مقالات

تأريخ لهوليوود على شكل استعارة

من المعروف أن فيلم Citizen Kane - «المواطن كين» (1941) هو من الأفلام التي قلبت مفهوم الصور المتحركة رأسًا على عقب، ولهذا الادعاء عدة مسوغات سواء بسبب طريقة سرد القصة بصورة مختلفة تمامًا عما عهدته السينما في ذلك الحين، أو بسبب الطريقة الأدبية التي قدمت لنا شخصية كين عن طريق الأديب القدير هيرمان مانكويز. لكن موضوعنا ليس تقدير هذا الفيلم الذي نال ما ناله من الشهرة والتقدير، وإنما الكلام عن الفيلم الذي أخرجه فينشر متكلمًا عن كيفية كتابة هذا الفيلم، أو عن شخصية هيرمان مانكويز نفسه، مانك الكاتب المثقف المرح الذي لا يأخذ أي شيء بجدية، والذي يقضي معظم أوقاته ثملاً أو في قمار خاسر. ذلك بالتحديد هو ما نصبو إليه.

جدير بالذكر أن الفيلم من كتابة والد ديفيد فينشر، ومن المرجح أنه قد كُتب منذ وقت طويل، بيد أن فينشر الوالد قد تُوفي في بداية قرننا هذا. لكن ابنه المخرج الشهير أبى إلا أن يحوِّل تلك الكلمات إلى فيلم سينمائي بطاقم استثنائي من الممثلين يتصدرهم بطل المشهد الأوسكاري غاري أولدمان، يخترق حاجز الزمان ليغرق في تلك الأزمنة الهوليوودية التي استحالت أطلالاً بائدة في يومنا هذا، ألا وهي فترة الأربعينيات من القرن المنصرم.

يتكلم الفيلم عن شيء، من خلال كل شيء. إننا نرى الرحلة التي استغرقها مانك بمساعدة أورسون ويلز المادية فقط في كتابة فيلم «المواطن كين»، من خلال رؤية الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تمر على هوليوود في ذلك الزمن، والتي تنعكس على مانك: ذلك الكاتب الفذ والشخصية المميزة المليئة بالتناقضات في حين، والساخرة بسوداوية في أحيان أخرى. لكن الفيلم بوصفه عملاً فنيًا إن أردنا التركيز فيه، هو استعارة من فينشر الأب في سبيل تأريخ حدث وشخصية مهمين في تاريخ صناعة الصور المتحركة.

استعارة؟ كيف؟ وكم عدد الاستعارات التي جُسِّدت في هذا الفيلم؟

سنتحرى جوابًا لهذين السؤالين عن طريق التنقيب داخل هذه القطعة الفنية التي كان بطلها الممثل القدير غاري أولدمان.

يبدأ الفيلم بالأبيض والأسود، ويستمر على هذا النحو حتى النهاية. تلك أول استعارة على أن ما حدث في هذا الفيلم هو حدث تاريخي انقضى، وأن كل ما نراه هو مجرد محاولة خلق ذلك الماضي الذي يتخذ مظهر الطلل، بشخصياتٍ ماتت، وأحاديث وقضايا اختفت، وسردية بأكملها تغيرت. ثم نرى أمامنا مانك ينزل من سيارته مستندًا إلى عكازه، ونرى جبيرةً بيضاء تغطي كامل قدم مانك وهو يحاول النزول من سيارة نحو مزرعةٍ استأجرها ويلز ليقضي مانك 60 يومًا في كتابة سيناريو «المواطن كين». لكننا وبمجرد أن نسمع أولى الكلمات بين مانك وأورسون ويلز عن طريق الهاتف نعرف من خلال استعارة ذكية للغاية من جاك فينشر أن ما نحن بصدده ليس فقط كتابة سيناريو، بل هو مواجهة قوية محتدمة للغاية، إذ إن فيلم «المواطن كين» يتكلم وبطريقة متهكمة عن سيرة شخصٍ كان أحد زعامات الولايات المتحدة، من خلال المال الوفير والجرائد التي يتحكم من خلالها بأفكار الشعب الأمريكي: وليام راندولف هيرست. لذلك فإن العمل الذي يُقدِم عليه مانك هو انتحار مهني نوعًا ما، ذلك أنه بعد أن كان مقربًا من ذلك الرجل الثري، والمتحكم والمتسلط للغاية، سيصبح في حلبة ضده من خلال كتابة سيناريو فيلم عن حياته التي يملؤها الزيف وعلامات الاستفهام.

يبدأ أورسون المحادثة بسؤال غريب: «هل أنت جاهز لاصطياد الحوت الأبيض العظيم؟».

ويجيب مانك: «فقط ادعني آخاب».

ما هذه الكلمات؟ ولما تشكل استعارة ذكية تغطي كل الفيلم تقريبًا؟

إن فينشر يستهل الفيلم بهذه الكلمات من رواية «موبي ديك» - Moby Dick، الرواية الملحمية العظيمة من الأدب الأمريكي للكاتب هيرمان ميلفل، والتي تتكلم بلسان الراوي إسماعيل عن محاولة قبطان عظيم يُدعى «آخاب» لاصطياد حوت أبيض عظيم يُدعى «موبي ديك»، لتكون مجمل أحداث الرواية عن محاولة اصطياد هذا الحوت الذي نال ما ناله من القبطان آخاب. إننا نرى من خلال هذا التلميح الذكي أن فينشر يخبرنا بأن ما نحن بصدد مشاهدته هو محاولة انتقام مانك من الحوت الأبيض الكبير، لكنه ليس حوتًا من البحر، كلا، بل هو حوت الأموال والصحف الذي يحرك بيديه جميع أخبار الولايات المتحدة، بل إنه يحرك رؤسائها وجميع سلطاتها برمشة عين. ذلك هو الحوت الذي يهم مانك أن يصطاده بقلمه، كما يفعل آخاب برُمحه. ولم يكتف فينشر بهذا التلميح فقط، بل إنه كسر رِجل مانك في السيناريو ووضع جبيرة عليه ليُكمل الاستعارة، موضحًا بأن مانك هو ذاته آخاب، إذ إننا نرى في الرواية آخاب فاقدًا إحدى قدميه، وعلى الرغم من علته هذه فإنه لا يكف عن مراده، بل يكمل مسيرته من أجل اصطياد ذلك الحوت الأبيض اللعين.

تستمر أوجه المقارنة طوال الفيلم، حيث نرى راندولف هيرست هو من كان يعطي معظم أجر مانك، كما يفعل الحوت للقائد آخاب، لأنه هو مصدر رزقه، ذلك أن عمل القبطان آخاب هو «التحويت»، فنرى مقارنةً واضحة لتُشكل معلمًا مجازيًا واضحًا بأن مانك هو القائد آخاب في هذا الفيلم، وأننا بصدد رؤية ملحمة كلاسيكية كما هي رواية «موبي ديك».

لا يتوقف فينشر هنا، بل إنه يضاعف جهوده في جعل طريقة سرد فيلمه «مانك» مماثلاً لطريقة سرد فيلم «المواطن كين»، إذ يستخدم لسان بطله في شرح عملية سرد القصة بهذه الطريقة وفائدتها،

إذ يقول مانك موضحًا طريقته في الكتابة:

«الحكاية عبارة عن دائرة كبيرة، أشبه بكعكة لفائف القرفة. وليست خطًا مستقيمًا يشير إلى أقرب مخرج. لا يمكنك تلخيص حياة رجل في ساعتين؛ أقصى ما بوسعك فعله هو الأمل بأن تترك انطباعًا عن حياته».

إن الكلمات التي قيلت بلسان مانك لا تشرح فقط حلقات الماضي والحاضر في كتابة «المواطن كين» بل إننا نرى خطًا موازيًا من فينشر بكتابته فيلم «مانك» بنفس الطريقة. إن الاثنين يتكلمان عن حياة رجل. ولقد طبَّق فينشر نصيحة مانك في ترك انطباع عن حياته من خلال كتابة الفيلم بهذه الطريقة. لذلك، فإن الخط الزمني للفيلم هو حلقات من الماضي: الزمن الذي يتعرف فيه مانك إلى وليام راندولف هيرست ومعظم أيامه حينما كان كاتبًا في شركة MGM، ومن ثم حلقة من الحاضر: الزمن الذي يقضيه مانك في كتابة سيناريو «المواطن كين».

وفي خضم هذه العملية الإبداعية، يعطي فينشر تلميحًا آخر على أن مانك يعرف أنه سيكتب هذا السيناريو في آن لاحق، حيث إنه في إحدى حلقات الماضي يجلس مع صديقته ماريون ديفز، زوجة هيرست الجميلة، والتي تُشكل دميةً جميلةً بلا ذكاء يُذكر، وحينما تسأله الصديقة أن يقول عنها شيئًا، يجيبها بأنه يراها مثل «دولسينيا»: جمال خلاب لم يتكرر. وهنا تتجلى فكرة فينشر في التلميح: لم يقصد مانك أن يمدح ديفز على جمالها فقط، لكنه أعطاها اسمًا أدبيًا بحتًا: دولسينيا، زوجة دون كيخوته. ومن قرأ رواية «دون كيخوته» للكاتب الإسباني ميغيل دي ثربانتس يعرف بأن دون كيخوته هو رجل ثري تخيَّل نفسه فارسًا وهميًا بسبب تأثره بروايات الفرسان في زمنه، فقرر أن يجوب بحصانه الفيافي محاربًا طواحين الهواء وأعداءً وهميين لا وجود لهم.

في هذا التلميح، يخبرنا فينشر بأن مانك أدرك أن صاحبته زوجة وليام راندولف هيرست المخدوع هي ذاتها دولسينيا زوجة دون كيخوته، الذي يشغل الناس بأخبار ومعارك وأعداء وهميين فقط لكي يبيع صحفًا أكثر، وأن مانك عرف أن واجبه الأخلاقي يحتِّم عليه أن يقف عند هذه المهزلة، مانك الذي يعادي سياسات أصدقائه الأثرياء بكل وضوح مبينًا لهم جهلهم وعدم فهمهم، مانك الذي يناصر الكاتب الأمريكي الشيوعي أوبتون سينكلير من أجل حياة أفضل. نجد موقف مانك هنا أخلاقيًا تمامًا، وبوصفه كاتبًا، لا يستطيع أن يفعل شيئًا إلا أن يكتب لنا، أن يجعلنا نضحك ملء بطوننا على هذه الشخوص مثل وليام راندولف هيرست الذي يصوره في سيناريو «المواطن كين» مثل دون كيخوته، أو صديقه رئيس شركة الإنتاج MGM الذي يقارنه بـ«سانشو» خادم دون كيخوته البراغماتي، وصولاً إلى زوجته التي تشبه دولسينيا.

كل هذه الأفكار والتلميحات جعلت للفيلم بناءً دراميًا كاملاً، فهي لا تتكلم عن شخص مانك ذاته، بل تجعل المُشاهد يتسمَّر أمام سردية لجيل كامل، بأحداث جسيمة وعظيمة في التاريخ البشري، وبتاريخ الفن والسينما، لندرك بعد كل هذا أن الفيلم لم يكن تأريخًا لهوليوود فحسب، بل إنه اجتاز هذه المرحلة ليصبح استعارة تعكس عدة مفاهيم أزلية، مثل الفساد الحكومي، وصناعة الأعداء الوهميين، والاحتيال على العامة، وأهمها: بأن هنالك دومًا شخصًا شجاعًا -كما هو مانك أو القائد آخاب- لاصطياد هؤلاء وتعريتهم أمام البشرية جمعاء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

أ. ياسر سبعاوي
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا