ضمن فعاليات مؤتمر النقد بالرياض عرض فيلم أريج السحيري «تحت الشجرة» فكانت الفرصة مناسبة لاكتشاف عمل مميز من جهة لغته السينمائية المبتكرة ومعالجته الدرامية الفريدة على بساطة قصته وتلقائيتها. تختزل أحداثه في وقائع يوم من أيام مجموعة من العمال الفلاحين الذين يتولون جني ثمار التين في إحدى ضيعات «كسرى» بالشمال التونسي. هم مراهقون يتطلّعون إلى تجارب جديدة في الحياة فيتبادلون الغزل اللطيف أو يتصادمون بسبب المنافسة على الفوز بالشريك وحولهم عمال أكبر منهم سنا وخبرة، يراقبونهم بعين ناقدة رافضة مجسدة للصراع بين الأجيال. ويراقب «الشيف» الجميع ويبسط سلطانه عليهم، آمرا ناهيا، مستأثرا برفقة أجمل الفتيات. ولكن يحدث أن يتأثر بعض هؤلاء الشيوخ بهم ويحنّ إلى أيام الصبا. فتستدعي الخالة هنيّة عشقا قديما تالفا ظنّت أنه انمحى من الذّاكرة ليهجم عليها فجأة ويجعلها تنخرط في حالة من الوجد والشّجن. لا شيء ذا بال يحدث «تحت الشجرة» إذن، غير ما هو معاد مكرّر مما يقع في عامّة الأيام.
على الأقلّ هذا ما يبدو للمتفرّج العَجل. أمّا التدبّر المتأني لأحداث الفيلم فيساعدنا على اختراق الطبقة السطحية وعلى النفاذ إلى الطبقات العميقة منه حيث تقع أشياء كثيرة تحت هذه الأشجار، نقتصر منها في ورقتنا هذه على ما يتعلّق بخصائص السيناريو وفن الإخراج.
1- سيناريو يخرق المقاييس التقليدية في الإنشاء السينمائي
تبدأ أحداث الفيلم بذهاب العمّال إلى البساتين صباحا وتنتهي بعودتهم منها مساء. وبين الحركتين والزمنين تجدّ وقائع كثيرة. ولكنها لم تكن تترابط عضويا بقدر ما كانت تتعاقب على خط الزمن أو تتجاور في فضاء البساتين تحت أشجار التين كثيفة الأغصان والأوراق. ولم تكن تشكّل حكاية واحدة متناغمة، في الظاهر على الأقل، بقدر ما كانت تعرض مسارات متوازية كرغبة الشيف في التقرب من الشابة الجامح «فيدا» أو عمل «فراس» على الانتقام من الشيف الذي يستغل جهده، وعلى تحقيق العدالة على طريقته فيسرق نصيبا من ثمار التين...
على هذا النّحو كانت كاميرا أريج السحيري تلتقط أحداث يومٍ من أيام القرية النائية، فتغوص في تفاصيله الكثيرة وتجمع شتاته. وليس تشذر الحكاية هُنا وهناك في الحبكة بتشتّتٍ، بقدر ما هو كسر للمقاييس التقليدية للبناء الدرامي الهرمي ثلاثي التشكيل. فلا يتدرج البناء من بداية تعرض الشخصيات وتقدّم الفضاء، إلى وسط يُستهلّ بحدث قادح مولّد للاضطراب والتوتر، إلى نهاية ينحل فيها الصراع ويؤول التوتر إلى هدوء جديد. إنما يبحث عن صيغة جديدة أكثر حيوية. فتلتقط تفاصيل اليومي في انسيابه وتلقائيته تماما كما يحدث في عالمنا الفعلي، وتترك مهمة إعادة صياغة مساره للمتفرّج وتجعله شريكا في عملية الإنشاء.
تحاول هذه الحبكة المبتكرة أن ترتقي بمشاغل مجموعة مهمشة في الشمال التونسي المهمّش بدوره إلى مستوى الإنساني العام. فتجعل من جموح الشابة «فيدا» تجسيدا لحماسة الشباب وتمرده على القيم الاجتماعية المُرائية. وتتّخذ من غزل الفتيان ومن محاولة تقربهم من الفتيات صروة لرغبة الشباب في اكتشف الجنس الآخر في مجتمع محافظ محاصر بالأوامر والنّواهي. وتجسّد من صدامهم مع الكهول والشيوخ صراع الأجيال الذي لا يخلو منه مجتمع. وليست غطرسة الشيف واستئثاره بخيرات البساتين وسرقته لمجهود العمال غير صورةٍ من غطرسة السلطة.
وعلى خلاف القصّ الأدبي، لا تحضر الشّخصيّة في السينما إلا وهي ثلاثيّة الأبعاد. فهي:
- أدوار وبُنى عميقة منها، في فيلم «تحت الشجرة»، الفتاة الجامح أو الشاب المغامر أو اليتيم المنكسر ومنها الشيخ الفضولي أو العجوز المتبرمة.
- وهي شخصيات تدفع بهذه البُنى العميقة إلى السطح وتُحقّق هذه الأدوار ضمن نماذج مجتمعية. فيجسّد السيناريو الفتاة الشابة الجامح في شخصية «فيدا» أو الشاب المغامر في شخصية «فراس» أو اليتيم الذي تُسلب منه بساتين والده ويضطر إلى العمل فيها، فتسلب منه أجرة يومه، في شخصية «عبدو». ويجعل من العجوز المتبرمة «الخالةَ هنية»، أو من الشيخ الفضولي المتلصّص على عوالم الشبان «العمَّ بو جمعة». يتناوب ظهور هذه الشخصيات حينا ويتزامن حينا آخر ولا يستأثر أحدها بالبطولة دونا عن غيره، أو لنقل أن البساتين هي من تنتزع دور البطولة بما تضم من أحلام شخصياتها وهواجسهم وقضاياهم، فتستقطب كل الاهتمام.
2- الإخراج: حينما تتحوّل الكاميرا إلى مشرط يشرّح المشاعر والقيم
يُعهد للتمثيل أن يمنح الشخصية بعدها الثالث الذي ذكرناه سابقا. فينقلها من التّمثل الذّهني إلى التجسيد المادي على الشّاشة الكبيرة. وفي هذه المرحلة يُضحي الممثل والمُخرجُ الذي يوجّهه، شريكين لكاتب السيناريو في تشكيلها. فتجسّد «فداء الفضيلي» دور الفتاة الجريئة فيدا بتميّز، وتتقن «فاتن الفضيلي» دور شقيقتها ملاك المُحبة الحييّة ويتقمّص «عبد الحق المرابطي» دور حبيبها عبدو بألمعية. وتؤدي «هنية صباحي» دور الخالة هنية بتلقائية. ويُحسب للمخرجة أمران خاصّة:
- تعويلها على ما يعرف بالممثل الطبيعي، ذلك الشخص الذي يُختار من الحياة العامّة بناء على توافق مواصفات حياته الخاصة وتجربته الفريدة مع عوالم الشخصية الفيلمية، لا من استوديوهات التمثيل. فيمثل بفطرته لا بخبرته أو معارفه بمدارس التمثيل واتجاهاتها.
- نجاحها في تخليص ممثليها غير المحترفين من مراقبة ذواتهم ومساعدتهم على الانسجام بتلقائية مع الأدوار المقترحة عليهم، لينجحوا في سحب المتفرّج إلى حياتهم الريفية وجعله يغوص في تفاصيل أحلامهم ويتقاسم معهم هواجسهم.
وعبر التقطيع الفني تجعل المخرجة جسدَ الممثّل مادةً فنية، تشكلها وهي تُدرجها في الفضاء وتختار أنواع اللقطات وزوايا التصوير المناسبة، لخلق علاقات بينهما منتجة للمعنى. فتغلب اللقطات الكبيرة التي تعرض الملامح وفق زوايا غطسٍ وغطسٍ مضاد، خاصة عند الحوار بين شخصية فوق الشجرة وأخرى تحتها.
وتعدّ مثل هذه اللقطات التي تُسلّط على المحيا، فتلتقط المشاعر وهي تضيء الوجه وتنطبع على صفحته، منفذَ المتفرّج إلى عوالم الشخصية الباطنة. ومعلوم أنّ زاويتي الغطس والغطس المضاد تحرّفان الصّورة سواء كان مبالغة أو تقزيما. لذلك يتحوّل عشق ملاك الشديد إلى مرض وذبول، وقيادة «الشيف» إلى غطرسة وتسلط، وبحث فراس عن العدالة إلى تحيّل، وذكرى هنيّة إلى حنين جارف. وتختزل المواجهة بين الشخصيات التي تلتقي في يوم واحد وفي فضاء واحد ما يجول في نفس الإنسان عامة من المشاعر المضطربة كالتسلط والحنو والكره والحب والمواجهة بين القيم من خير وشر وأمانة وخيانة.
وعلى خلاف التقطيع الفني لمشاهد الوسط، اعتمدت البداية والنهاية لقطات عامة تأخذنا من القرية إلى البساتين الشاسعة أو تعود إليها لتنزيل الأحداث فيها، فتضطلع بدور «تأطيري» أولا ثم تغدو مرقاة إلى الاستعارة البصرية المولّدة للإيحاء. فالبساتين الشاسعة التي يُضحي فيها المرء ضئيلا لا يكاد يرى، تتحوّل إلى جنة ضائعة فاكهتها محرّمة، يعيش فيها قطّانها العذاب والحرمان رغم ما فيها من الثروات.
إذن، لم تكن المخرجة أريج السحيري تعزل ممثليها في بساتين منطقة كسرى الجبلية المنيعة في الشمال التونسي لتعرض وقائع يوم من أيام أهاليها، بقدر ما كانت تضع الإنسان عامّة على طاولة التشريح. فتتخذ من الكاميرا التي تلتقط في المؤثر العاطفي ما يصاحبه من الصدام والصراع والغيرة والمؤامرات مشرِطها، لتعرض التجاذب بين الذكر الأنثي أوان تأججه في سنّ الصبا والشباب، أو تحفر عنه في الذّاكرة التي تخزّنه. وتعيد بعثه بعد أن يغدو نثارا ورميما. فتستعيد العمة هنية همًّا دفينًا من ماضيها البعيد، وتنهار ولا تجد في غير الغناء الشجي علاجا لحنينها الجارف.
فيلم «تحت الشجرة» إذن فيلم مركب، تشتمل طبقته السطحية على سينما مباشرة واقعية سمتها التلقائية التي لا إيحاء فيها. تعرض وقائع لا طريف أو فريد فيها. ولكن تحتها تكمن طبقات عميقة، فيها تتحوّل البساتين إلى استعارة كبرى لعالم الإنسان. واختراقُ الكاميرا لها هو اختراق لباطن الإنسان مطلقاً، وتصويرٌ لمشاعره المتناقضة، ومن هنا مأتى الطرافة والفرادة ومن هنا أيضا مكمن الوقوع على الإنساني الكوني. وهذا ما يجعل الفيلم يبشر بسينما جديدة واعدة لشابة جريئة فنيّا مختلفة أسلوبا، تستدعي القراءة المتبسطة في توسع نتعهّد به ضمن هذه الورقات السينمائية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش