هناك من لا يمتلك سعة كافية لإضمار ما يشعر به، لاسيما إن كانت نواياه الدميمة الملتاثة تسيطر بسلبيتها الفائقة على نفسه التائقة للاعتراض على ما لم تعتقده عدلاً، فتدخلت بغرض تسخير حق قدري تَمَنّع وضلَّ طريقه عنها. وللغة عبارات لفظية كما للسينما من تعابير وجهية؛ عبقرية وصفية من شأنها أن تفرّع الكلمة وتستنبط الدرجة المناسبة، عوضًا عن تشويه "الغيرة" المتولدة بفضل الفطرة، فاتُهمت بالحسد رغم ما تتسم به من طبيعة بشرية تامة، فهي تتواجد في الصغار والكبار وحتى الحيوانات باعتبارها سلوكيات تطلعية توصف بـ"الغبطة" التائهة في الفلوات التكهنية السلبية. أما الحسد – وبعيدًا عن الاعتقاد بأنه طاقة قد تتسبب في إمحاق الطرف المحسود، أقرب لتمني زوال النعمة – فقد شبهه بعض رجال الدين بالبخل!
يقال: «بخل بما أعطيه غيره وظلمه بطلب زوال ذلك عنه». كما عرّف ديكارت الحسد – مشمئزًا من التقية المعنية بإبطان كل سوء وضرر – بقوله :«هو العصارة الصفراوية التي تأتي من الجزء الأدنى من الكبد والعُصارة السوداء التي تأتي من الطُّحال المنتشرة من القلب عبر الشرايين … إلخ». كما ورد الحسد في معجم فولتير الفلسفي في الجزئية التي كان يتحدث فيها عن هذه السمة الأشبه بالسلاح ذي الحدين، فمثلما ذمها، مدحها مستشهدًا بـ"رافائيل"، والذي لم يكن ليصبح رسامًا عظيمًا لولا غيرته العظمى من مايكل أنجلو!
وفي الوصف الديكارتي والتشنيع الديني نجد أمثلة كثيرة، أولها الرواية العتيقة ليوسف وإخوته، فمنها ندرك أن التقارب أو مساواة الأدنى بالرفيع مسببان رئيسان لهذا الاعتراض الذي بدأ من إبليس وآدم، فكما يقول ديڤيد هيوم في "رسالة الطبيعة البشرية":
«لا يتولد الحسد عن التباين الشديد بيننا وبين الآخرين، بل على العكس، الحسد وليد التقارب. إن أي جندي عادي لن يحمل حسدًا نحو قائده الجنرال مقارنة بما سوف يشعر به نحو رقيبه المباشر أو زميله العريف، كما أن الكاتب عالي المكانة لن يجد نفسه موضع غيرة الكتّاب التافهين المبتذلين، بقدر ما سيلقى الغيرة في صدور مؤلفين أقرب إلى مكانته. إن التباين العظيم يقطع الصلات، وهكذا فإما أن يثنينا عن مقارنة أنفسنا بما هو بعيد عنا غاية البعد، أو أنه يقلل آثار المقارنة».
لذلك نجد أن جميع الاستشهادات – أعلاه – المبنية على دراسات واقعية تتجسد في السينما، فالتقاطعات المؤكدة وغير المؤكدة تلتصق دائمًا بالاختلاف الإبليسي في المكابرة والتواضع الساذج الآدمي الفقير البصيرة. ومن هذه الأفلام الفيلم الذي جُسّد بضرب من خيال مسرحي: "أماديوس" للمخرج التشيكي ميلوش فورمان، الذي تناول سيرة الموسيقي "أنطونيو سالييري" الذي لم يكن كرفائيل!
يظهر موسيقار البلاط الأول في فيينا وهو يبدي كراهيته المضمرة تجاه الشاب الفج، الضحل، الركيك، الزنديق "موتسارت" صاحب الضحكة البلهاء، ليعلن لاحقًا إلحاده بالتزامن مع إبداع الأخير الذي هدد استقراره، ليذكرنا بمن قال: «خلقتني من نار وخلقته من طين»، مستخسرًا عليه موهبة التضرّع إلى خالقه كثيرًا ليحظى بها، وهذا الطمع يظهر بمنطقية في الوهلة الأولى في هيئة تنافُس حميد، حتى تبرز نفس "سالييري" الدنيئة، بملامحه المبطنة التي جسدها الممثل الأوسكاري "موراي أبراهام" بكل إتقان. رغم أن موهبة "موتسارت" لا تتجلى إلا له هو فقط بسبب تواضع ذائقة الجمهور وقتها، وبسبب رهافة سمعه للعبقرية السابقة لعصرها، فإن الطموح بالخلود يظل هاجسه الأبدي. يتنكر "سالييري" لحب الناس له، وللتكريمات التي يحظى بها مَحليًا ليحسد المنبوذ "موتسارت"، مركزًا على النصف الفارغ من الكوب، مدركًا أن كيان الإنسان وقيمته وصيرورته لا تُختزل بمكانٍ واحد فقط، ولا بالحاضر فحسب، ولا بتقويم ماياوي، بل بروزنامة الأساطير المحكومة بأبدية الأوراق التي تلد أوراقًا!
على الرغم من تلك الغيرة المميتة ممن غفل العالم عن إبداعه أثناء حياته، فإن "سالييري" يعترف لموتسارت والأخير على فراش الموت بأنه أعظم موسيقي بالحياة، ما يذكرني بالمثل الأجنبي القائل: «قدّم لي الزهور بينما أستطيع شمّها»، مما يعد دلالة على ضرورة تقدير الإبداع، فالزهور تُقدم أثناء الممات وليس الحياة، وهذه بشاعة أخلاقية يتمتع بها البشر عامة كما يحصل دائمًا في حالة "تعظيم الأموات"، وكأن الامتنان لما يقدمونه والاعتراف بتأثيرهم يُقزِمهم، ولكن لهذا المديح – في الفيلم – مقصد شيطاني آخر، ألا وهو الإمساك بناصية القادم، كمحفز لقريحة وإبداع فنّي يود "سالييري" نَسبه لنفسه بعد أن يفنى مبتدعه، مستغلاً محنة قد تورث منحة، دون أدنى تأنيب لضمير، ودون إدراك لجسامة المصيبة التي قد تسبب بها، كالتضييق على إنسان وإجهاض موهبة في عز شبابها ومحاولة سرقة أحد أعظم أعماله وهي سيمفونية "قداس الموت" التي لم يستطع "موتسارت" إكمالها وهو على فراش الموت. وهذه الصورة برأيي هي أعمق تجليات الغيرة المستترة، فلا يوجد أعمق من الاعتراف بعظمة من نحقد عليه ونكيد له!
فيلم "أماديوس" هو عبارة عن ذاكرةٍ تئن، ولا يُعلم إن كان أنينها بسبب ندم على تهميش شخصية عظيمة أم بسبب آخر، ولكن لصور سيطرة أسوأ الشخصيات علينا وجوه كثيرة، فالمشاعر السلبية الأنانية لا تطلب منا سوى الشعور بالاستحقاق، كالاستحقاق الذي يراود الشاب "ريبلي" الفقير الذي قام بدوره الممثل مات ديمون في فيلم "السيد ريبلى الموهوب" للمخرج الأوسكاري أنتوني مانجيلا، عندما يتظاهر بمزاملة أحد أبناء رجال الأعمال، ليسافر إلى إيطاليا مُكلَّفًا – بعد توكيل الأب الثري – بغرض إقناع "ديكي" – الابن الوريث – بالعودة لموطنه، لتتوطد علاقته بالابن لفترة زمنية بعد أن تحول إلى عميل مزدوج، حتى يسأم الابن الثري لاحقًا من معاشرة الشاب الفقير، طاردًا ذباب الفكرة الإيهامية الموحية بالتقارب الطبقي، مرسخًا فكرة تفاوتها، لتتجلى نفس "ريبلي" غير الزكية – وهو صاحب الإمكانات والطموح – بسخط، ليقتل الابن "ديكي" بدم بارد، بعد أن تتبدد احتمالية التطور الدارويني في علاقتهما التي كان ينميها حتى تأخذ مسارها العاطفي الذي يرضي ميوله المضمرة! رغم أن الغني – برأيي – حين يُسمّع الفقير بفقره، فذلك من باب النيل منه عن طريق إحداث ضرر لفظي، ليتغذى على نظرة الفقير لذاته، كما حصل بالمشهد الذي استُفِز "ريبلي" بسببه.
حتى المسرحية الشعرية الروائية الأصل "يفغيني أونيغين" – التي استُلهم منها الفيلم – ظهرت في إحدى مشاهده، بعد أن تحوّلت إلى أوبرا، فقد كانت تتحدث عن بطل يُدعى "أوجين" يزامل شاعرًا يُدعى "لينسكي" ليتزوج الاثنان أختين جميلتين، إحداهما مصابة بالاكتئاب، وتلك هي التي ارتضاها الشاعر، ليسأم لاحقًا "أوجين" من زوجته المرحة فيطمع في زوجة الشاعر، ليتبارزا لاحقًا فيقتل "أوجين" زميله الشاعر، لينتهي بعدها الجزء الأول من الرواية المطابقة لطمع السيد "ريبلي" الذي سرق حياة "ديكي".
يظهر الحسد في كلا الفيلمين كالطفيلي حين يسيطر على عقل النملة ليقودها إلى أعلى الشجرة مزهقًا جسدها وروحها، وهذا ما يحصل في كل الحكايا الوعظية التي تتناول هذا الشأن مسرحيًا وروائيًا وسينمائيًا، فعدم القبول بالواقع الكريه أشبه بمحاولة تغيير مجرى نمو الشعر، فالغضب له عدة وسائل تنفيسية، أما الحسد فشعور غاضب محرج لا يمكن إيضاحه ولا حتى التعبير عنه ولا بثه بغرض معالجته إلا بخبث الحيلة، وهذا ما يرسخ فكرة طفيليته المسممة للعقل والروح والحياة. فالأمر هنا بمثابة الريشة المستفزة التي تدغدغ أرنبة أنف رجل عصبي مصاب بشلل رباعي لا يقدر على شيء، إلا في حال باع روحه للشيطان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش