهما؛ يتبنّيان كلبًا.
لطالما عبّر غودار عن رغبته الأولى في أن يصبح رسّامًا، وانتهى به المطاف صانعًا للأفلام؛ يرسم المشاهد بخياله وعينيه بدلًا من أنامله. نلاحظ أيضًا اهتمام غودار في إبراز الجماليات Aesthetics في أفلامه، فنجد أن مشاهده زاخرة باللوحات والتحف الفنية والمؤثرات البصرية التي تغذّي المُشاهد بصريًّا.
بدأت قصة عشقي لغودار في أحلك فترات عمري، كنت أنغمس في الصورة والنص وأنسى ما حولي وأنا أشاهد الفيلم، ولعل حبي للغة الفرنسية ضاعف متعة التجربة وكان -وما زال- فنه أحد وسائلي في التعافي. كان أول فيلم شاهدته "My Life to Live" ثم وجدت نفسي استغرقت في ماراثون ممتع لمشاهدة أكبر عدد ممكن من أفلامه. كنت مفتونة بلغته الشاعرية، بإبداعه في تحويل ما يدور في خياله إلى مادة محسوسة (وأغبطه على هذا). علاوة على ذلك، شدني خروجه عن المألوف وأدهشتني شموليته لأساليب سينمائية عديدة، فتجد أن كل فيلم من أفلامه يمثل ثيمًا سينمائيًّا بعينه وقد يجمع بينهم، ولا عجب أنه برع بها جميعها بداية من الوثائقيات والخيال العلمي والسياسة وحتى الواقعية الشعرية والتجريبية والتعبيرية والبوب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش