مقالات

الرواية العربية في الكادر

في منتصف تسعينيات القرن الماضي، وقف صفٌّ من الفنانين المكسيكيين الاستثنائيِّين، يتقدمهم المخرج خورخي فونز وسلمى حايك، كي يحصدوا كلَّ ما قدَّمته تلك الدورة من حفل آرييل من جوائز عن فيلمهم «زقاق المدق» (Midaq Alley - 1995). أجل، تلك الرواية التي كتبها ونشرها نجيب محفوظ قبل صدور هذا الفيلم بِنَحوِ خمسين عامًا، والتي لم تكن الهديَّة الوحيدة التي حملها أدب المشرقِ لسينما الجزء الجنوبي من أمريكا الشمالية، بل سبقتها بعامٍ واحدٍ تجربةٌ ناجحةٌ قدَّمها المخرج المكسيكي أرتورو ريبستين في فيلمه «بداية ونهاية» (Principio y fin - 1993)، والمُستوحى أيضًا من روايةٍ أخرى لنجيب محفوظ تحمل الاسمَ نفسه. حظي الفيلم أيضًا باستقبالٍ نقديٍّ حافل، وترشيحات رفيعةٍ، لكنه وللأسف لم ينجح في الوصول إلى القائمة النهائيَّة لترشيحات الأوسكار، رغم أنَّه قُدِّم بوصفِه فيلمًا ممثلًا للمكسيك في المهرجان، وكذلك كان الأمر بالنسبة لفيلم «زقاق المدق» الذي حصد نجاحًا أكبر.

هكذا رأيت أن أُدشِّنَ مقاليَ الاحتفائي بالرواية العربيَّة، إذ لم أرَ شيئًا مثاليًا يبتدئ منه هذا الموضوع أكثرَ من الاحتفاء بالأفقِ الذي وصلت إليه روايات نجيب محفوظ، حيث يجدُ مخرجانِ مكسيكيَّان صلةً بين ما تعيشه المكسيك الحديثة من قصص، وبين ما يكتبه رجلٌ مصريٌ استثنائي على غرار محفوظ، والذي شكَّلت رواياته -بمعيَّة أعمال عديدٍ من الأدباء- إرثًا عظيمًا في تراث السينما العربيَّة لا يمكن أن يُمحى أو يُنسى.

وإن ابتدأ قولي بنجيب وما أبدعته الرواية من فصول جُسِّدَت في السينما، فلا يزدانُ إلا بالانتقال بعدها إلى مَن قرَّبَ الصورة الأدبية العربية لتُجسِّد قصصَ الناس الأقل حظًا، وأقصدُ هنا عبدالرحمن الشرقاوي، ذاك الشاعر الذي وصف لنا أهميَّة الكلمة وقيمتها. وأنتجت لنا مجاورته للفلاح المصري ملحمة «الأرض - 1969» التي حُوِّلت، بمجهودِ يوسف شاهين، إلى أعظمِ فيلمٍ في تاريخ السينما العربية، وأنتجت كذلك شارع عزيز في «الشوارع الخلفية - 1974»، ذلك الزقاق الذي عكس - للقارئ والمشاهد - أصداءَ آراءِ المصريين وتفاعلاتهم مع الواقع عقب الاحتجاجات المصريَّة عامي 1935 و1936. هذا العمل قُدِّمَ للسينما والتلفزيون بشكلٍ هزيلٍ في رأيي، وذلك على الرغم من تعملقِ كلٍّ من محمود المليجي وجمال سليمان في تأدية دور الضابط الوطني الذي أبى سقوط المصريين برصاصٍ مصري في نضالهم ضد الإنجليز.

ولم تكتفِ الرواية العربية بتجسيد هذه الأبعاد من التفاوت الطبقي، بل تجاوزته لتتطرَّق إلى موضوعاتٍ أكثر حساسية، مثل ما تُقاسيه النساء من اعتداءات، وهي الثيمة التي لا تكاد روايات يوسف إدريس - التي تحوَّلت إلى أفلام - تخلو منها، ويبدو ذلك جليًا في أحدِ أهمِّ أفلام السينما المصرية وأجرأها من حيث الموضوعات: «الحرام - 1965»، والذي حظيَ باحتفاءٍ نقديٍّ كبير، إذ كان ضمن الأفلام المرشَّحة لجائزة السعفة الذهبيَّة في مهرجان «كان»، في السنة التي فاز فيها مخرج أفلام البيتلز ريتشارد ليستر عن فيلمه «البراعة، وكيف تكتسبها» (The Knack …and How to Get It - 1965). وكان الفيلم الذي أخرجه شيخ المخرجين هنري بركات، من بطولة سيِّدة الشاشة العربية فاتن حمامة، يتحدث عن تعرُّض سيِّدةٍ متزوجة من زوج مُقعدٍ للاغتصاب، ما يُفضي إلى حملها الذي تسعى لمواراته عن الأنظار كي لا تثير الشك، الأمر الذي يجعلها تعيش مأساةً تخطف الأنفاس، تنتهي بموتها بحمَّى النفاس. وكما قلنا، فإن يوسف إدريس لم يكتفِ بهذا الفيلم وحده في مناقشة هذه المفارقات الصادمة التي تحيط بالمرأة والجنس، بل تعداه إلى أفلامٍ جعلت هذه الثيمات أكثر وضوحًا؛ ابتداءً من «حادث شرف - 1971»، و«الندَّاهة - 1975»، وانتهاءً بـ «لا وقت للحب - 1963»، و«قاع المدينة - 1974».

وإن رجِعنا - قبل هؤلاءِ الروائيِّين الثلاثة - خطوتين إلى الوراء بغرض التأريخ، فإنَّنا سنتعثر برواية تعتبر من أوائل الروايات التي تمَّ تحويلها إلى فيلمٍ سينمائي، وهي «دعاء الكروان» لطه حسين، من إخراج شيخ المخرجين الذي اعتاد تصدُّر المشهدِ في كلِّ منعطفٍ من منعطفات السينما المصريَّة. يتحدَّث الفيلم - في ثيمةٍ مُقاربةٍ لأفلامِ يوسف إدريس - عمَّا يحمله اغتصابُ المرأة من ويلاتٍ تلحق بها وحدها دون المغتصِب، ويتضح ذلك جليًا في ترحيل «آمنة» و«هنادي» من قبل خالهما بسبب ما كان شائعًا عن والدهما في حياته من هتكه للأعراض، الذي ينتهي بصراعٍ داخليٍّ تخوضُه آمنة بين رغبتها في الانتقام لأختها هنادي من المهندس الذي اغتصبها أثناء عملها لديه، مقدِّمًا ذريعةً لخالها الجبان لقتلها، وبين مشاعرها التي بدأت تداهمها تجاه هذا المهندس. ولا أظنُّ أن المفارقة التي كتبها طه حسين وعالجها سينمائيًّا حسن جوهر وهنري بركات هي مفارقةٌ جيِّدةٌ بعينها، في تصويرها لما تقاسيه الشخصيَّة في الاختيار، لكنَّها حتمًا روايةٌ فارقةٌ في تاريخ الوعي حول قضيَّة الاعتداء على المرأة وما تحتمله فوق الاعتداء من حمولاتٍ ثقافيَّةٍ ظالمة.

ربَّما هناك روائيٌّ سبقَ طه حسين بالظهور السينمائي، ألا وهو إحسان عبد القدوس، القادم من عائلةٍ أسَّسَت أركان الثقافةِ المقروءةِ في مصر، فوالدته هي روز اليوسف، الممثلة اللبنانية التي تركت خشبة المسرح وطرقت أبواب الصحافة، مؤسِّسةً لواحدةٍ من أهم وأعرق المجلات الفنية: «روز اليوسف» التي تصدرُ منذ عشرينيات القرن الماضي حتى يومنا هذا؛ أما والده فهو محمد عبد القدوس، والذي يعدُّ من الطليعة الرائدة في السينما في مصر. بالتالي نحن أمام روائيٍّ نشأ في بيتٍ عامرٍ بالفن، وبهذا الحب للفنِّ تزوَّد إحسان كي يخطَّ رواياته التي حَوَّلها إلى أفلام، بدءًا من أعمال على غرار «الوسادة الخالية - 1957»، «لا أنام - 1957» و«أنا حرة - 1959» (وهذه الأفلام الثلاثة من إخراج صلاح أبو سيف)، وصولًا إلى ما يُقربُ عن سبعين فيلمًا، وهذا ما يتطلَّب مقالًا خاصًا للحديث عنها وعن كاتبها.

لم تكن الروايات العربية التي اقتبستها السينما تقدِّمُ واقعًا اجتماعيًا مبنيًا على ضوءِ قصصٍ غراميَّةٍ فقط، بل كانت تتجاوزُ ذلك لتطرح موضوعاتٍ سياسيَّةً حسَّاسة، لعلَّ أبرزَها ما ناقشه يوسف القعيد في فيلميه «المواطن مصري - 1991» و«زيارة السيد الرئيس - 1994». وإن خرجنا من مصر، فسنرى السياسةَ أكثر وضوحًا، ولعلَّ ذلك عائدٌ إلى الحركة الأدبيَّة التي تميَّزت بها مصر في الثلاثينيَّات متأثرةً بالأدب الروسي، ممَّا جعلها تعالجُ ما هو سياسيٌّ عبر قضايا اجتماعية، على عكس ما يقدِّمه الأدب العربي في الشؤون السياسية من مذكَّرات، أو مفارقاتٍ مسرحيَّة، الذي يتجلَّى فيما قدَّمه محمد شكري في «الخبز الحافي» (التي جرى تحويلها إلى فيلمٍ سينمائيٍّ عام 2004 من إخراج رشيد بن حاج)، ومحمد الماغوط في ثنائيته مع دريد لحام في «الحدود - 1982» و«التقرير - 1986»، إلى جانب الفيلم المغربي «الغرفة السوداء - 2004»، والمستوحى من قصة جواد مديوش وما عاناه في السجون في السبعينيات، وما كتبه غسان كنفاني من وحي القضية الفلسطينية والمعاناة التي تواجه الفلسطينيين من بعد النكبة. وقدمت مجموع هذه الأعمال معالجةً أكثر وضوحًا ومباشرةً ممَّا تقدِّمه الرواية المصريَّة في السينما.

وفي سياق ذكر الأدب الروسي وأثره في الرواية المصرية، فإن دوستويفسكي كان حاضرًا في الكادر العربي أيضًا إلى جانب الروائيين المصريين، إذ حضرت «الجريمة والعقاب» في فيلمين مختلفين، هما «الجريمة والعقاب - 1957» لإبراهيم عمارة، و«سونيا والمجنون - 1977» لحسام الدين مصطفى، والذي أخرج أيضًا رائعة «الأخوة كارامازوف» في فيلم «الإخوة الأعداء - 1974»، كما حضرت رواية «آنا كارنينا» لليو تولستوي في فيلم عز الدين ذو الفقار «نهر الحب - 1960»، والذي كان من بطولة كل من فاتن حمامة وعمر الشريف. ولم تكتفِ السينما المصرية في اِستلهامها من الأدب العالمي بالأدب الروسي فقط، بل امتدت لتشمل الأدب الفرنسي برواية «تيريز راكان» لإميل زولا عبر فيلم «الوحش داخل الإنسان - 1980» ومسرحية ألبير كامو «سوء تفاهم» في فيلم «المجهول - 1984» (واللذين أخرجهما أشرف فهمي)، وتمصير معاناة جان فالجان في نسختين من فيلم «البؤساء»، الأولى عام 1944 من إخراج كمال سليم (وفيها أصبح جان فالجان "الشرقاوي")، والثانية عام 1978  من إخراج عاطف سالم (وفيها أصبح جان فالجان "حامد حمدان")؛ كما تم نقل ما صوره أوجين أونيل من مأساة إنسانيَّةٍ في مسرحيته «رغبة تحت شجرة الدردار»، إلى قصة مصرية في فيلم «عيون لا تنام - 1981» من إخراج رأفت الميهي.

ومن قبيل المصادفة، فإنَّ رائعة رأفت الميهي «عيون لا تنام» تقودُنا إلى العام الذي انتهى فيه إبراهيم أصلان من كتابة أروع رواياته «مالك الحزين»، والتي حوَّلها المخرجُ العظيم داود عبد السيد بعد عشرِ سنواتٍ إلى أهمِّ أفلام محمود عبد العزيز وأروعها «الكيت كات - 1991»، والذي قدَّم أحبَّ شخصياتِ السينما المصريَّة إلى قلبي وهي شخصية الشيخ حسني، الرجل الذي يتغلَّب على وحدته بخفَّة الظل، إلى جانب شخصيَّاتٍ منوَّعةٍ أخرى عبَّرت عن مصر وأهلها في إطار الحقبة التي تعيشها الرواية.

ويحضرني - حين نتحدث عن شمولية الرواية المصرية في استحضار شخصية المواطن المصري - فيلم «عمارة يعقوبيان - 2006» وما شمله من أداءٍ عملاقٍ لعادل إمام، تخطِّي الخفوت الذي حلَّ بأداء الزعيم في أفلامٍ باليةٍ سبقت هذا الفيلم مثل «عريس من جهة أمنية - 2004» و«التجربة الدنماركية - 2003»، وأعادت إلى الأذهان ما لا يمكن أن يغيب: هذا الرجل زعيمٌ بحق.

واستذكارًا للخفوت الذي يحلُّ بالمشهدِ ونجومه من فينةٍ إلى أخرى، لا أظنُّ أنَّ أحدًا ينكرُ أنَّنا نعيشُ في حقبةٍ خافتةٍ باليةٍ في السينما المصرية، لا يوجد فيها ما يُذكَر إلا خمسة أفلامٍ أو ستة ربما، وسيبهرك يا عزيزي أنَّ أغلبها أفلامٌ مأخوذةٌ من روايات، مثل «هيبتا - 2016» و«تراب الماس - 2018» و«الفيل الأزرق» بأجزائه الثلاثة (الأوَّل-2014، الثاني-2019، والثالث الذي سيُعرضُ قريبًا)، والتي حظيت باحتفاءٍ نقديٍّ وحفاوةٍ جماهيريَّةٍ غابت عن جلِّ أفلامِ هذا العقد.

وقبلَ أن أسدِلَ الستارَ على روايةِ هذا المقال، لا يجب أن نغفَلَ عمَّا كتب شهيد القبارصة الوزير يوسف السباعي، بل يجب أن يحتلَّ ما كتبَه الصدرَ من حديثِنا هذا، فذاكرة السينما المصرية حوَت - من بين أعظم ما صَوَّرَت - ما كتبَ الرجل وأبدع، مثل «أرض النفاق - 1968»، «أم رتيبة - 1959» و«السقا مات - 1981» و«بين الأطلال - 1959» و«اذكريني - 1978» و«نادية - 1969».

وفي الختام، نعود إلى حيث بدأنا، إلى نجيب محفوظ وما كتبه للسينما وأضافه إلى التراث الأدبي من حكاياتٍ واقعيَّة، كان له السبق فيها في طرْق كل الموضوعات التي ذُكرت في السينما وزيادة، وكان له نصيب الأسد من قصصٍ صُنِّفَت من بين أفضل مئة فيلمٍ في السينما المصريَّة، إذ قد تصل الأفلام المقتبسة من أعماله لوحده إلى عشرين فيلمًا منهم، فسبحان من خلقَه وخصَّ فيه دونًا عن خلقه هذه المواهب، التي جعلته يطرقُ ما استغلظ من الموضوعات، بأكثرِ الطرائق سلاسة، لتستوعبها السينما وتعقِّلها، فرحمات الله تغشى نجيبًا وما أنتج نجيب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

راكان عبدالعزيز
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا