أزمة السكن وفقدان الهوية وتشظي العلاقات الأسرية مواضيع رئيسية في فيلم "قنديل البحر" (Jellyfish)، 2007. الفيلم كتبته الممثلة والكاتبة شيرا جيفن وشاركها في إخراجه زوجها إيتجار كيرت، ويروي قصة ثلاث نساء، يلتقين صدفة في حفل عرس، دون معرفة مسبقة، فتتقاطع مصائرهن لترسم صورة خانقة للحياة في إسرائيل اليوم. مع ذلك لا يمت هذا الفيلم للسياسة بصلة، بل يتناول الموضوع من منظور إنساني يبتعد عن الإدانة ويحوي قدرًا من النقد الذاتي بهدف الخروج بحل أو خلاص للتيه والشتات المعاصر الذي تعاني منه شخصياته.
بين المضمر والمعلن
بلغة رمزية يعرض مشهد الافتتاحية الحل قبل أن نتعرف على المشكلة. خلفية اللقطة لوحة زرقاء للمحيط. تظهر باتيا بجوار شاب يحمل في حضنه حقيبة عليها قارورة بداخلها مُجَسَّم لسفينة. يرتدي الشاب "تي شيرت" مكتوب عليه بالإنجليزية "NEVER THINK TWICE" "لا تفكر مرتين".
ولهذه العبارة علاقة وطيدة بمضمون الفيلم وبانفصالهما كما يوضح الحوار التالي:
صديقها: "ألا تودين أن تقولي شيئاً؟"
باتيا: "مثل ماذا؟"
صديقها: "لا أعلم، (قولي) ابقَ مثلاَ".
مضمون العبارة على التيشيرت يقول:
لا تتردد؛ القرار لا يحتمل التفكير.. وكأن العبارة هنا موجهة لباتيا، لكنها موجهة للمتلقي أيضًا. تصمت باتيا، وصمتها قرار أخير يزكي فكرة الرحيل التي يلمح إليها الفيلم. ينتهي العمال من شحن العفش فيحثه سائق الشاحنة على المغادرة، وكأنهم على عجلة من أمرهم.
أثناء حديثهما المقتضب تنظر باتيا معظم الوقت إلى العبارة المكتوبة على التيشيرت وإلى القارورة في يده. كلماتها القليلة ونظراتها ثم صمتها في الأخير تكشف عن رغبة في عدم المواجهة. وبعد مغادرته تهمس: "ابقَ". وبهذا الرد– الذي لم يسمعه صديقها- تُعبِّر عن مكنون ينطوي على صراع نفسي بين رغبتين: رغبتها في بقائه، ورغبتها فيما هو أفضل لكليهما. وستُظهر الأحداث اللاحقة أن ترددها يؤكد رغبتها غير المعلنة في الرحيل. وهذا ما ستفعله في النهاية بعد أن تغرق شقتها الإيجار بالمياه. أما السفينة فرمز سيظهر في مشاهد لاحقة عدة، إضافة إلى رموز أخرى، سيكشف التحليل عن دلالاتها، وهي: الشقة، والطفلة التي تظهر وتختفي فجأة، وكذلك رمزية قنديل البحر.
معنى البيت والمنزل
تعيش شخصيات القصة في شقق إيجار بائسة أو فنادق مزدحمة. باتيا تعيش في شقة إيجار يتسرب إليها الماء من الطابق العلوي. يهمل مالك الشقة صيانتها، ويهتم فقط بجمع الإيجار وزيادته من حين لآخر. يسوء الوضع فتغرق أرضيتها بالمياه، وتغادر باتيا لتعيش مؤقتاً عند زميلتها. المنازل متوفرة فقط في إعلانات "تأمين الحياة" في التلفزيون ولوحات الشوارع، أما الواقع فمختلف. إعلان بيع المنازل يتخذ من البيت والتفاحة شعاراً له. تقول أم باتيا في الإعلان التلفزيوني: "كل أُم ترغب في أن تُعطي العالمَ لطفلها، لكن ليس بمقدور الجميع ذلك. الجميع يستحق سقفاً يحميهم..."
صورة أم باتيا- وهي تعامد كفيها على شكل سقف بيت مثلث الشكل- تَظهر في إعلان بيع الشقق في لوحات الشوارع في لقطات عدة. في إحدى اللقطات، تقف باتيا، بعد تشردها، أمام واحدة من تلك اللوحات. ملامحها ووضعيتها تظهرانها وهي تحلم بأمها كسقف يحتضنها أو يظللها. هذه إشارة أولى للفارق الجوهري بين اليت والمنزل، ولما تحتاجه باتيا: بيت وحضن أسري.
في لقطة دالة على تردي حال الشقة تنظر باتيا إلى دودة تسير بمحاذاة شرخ في الجدار (يشبه خارطة فلسطين). تكتسب الدودة دلالتها الكبرى بمقارنتها بالتفاحة في مشهدين: مشهد التفاحة في الإعلان وأُم باتيا ممسكة بها وهي تقول: إنها "طعام أطفالنا". ومشهد لكيرين وهي تقطع التفاحة فتكتشف أنها فاسدة، مع ذلك يأكلها زوجها مايكل بلا مبالاة. تُظهر مقارنة المشهدين بـ (لوجو) المنزل والتفاحة، في الإعلان، حال إسرائيل كمنزل تنخر فيه الديدان. أضف إلى مشهد الخراب/الفساد هذا: تسرب المياه في شقة باتيا، والزحام، والغلاء، وفقدان الهوية، وانعدام الاستقرار النفسي والمادي، إلى غيرها من صور المعاناة في قصة الفيلم.
من يملك منزلاً لا يملك بيتاً، ومن يملك بيتاً، كالخادمة الفلبينية جُوي، تجبره الظروف على تركه والبحث عن فرصة للحياة في بلد آخر. وأمام صعوبة الحصول على بيت تبقى السفينة، التي تحمل دلالة الرحيل، هي الحل. الشقة رمز لإسرائيل، وسنفهم دلالة هذا الرمز بمعرفة الفارق بين (المنزل) و (البيت)، من خلال مقتطفات من قصيدة (البيت) لإدجار أ. جست:
ليس كل منزلٍ تقطنه يُدعى بيتاً/ تقتضيك حياةٌ كاملة في منزل حتى تكون على صوابٍ وأنت تسميه بيتاً/ لن يصير المنزل بيتاً ما لم تفتقدك أشياؤه حين تغيب، ويشدك الحنين إلى معانقتها وملامستها والتحديق الجائع فيها، لن يصير بيتًا إن لم يؤرقك ذكراه ليل نهار، ويحوطك دفؤه في كل حين. البيت ليس ذلك الذي امتلأ باللآلئ والمجوهرات، وكل الأشياء الميتة التي يسميها الناس نفائس. البيت هو المكان الذي يعلو ويهبط فيه نفَسٌ حيّ، حيث ترتفع الجدران كيما تحوط طفلاً يولد، وحيث يرتفع السقف ليتيح لذلك الطفل أن يشب، وحيث تجد نفسك وقد صرت جزءا لا يتجزأ منه. البيت هو المكان الذي يحوي كل ما تناولته يدك بالاستخدام، ونمتْ محبته في قلبك: المقاعد العتيقة، المطرقة ومجرفة الحديقة، مزلاج الباب وأصيص الزهر، أعشاش العصافير في الشقوق... أعوام من الرقص والغناء، وأعوام من صخب الأطفال وألعابهم، تلزمك لكي تسمي منزلك بيتاً. (من مجموعة "بيت بجانب الطريق"، ترجمة: عبدالوهاب المقالح، كتاب الرافد، العدد 77 سبتمبر 2014.)
بيتٌ بهذه المواصفات كان يسمى فلسطين، مثلما كان يسمى أوطانًا أخرى قدمت منه شخصيات القصة. الواقع أن بعض الممثلين، في هذا الفيلم، لم يولدوا في فلسطين. (Sarah Adler) بدور باتيا من مواليد فرنسا، (Miri Fabian) بدور أمها من مواليد سلوفاكيا، (Shosha Goren) بدور أم مناحيم، المصابة بالزهايمر، مواليد بغداد 1943. ومن ولد هناك فحاله كما قالت زميلة باتيا، التي قامت بدور المصورة: "كلنا من الجيل الثاني لشيء ما".
الجيل الثاني لشيء ما!
الجيل الثاني يعاني عادة من مشاكل فقدان الهوية. وهذا ظاهر في قصة الفيلم التي تسودها أزمة العلاقات العائلية بين الآباء والأبناء والأزواج والزوجات. والدا باتيا منفصلان، ووالدها لا يعرف عن ابنته الكثير ويقيم علاقة مع فتاة في عمرها. يكشف الحوار المقتضب بينهما عن قطيعة. يسألها: "لا زلتِ تعملين في تنسيق الزهور، أليس كذلك؟"، تجيبه: "أعمل كنادلة في الأعراس منذ سنتين". حُرمت باتيا من طفولتها، وثمة حادثة علقت في ذاكرتها وأثرت عليها سلباً وهي طفلة: عندما كانت بصحبة والديها على الشاطئ رغبتْ في تناول الآيسكريم، وعدتها أمها بشرائه عندما يرجع بائع الآيسكريم، لكنه لم يعد.
وتعاني الممثلة (غاليا) من مشكلة مع أمها. في الظاهر تتحجج بأن وقتها لا يسمح لها بالاعتناء بها، فتوظف (جُوي) للاعتناء بأمها المريضة. جوهر المشكلة أنها تفتقد إلى حضن أُمها التي لم تحتضنها قط، والمفارقة أن الأُم عبرت عن تعاطفها مع (جُوي) باحتضانها قبل رحيلها.
و(حاييم) يعاني من مشكلة أسرية: أمه مصابة بالزهايمر ولا يمكنها العيش مع ابنها بسبب زوجته. حين يأتي لها بجُوي لتعتني بها تقول له أُمه: "وفر نقودك لبيتك وأطفالك". يجيبها: "ليس لدي أطفال يا أمي". تسأله مرتين: "لماذا؟"، فيصمت. والمضمر في صمته يكشف أنه لم ينجب بسبب مشاكله مع زوجته، وربما بسبب الحالة المعيشية، أو لأنه لا يرغب في إنجاب أطفال سيكونون مثله عرضة لعدم الاستقرار النفسي. تموت أُمه في اليوم التالي وترفض جُوي أخذ أجرة اليوم.
الزواج يجمع بين (مايكل)، مهاجر من روسيا، و (كيرين)، وستحول الفوارق الثقافية دون تفاهمهما، فهي أفضل تعليماً وتكتب الشعر دون علمه. يتضح هذا حين تحدثه عن تجربة الكتابة قائلة: "إذا أردت الكتابة يمكنك الكتابة في أي مكان". يرد مايكل (باستهجان): "وكيف تعرفين؟ هل سبق أن كتبتِ شيئا؟!"، ترد: "على الأقل أنا لا أخطئ في التهجئة". يرد مايكل: "بالروسية لا أخطئ في التهجئة". ولأنهما لا يعرفان بعضهما جيداً، يتخاصمان في شهر العسل، فيغادر الفندق. ثم هو جالس على الرصيف والمطر ينهمر تمر طفلة تحسبه شحاتاً فتعطيه نقوداً. وفي ذلك دلالة على أن الشحات هناك ليس له مظهر يميزه عن الآخرين.
ثمة شخصية ثانوية لكاتبة تستأجر جناحاً في فندق لتنتحر فيه. المفارقة أن الكاتبة لا تجد الكلمات لتعبر عن شعورها قبل الانتحار، فتجعل من عثورها عليها شرطاً لانتحارها. وبعد مقايضتها للجناح الذي تقيم فيه بغرفة مايكل وكيرين تعثر على الكلمات في قصيدة كتبتها كيرين نستها في الدرج. ثمة صورة تعبيرية هنا توضع في مضمونها الكلمات مقابل الموت والصمت مقابل الحياة.
الكلمات هي ما يشغل بال الكاتبة، لذلك تسأل مايكل عن تهجئة كلمة عار، "عارٌ خالد". يسأل زوجته فتخبره بالتهجئة الصحيحة، ثم يقترح على الكاتبة استبدال كلمة خالد بكلمة "أبديّ"؛ لأنها كما قال: "أقل حتمية وأكثر تفاؤلاً". للعبارة مدلول خاص بحياة الكاتبة: عن العار الذي يدفعها للانتحار. ولأن العار الشخصي لا يتسم بالخلود لذا تكتسب العبارة دلالة عامة: عن العار الجماعي أو العار التاريخي ممثلاً بوجود إسرائيل القائم على إلغاء وجود الآخر.
تفاصيل التيه الصغيرة لا تعبر عن حالات فردية، فتصريح ضابط الشرطة يشير إلى أنها مشكلة أكبر. فبعد اختفاء الطفلة تأتي باتيا إلى مركز الشرطة وتطلب البحث عنها. يقول لها: "هل تعلمين كم عدد المفقودين؟ المفقودون هم في أسفل القائمة وليس لهم الأولوية. ليس لدينا حتى ملف لهم...". يفتح ملفاً يحوي أوراقاً بأسماء بعض المفقودين، يأخذ ورقة ويقرأ لها اسم أحد المفقودين، ثم يصنع من الورقة قارباً، يضعه على المكتب وينفخه. يستمر في قراءة أسماء أخرى إلى أن يتوقف عند اسم صعب فيقول: "لا أستطيع حتى نطق اسمه فكيف سيجدونه!". هنا يكتسب المفقودون دلالة التيه في الوقت الذي يعبر فيه اختفاؤهم، ونفخ الضابط للقارب، عن رحيل/ تيه جماعي.
ارتفاع إيجار الشقة، على الرغم من تسرب المياه، يدل على أزمة سكن وأزمة اقتصادية خانقة، وغرق الشقة يرمز لبلد يغرق كسفينة. سفينة ظلت حبيسة في فاترينة زجاجية إلى أن اشترتها أم غاليا وأهدتها لجُوي التي أخذتها معها هدية لطفلها في الفلبين. اللغات الأوروبية التي يستعملها المقيمون في هذه الشقة الرمزية، وعدم استقرارهم النفسي، شاهدان على جذور لغوية ونفسية تشدهم إلى الأوطان التي غادروها.
سفينة تحن إلى البحر
ترمز السفينة للرحيل وتظهر في مشاهد عدة: سفينة في قارورة، لعبة في فاترينة، ورقة صنع منها الضابط قارباً للمفقودين، ثم كصورة قامت كيرين بتحديدها بقلم، وفي أعلى السفينة ثمة عبارة: "أحلام على الماء"، مكتوبة بالعبرية والإنجليزية وتحمل دلالة السفر. للسفينة- في القصيدة التي كتبتها كيرين، وظن زوجها مايكل أنها آخر ما كتبته الكاتبة قبل انتحارها- دلالات تشير إلى حياة شخصيات القصة وسط محيط قاسٍ:
سفينةٌ في قارورة لن تغرق أو يتراكم عليها الغبار، لها منظر جميل وهي تطفو على الزجاج، لكن لا أحد صغير بما فيه الكفاية ليبحر عليها.. سفينة لا تعرفُ وجهتها، الريح في الخارج لن تدفع أشرعتها؛ فليس لها أشرعة، فقط قصاصة ورق، وقماش، وتحتهما قنديل بحر. جافٌ فمها تلك السفينة، على الرغم من أنها محاطة بماء تشربه من فتحاتِ عيونٍ لا تُغلق. وحين تموت، لن تصطدم بالصخور، ولن يلاحظ أحدٌ موتها. (ترجمتُ القصيدة عن الإنجليزية.)
لا ينطوي الفيلم على خطاب استعطاف للآخر أو للخارج، كما هو حال كثير من أفلام الهولوكوست، بقدر ما هي رسائل لاستنهاض الذات وناقوس تنبيه يفيد بأن هذه السفينة لن تبحر- وستغرق كما غرقت الشقة، أو ستنتحر مثل الكاتبة- إن لم يتم تحريرها بالمحيط. وتحريرها المقترح بالتلميح والرموز يتم عبر رحيلها، أو عبر منظور إنساني يقبل بالآخر المختلف ويتعايش معه.
وطن لقنديل البحر
تخرج طفلة من البحر إلى الشاطئ فتظنها باتيا تائهة، تسألها عن اسمها وأسرتها فتصمت وهي تحدق فيها بعينين براقتين. تأخذها إلى مخفر الشرطة، وبينما الضابط منشغل بشؤونه الأسرية، عبر التلفون، تلحق الطفلة بباتيا. تأخذها إلى الشقة وإلى عملها كنادلة في الأعراس، ثم تختفي الطفلة مثلما ظهرت فجأة. تجدها في الأخير وهي تهرول نحو الشاطئ، فتلحق بها باتيا إلى أعماق المحيط فتردها الطفلة بنفخة هواء تتشكل على هيئة فقاقيع ثم قناديل بحر تصعد باتجاه باتيا وكأنها ترشدها إلى طريق العودة.
عودة الطفلة إلى البحر يمنحها بُعداً غرائبياً ورمزية خاصة وعامة مرادفة للتيه. البُعد العجائبي يربط بين الطفلة وباتيا. الطفلة خارج البحر تائهة، وكذلك تشعر باتيا منذ طفولتها. والحل، كما تصوره هذه الخاتمة، يكمن في العودة إلى الهوية، مثلما عادت الطفلة (قنديل البحر) إلى البيئة التي جاءت منها حتى لا يكون مصيرها مشابها لقنديل بحر لقي حتفه على الشاطئ. ثمة لقطة تعبر عن هذا المصير لقنديل بحر ميت على الشاطئ ورجُل يدوسه بقدمه.
تتضمن المشاهد الأخيرة نظرة تفاؤل:
تخرج باتيا من البحر وهي تعرف ماذا تريد وقد زال القلق والتوتر الذي كان ينتابها لتحل الابتسامة محلهما. تسترجع طفولتها حين تلتقي ببائع الآيسكريم على الشاطئ. وتنفرج أسارير جُويْ وهي في طريقها إلى المطار. أما كيرين فتضع يدها على يد مايكل وكأنها اقتنعت بمصيرهما معاً.
ثنائية الحزن والفرح
تبدو تل أبيب، في الفيلم، كدار مسنين ومفقودين تقوم جُوي برعايتهم. يَبرز التضاد عند مقارنة جُوي ببقية الشخصيات. (جُوي) بالإنجليزية تعني الفرح، لكن الكآبة المحيطة بها تصيبها بعدوى تتخلص منها في لحظات تواصلها التلفوني مع طفلها في الفلبين. في المقابل أغلب الشخصيات متجهمة، تفصلها حواجز نفسية ولغوية مع أنهم يعيشون في مدينة واحدة. جُوي شخصية عاطفية، تحب مساعدة الجميع، خلافاً لبقية الشخصيات. وجُوي هي حلقة الوصل بين الشخصيات المشتتة.
يوجه الفيلم نقداً ذاتياً ويقدم صورة مختلفة للشتات داخل الأرض الموعودة. كما ينتقد هجرة اليهود من خلال معادل موضوعي يتمثل في جُوي التي دفعتها الظروف إلى ترك طفلها ووطنها. وقرار عودتها إلى الفلبين يمثل في الظاهر حلاً لمشكلتها، لكنه في دلالته العامة يمثل حلاً لمشكلة بقية الشخصيات المتخيلة التي تُحيل بدورها إلى الواقع. المفارقة أن إسرائيل، التي محت اسم فلسطين من الخارطة، هي نفسها ممحية من ذاكرة الجيل الجديد.
تتضح هذه الدلالة في عبارة قالها الطفل الفلبيني لأمه في اتصال هاتفي:
الابن: "أريدك أن تعودي إلى البيت".
جوي: "هل أنت غاضب؟".
الابن: "لا أعرف أين أنت".
جوي: "أنا في إسرائيل. هل أخبرتك ميرنا عن إسرائيل؟".
الابن: "لا يوجد مكان بهذا الاسم".
جوي: "بلى، لكنه بعيد جداً، حيث ينتهي البحر"!
تعكس العبارة "لا يوجد مكان بهذا الاسم" نفياً لوجود إسرائيل، بقدر ما يعكس ورودها على لسان طفل التفكير الطفولي أو الخيالي الذي يكذبه الواقع.
السيد كوهين وقنديل البحر
اختيار "قنديل البحر" ليكون اسمًا للفيلم يتضمن دلالات عدة نجدها في صفات هذا الكائن البحري. فهو من أقدم الكائنات على الأرض، منذ 700 مليون سنة تقريباً. وتوجد منه أنواع كثيرة مختلفة الأحجام والألوان. وهو بشكل عام هلامي شفاف، ليس له عمود فقري ولا معدة ولا عقل ولا قلب ولا عيون ولا خياشيم، مع ذلك يشعر بالخطر ويتفاعل مع بيئته ويهاجم فرائسه. يتواجد في جميع محيطات العالم في المياه المالحة والعذبة، ودورة حياته تتضمن تعديلا في الأطوار. ربما لهذه الصفات تم اختياره عنواناً للفيلم وليكون معادلاً موضوعياً ورمزياً لمضمون القصة ودلالاتها وللشخصية اليهودية كما سنراها في مقال شهير لحنا أرندت.
تتشابه شخصيات الفيلم، والقضية التي يعالجها، مع شخصية كوهين كما رسمتها أرندت في عام 1943 في مقال لها بعنوان "نحن اللاجئين". تقول أرندت:
"يوماً ما، سوف يريد أحدهم كتابة القصة الحقيقية للهجرة اليهودية من ألمانيا؛ وسوف يكون عليه أن يبدأها بوصف معين للسيد كوهين من برلين، الذي كان دائماً 150 بالمائة ألمانياً تحدوه نزعة وطنية فائقة. وفي سنة 1933، وجد السيد كوهين ملجأ له في براغ وبسرعة شديدة أصبح على قناعة تامة بأنه وطني تشيكي حقيقي ومخلص تماماً، مثلما كان ألمانياً حقيقياً ومخلصاً. مر الوقت وحوالي سنة 1937 بدأت الحكومة التشيكية، في ذلك الحين تحت ضغط من النازيين، بطرد لاجئيها اليهود... عندئذ ذهب صديقنا كوهين إلى فيينا؛ وحتى يكيف نفسه مع الوضع هناك، كان الأمر يتطلب نزعة وطنية نمساوية معينة. لكن الاجتياح الألماني فرض على السيد كوهن مغادرة البلاد. ووصل إلى باريس في وقت عصيب، ولم يحصل أبداً على ترخيص إقامة قانوني" (حنا أرندت: مقال نحن اللاجئون، ترجمة: فتحي المسكيني)
تُفضل أرندت استعمال مصطلح (الوافدون الجدد)، بدلاً من مصطلح (لاجئ). تقول: "إن معنى مصطلح اللاجئ قد تغير معنا. إن اللاجئين هم الآن من بيننا أولئك الذين شاء القدر المشئوم أن يصلوا إلى بلد جديد من دون وسائل بقاء، وعليهم أن يتلقوا مساعدة من قبل لجان اللاجئين". يبدو هذا الوصف مغايراً في الظاهر لواقع حال الشخصية اليهودية كما يصورها الفيلم. تبدو إسرائيل دولة تعتمد على نفسها، لكن واقع اعتمادها على الغرب يُظهر العكس. وتصف أرندت الشخصية اليهودية بأنها متفائلة؛ وهذا ما يجعلها قادرة على إعادة بناء حياتها من جديد. وهذا ما يتوافق مع خاتمة الفيلم، حيث ينتهي الصراع النفسي بنظرة تفاؤل، ربما يكون "ذلك التفاؤل المعتوه الذي هو أقرب ما يكون إلى اليأس"، كما عبرت أرندت في مقالها.
تعكس قصة الفيلم الشعور بفقدان الهوية، فما زال اليهودي يحمل هويته كلاجئ أو كوافد جديد أكثر من شعوره بهويته كمواطن إسرائيلي.
تقول أرندت في المقالة نفسها:
"إنها عين القصة في كل أنحاء العالم، تتكرر مرة إثر أخرى. في أوروبا صادر النازيون ممتلكاتنا؛ أما في البرازيل، فكان علينا أن ندفع ثلاثين في المائة من ثروتنا... وفي باريس، لم نكن نستطيع أن نترك بيوتنا بعد الثامنة مساءً بسبب أننا يهود؛ ولكن في لوس أنجلوس نحن مقيدون، لأننا (أجانب معادين). إن هويتنا قد تغيرت باستمرار، حيث إنه لا أحد يستطيع أن يكتشف من نحن الآن".
هذه المعاناة ليست نتيجة اضطهاد الآخرين لليهود فقط، ولكن نتيجة صراع يهودي يهودي: "مع الأسف، فإن الأمور لا تبدو أفضل حالاً عندما نلتقي بأناس يهوديين... إن الالتباس الذي كنا نعيش فيه هو في جزء منه من صنع أيدينا" (المرجع السابق)، ثم تذكر أمثلة على تمييز اليهودي لليهودي.
ما تعانيه شخصيات الفيلم نجده في حديث ادوارد سعيد عن تجربته في المنفى وآثارها قائلاً: "كما سيؤكد أي منفى حقيقي، عندما تغادر وطنك، وحيثما انتهى بك المطاف لن تستطيع ببساطة أن تستأنف الحياة وتصبح مجرد أي مواطن آخر في المكان الجديد. أو إذا فعلت، فثمة قدر كبير من الإحراج في الجهد المبذول، الذي يبدو أنه قلما يستحقه. يمكنك أن تقضي وقتاً طويلاً تندم على ما فقدت، تحسد هؤلاء الذين حولك في بيوتهم دائماً، قرب أحبائهم، يعيشون في المكان الذي ولدوا وترعرعوا فيه دون أن يضطروا أبداً إلى اختبار ليس فقدان ما كان لهم يوماً، بل فوق كل شيء الذكرى المعذبة لحياة لا يمكنهم أن يعودوا إليها" (إدوارد سعيد: الآلهة التي تفشل دائماً، ترجمة: حسام الدين خضور، التكوين للطباعة والنشر والتوزيع، 2003، ص 75)
مقال أرندت يفتح مغاليق القصة الرمزية. انتحار الكاتبة، في الفيلم، يعبر عن رغبة في تحقيق "الحرية السالبة"، أو هو "طريقة هادئة ومتواضعة في الزوال"، كما وصفت أرندت الانتحار في سياق المقارنة بين موقف اليهود الأتقياء وغير المتدينين منه. تقول:
"ربما كانوا على حق أولئك الفلاسفة الذين يعلمون الناس أن الانتحار هو الضمانة الأخيرة والعليا للحرية الإنسانية: نحن لسنا أحرارا من أجل خلق حياتنا أو العالم الذي نعيش فيه، وعلى الرغم من ذلك نحن أحرار في أن نرمي بحياتنا بعيدا وأن نغادر العالم. إن اليهود الأتقياء لا يمكنهم، بلا ريب، أن يحققوا هذه الحرية السالبة؛ فهم يرون جريمة في الانتحار، أي نحواً من التدمير للشيء الذي لن يكون المرء قادراً أبداً على صنعه... إن الانتحار عندهم، مثل الجريمة، إنما يعني اعتداءً وتجديفاً على الخليقة بكليتها. وإن الإنسان الذي يقتل نفسه يثبت أن الحياة لا تستحق أن تعاش، وأن العالم لا يستحق أن نسكن فيه. غير أن الذين ينتحرون لدينا ليسوا متمردين مجانين يرفعون تحديا في وجه الحياة والعالم، ويحاولون أن يقتلوا الكون برمته في أنفسهم. إن الانتحار خاصتهم هو طريقة هادئة ومتواضعة في الزوال؛ ويبدو وكأنهم يعتذرون عن الحل العنيف الذي عثروا عليه بالنسبة إلى مشاكلهم الشخصية. وفي رأيهم، على العموم، ليس للأحداث السياسية أي شأن مع قدرهم الفردي، وفي الأوقات الجيدة أو السيئة، هم يعتقدون فقط في كيانهم الشخصي" (حنا أرندت: نحن اللاجئون).
انتحار الكاتبة في الفندق يكشف عن أزمة نفسية وروحية أعمق من الأزمة الاقتصادية أو مشكلة السكن- مأوى الجسد. اختارت الكاتبة الفندق لتنتحر فيه؛ لأنها تكره الفنادق كما قالت، ولهذا الاختيار دلالة تعكس غياب الاستقرار النفسي والجسدي. الأزمة النفسية كما يصورها الفيلم سببها تفكك العلاقات الاجتماعية والأسرية. فالإنسان، بحسب أرندت، "حيوان اجتماعي والحياة ليست سهلة بالنسبة إليه عندما تكون الروابط الاجتماعية مقطوعة".
مشكلة الهوية تكمن في الصراع بين مطالب المؤسسة في تكوين شخصية يهودية وبين رغبة الذات في التغير. أو كما عبرت أرندت: "مهما كان ما نفعله، مهما كان ما ندَّعي أننا نكونه، نحن لا نكشف عن أي شيء آخر سوى عن رغبتنا في أن نتغير، وليس في أن نكون يهوداً. كل نشاطاتنا موجهة نحو بلوغ هذا الهدف: لا نريد أن نكون لاجئين... لم ننجح ولم نستطع أن ننجح؛ وتحت غطاء نزعتنا التفاؤلية يمكنك بكل يسر أن تستشعر الحزن اليائس لدعاة الاندماج" (المرجع السابق).
سبب رفض مصطلح لاجئ وصعوبة الاندماج هو أن الوطن يصبح لعبة أو موضة يمل منها المرء فيطالب بأخرى جديدة. تقول أرندت:
"إن الارتباك اليائس لهؤلاء التائهين تيه أوليس، الذين، على عكس الصورة النمطية عنهم، لا يعرفون من هم فعلا، إنما من السهل تفسيره من خلال هوسهم الكامل برفض الاحتفاظ بهويتهم. وهذا الهوس هو أقدم عهداً من العشر سنوات الأخيرة التي كشفت عن العبثية العميقة لوجودنا. نحن مثل أناس لهم فكرة ثابتة، لا يستطيعون دوماً أن يتمالكوا أنفسهم عن محاولة إخفاء وصمة عار خيالية. وهكذا نحن مغرمون على نحو متحمس بكل إمكانية جديدة تبدو، لكونها جديدة، قادرة على فعل المعجزات. نحن مفتونون بأية جنسية جديدة تماماً، مثلما تفرح امرأة بدينة بأي فستان جديد يعدها بأن يمنحها خط الخصر المرغوب فيه. لكنها لا تحب الفستان الجديد إلا وهي تعتقد في صفاته الإعجازية، وسوف ترمي به بعيداً بمجرد أن تكشف أنه لا يغير من قامتها، أو من وضعها" (المرجع السابق).
تَخلُص أرندت إلى أن طرد اليهود من أوروبا أدى في الحقيقة إلى خروج ملايين الأوروبيين من أوطانهم: "إن عصبة الشعوب الأوروبية قد تشظت عندما سمحت بأن يتم إقصاء العضو الأضعف فيها وبأن يتم اضطهاده". أرندت هنا تقرر أن اليهود المطرودين كانوا في الحقيقة مواطنين أوروبيين، وقد كان بإمكان البلدان الأوروبية منع هجرتهم. فإن نحن وضعنا إسرائيل اليوم مكان أوروبا الأمس، ونظرنا إلى القضية الفلسطينية من منظور الفيلم الإنساني، ألا يمكن قول الشيء نفسه، عن تهجير مئات آلاف الفلسطينيين وارتكاب المجازر وهدم القرى وتدمير المدن واستيطان الأراضي؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش