مقالات

سياقات السينما المستقلة: جيم جارموش أنموذجا

عندما نريد وضع تعريف محدد للسينما المستقلة، سوف نخلص إلى تعريفات عديدة كونها -كطبيعة السينما بشكل عام- متداخلة مع عدة زوايا تقنية وفنية وإنتاجية. لذلك، حريّ بنا أولًا أن نُرجع التعريف إلى جذره اللغوي. فما معنى «مستقل» لغويًا؟

تشير المعاجم اللغوية بأن «مستقِل» هو اسم الفاعل من استقلّ، واستقلّ لها عدة تعريفات بناء على سياقها في الجملة، وما يهمنا من هذه المعاني هو ارتباط المعنى بـ«الحرية»، فعندما نقول استقلّ الشخص بالحكم مثلًا فمعناه -كما جاء في المعاجم اللغوية- تحرّر، وانفرد بتدبير أمره. ومن هذا المُنطلق، ألج إلى تعريف السينما المستقلة من زاويتين: الإنتاجية والفنية. من الناحية الإنتاجية، نحيل مفهوم السينما المستقلة إلى الشركات ذات الميزانية المتوسطة أو المنخفضة، المستقلة بذاتها إداريًا وتنظيميًا عن شركات الإنتاج الكبرى، التي ربما نجد أشهرها في هوليوود، وتموّل هذه الشركات المستقلة أفلامًا مَعنية بالدرجة الأولى بالأبعاد الفنية للفيلم، لا التجارية أو الترفيهية، كما هو الحال في استوديوهات هوليوود ودور العرض التجارية، ودون النظر إلى الإيرادات المالية التي قد يدرّها الفيلم عليها. هذه الشركات مستقلة تمامًا عن الشركات التجارية الكبرى، وأحيانًا يتكفّل المخرج ذاته بتوفير الميزانية اللازمة، سواء عن طريق الشركات الصغرى أو من جيبه الخاص أو عن طريق بعض الجهات المعنية بالفن، كما هو الحال مع متحف اللوفر الذي موّل فيلم «وجه» للمخرج التايواني المُستقل تساي مينغ ليانغ عام 2009، والذي عُرض في متحف اللوفر بعيدًا عن سطوة دور السينما التجارية. وهناك نوع آخر من السينما المستقلة يُسمى بـ«المنتج المنفّذ»، وهذا النوع من الإنتاج يقوم على الجانب التنفيذي للفيلم مموَّلًا عن طريق الشركات الكبرى تحت عقود معينة، أي أنها غير مستقلة كلّيًا من الجانب المالي كما في النوع الأول.

من الناحية الفنية، نستطيع القول بأن السينما المستقلة هي السينما الحرة، المتحررة في خلق الفيلم بكامل أبعاده الفنية البصرية من كل قيود شركات الإنتاج الكبرى التجارية التي تنظر بعين واحدة إلى نجاح الفيلم، متمثلةً في النظر إلى إيراداته في شباك التذاكر، باعتبار أن السينما «تجارة» لا فنٌ بالدرجة الأولى. لذلك، نجد لجوء المخرجين الفنانين إلى هذا النوع من السينما لأنهم أولًا يؤمنون بأن الفن هو جوهر السينما، لا الترفيه، وبالتالي هم غير معنيين بإشباع رغبة الجماهير بتزجية أوقات فراغهم عن طريق ترفيههم اللحظي، ولا بالربح المادي الذي قد تدرّه عليهم أفلامهم، بل هم معنيون بالدرجة الأولى بالفن الخالص وما يتركه هذا الفن من أثر خالد في نفس المُشاهد طيلة حياته. وكما يقول المخرج الفرنسي روبير بريسون في كتابه «مدونات حول السينماتوغراف»: «الفن في صفائه التام يزلزلنا»؛ لذلك، يوفر الاستقلالُ الحريةَ المطلقةَ للمخرجين في خلق أعمالهم الإبداعية المنطوية على تأملاتهم الذاتية للفن والوجود الخارجة عن النسق التقليدي لصناعة الأفلام التجارية الترفيهية المتكئة على القصة وما تثيره في النفس من انفعالات وقت مشاهدتها وسيرها على الخط الزمني بالدرجة الأولى، كما يقول المخرج التايواني تساي مينغ ليانغ في أحد حواراته: «إذا كان الفيلم فنًا، فإن العمل ينبغي أن يكون تأملات الفنان، أكثر مما هو شيء مقدّم لتسلية الجمهور العام. بالطبع هناك أفلام تجارية تتخطى التوقعات وتصبح فنًا عظيمًا، لكني لستُ مهتمًا بصنع أفلام لمجرد أن أحقق ربحًا ماديًا. أعمالي السينمائية هي من إبداعي الخاص، وهي غير منفصلة عن تجربتي الحياتية».

وفي السياق التاريخي لمختلف أقطار العالم، نجد أن السينما المُستقلة ظهرت بأسماء وأشكال ودوافع عديدة، مثل بروز «السينما الحرة» في بريطانيا في أواخر الأربعينيات، والتي تبلورت رؤاها التي تعكس الواقع الإنساني وأزماته الفردية والاجتماعية على يد المخرج ليندسي أندرسون.. والموجة الألمانية الجديدة في الستينيات، التي تأثرت بالموجة الإيطالية الواقعية.. والموجة الفرنسية للسينما الجديدة في الستينيات، التي تمخّض عن تنظيراتها مفهوم سينما المؤلف وسينما الحقيقة، والتي تأثر بها عديدٌ من روّاد السينما المستقلة في أمريكا، وعلى رأسهم المخرج الأمريكي جيم جارموش الذي عُرف بكرهه لهوليوود لأنها -على حد وصفه- «جبانة» وتخشى التجريب لأنها تَعتبر السينما تجارة بالدرجة الأولى، لا عملية خلق فنية إبداعية بكل ما تحمله هاتان الكلمتان من معنى، وهو المبدأ الذي لا يتنازل عنه جارموش أبدًا في أعماله. ولذلك، عندما طُلب من جارموش كتابة خمس قواعد تفيد المهتمين بالعمل السينمائي بشكل عام، كتب فيما كتب هذه الوصية أدناه:

»لا تدع الأوغاد يمتلكونك؛ خياراتهم إما مساعدتك أو عدم مساعدتك ولكن لا يستطيعون إيقافك عن تحقيق طموحاتك. إن الأشخاص الذين يقومون بتمويل الأفلام، وتوزيع الأفلام، والترويج الدعائي للأفلام، وعرض الأفلام، ليسوا صناع أفلام. في كل الأحوال، هؤلاء لن يتركُوا لصُنّاع الفيلم حرية السيطرة على أعمالهم في التمويل، وفي النشر، وفي التوزيع، وفي العرض، وبالتالي لا تجعلهم يسيطرون على القالب الفني الذي تختاره أنت وتريد من خلاله إنجاز فيلمك. إذا تطلّب الأمر، احمل معك سلاحًا.. مسدسًا فقط لأجل الشعور بالأمان«.

لمحة ذاتية عن جيم جارموش

وُلد جيم جارموش في أمريكا في أوائل الخمسينيات وبالتحديد عام 1953. دخل عالم السينما من بوابة الأدب الفسيحة ورؤى الشِعر العميقة، حيث تأثر في توجهه الفني للسينما بدراسته الأدب الإنجليزي في نيويورك، والأدب الفرنسي في باريس في السبعينيات، وبالموجة الفرنسية الجديدة التي انبثقت هناك على يد مخرجين تأثّر بأفلامهم وتنظيراتهم السينمائية كثيرًا مثل نيكولاس راي، وجان لوك غودار وفرانسوا تروفو وغيرهم. لذلك -كما ينقل الكاتب أمير العمري في كتابه «عالم سينما المؤلف» في الفصل المخصص لجيم جارموش- عندما عاد إلى أمريكا والتحق بمعهد السينما هناك، لم يُكمل دراسته فيه لأنه شعر بالفروقات بين المنهجَين الأمريكي والفرنسي في صناعة السينما فخرج ليشق طريقه الفني الخالص في أوائل الثمانينيات، بعيدًا عن سطوة المعاهد التقليدية هناك وقواعدها الصارمة، وبعيدًا عن الأسلوب الهوليوودي التجاري في سرد القصص.

في أسلوبه السينمائي، يركّز جارموش في خلق أعماله الفنية على «الصورة» وإيقاعها وما تحمل في أعماقها من دلالات عديدة من خلال رمزيتها الطافحة بالغموض الشعري والفني الخلاق. لذلك، هو لا يفرض رأيه ورؤيته على المُشاهد من خلال الصورة ويلقنه أحكامًا مُسبقة، بل يعرضها فقط، وعلى المتلقّي بدوره أن يغوص في أعماق المشاهد البصرية، مشاركًا المُخرج في إنتاج الدلالات، تارة كل مشهد على حدة وتارة بربط هذه المشاهد بعضها مع بعض لتأويل المعاني الضبابية التي تلوح في آفاق الصورة، وكأنه تطبيق عملي لما قاله روبير بريسون في مدوناته: «احفر إحساسك، انظر إلى ما في داخله، فلا تحلله بالكلمات. ترجمه إلى صور متآخية، إلى أصوات مترادفة، وبقدر ما يكون الإحساس نقيًا، بقدر ما يترسخ أسلوبك. (أسلوب: كل شيء غير التقنية)». وهنا نجد في مُجمل أفلام جارموش هواجسه الذاتية وأحلامه ورؤاه منعكسةً على شكل صور معروضة للمُشاهد مثل قطع لعبة الأحاجيّ، وعليه هو تركيبها كما يشاء.

ومن هذا المبدأ الذي يُشير إلى أن السينما في جوهرها النقي هي «فن الصورة»، ينطلق جارموش في عملية الخلق الفنية الإبداعية، نائيًا بنفسه عن سطوة السرد القصصي المألوف في سينما هوليوود، وما يفرضه هذا السرد من السير على خط زمني متصاعد إلى عقدة الحبكة، نزولًا إلى حلّها في النهاية، فأفلامه لا تسير في خط زمني مستقيم، بل هي تمضي عبر فوضى خلاقة لها إيقاعها البصري الخاص الذي يتشكل في أبعاد زمنية متداخلة. لذلك، هذه الأفلام تحمل أبعادَ المفاهيم الشعرية الغامضة، لا النثرية الواضحة، إذا ما أمكننا الاستشهاد بما قاله الفيلسوف الفرنسي إدغار موران في كتابه «عن الجمال»، حيث يقول: «اللغة النثرية هي لغة دالة، تهدف إلى تحديد الأشياء التي يتم الحديث عنها وتجعلها موضوعية. أما اللغة الشعرية فهي تنطلق من الذاتية وتتجه إلى الذاتية، تنطلق من الانفعال الجمالي بغرض نقل هذا الانفعال، وهي تحب اللجوء إلى التشبيه والمجاز». وهنا يمكن إسقاط هذا القول تمامًا على سينما جارموش باعتبارها «لغة شعرية» تتكئ على التشبيه والمجاز، مقابل «السينما السردية والقصصية» الشائعة باعتبارها «لغة نثرية» تميل إلى الوضوح والمباشرة. ويقول جيم جارموش عن أسلوبه، كما ينقل عنه أمير العمري في كتابه: «إن أفلامي تشبه تابوهات أو مقطوعات مسرحية رغم أنني أتجنب التعاقب الزمني المسرحي. يمكن للمُشاهد، أن يختار من اللقطة ما يركز عليه، تمامًا كما يفعل في حالة تركيزه على شخصية ما أو موقف ما في عمل مسرحي. لا توجد عندي لقطات منعكسة أو من خلف الأكتاف، أو لقطات قريبة (كلوز أب) درامية.. ليست هناك لغة سينمائية تقول لك بالضبط ما هو الموقف المهم أو غير المهم، فأنت الذي تحدد»!

ولأن الإبداع شرطه الجوهري «الحرية»، يقول جيم جارموش في أولى قواعده الخمس الذهبية التي تطرقتُ إليها في المقدمة: «لا توجد قواعد. حين يتعلق الأمر بصناعة الفن، لا توجد مبادئ ثابتة وخطوات محددة لأن هنالك عديدًا من الطرائق المختلفة التي من خلالها يبني المبدعون الثقة بأنفسهم حتى يحققوا أهدافهم. الفيلم ليس جنسًا فنيًا ثابتًا، بل شكلًا فنيًا مفتوحًا دائمًا. وعلى المستوى الشخصي، ليس من طبعي أن أُملي على البشر ما يفعلون، وكيف يفعلون ما يريدون، ولن أقوم أبدًا بفرض الوصاية على أحد، حتى إنني أنفر من أولئك الذين يختارون لك أفكارك ودينك وطريق نجاتك؛ هم في الواقع يقومون بدفعك للضفة الأخرى بعيدًا عن الاستقلالية الذاتية. القيام بتدوين “قواعد ذهبية” لأي شأن يتعارض مع فلسفتي الشخصية. إذن، تجاهَل مفردة القواعد التي ستقرؤها الآن في بداية كل نص، وبالمقابل اعتبِر ما كُتب هنا مجرد ملاحظات خاصة أكتبها أنا لنفسي، بناءً على المبدأ الذي يقول بأنه إذا أراد أي شخص أن ينجز أي عمل، عليه أن يقوم بوضع عدد من الملاحظات التي ستساعده على عبور الطريق دون توقف، وإذا قال لك أحدهم: “هنالك طريقة واحدة للوصول وهي باتباع طريقتي أنا وحدي”، فانفُذ بجلدك وبعقلك وبجسدك بعيدًا جدًا عنه». وهذا الحديث يتقاطع كثيرًا مع ما قاله المخرج المجري بيلا تار في أحد حواراته: «أتعلم لماذا أكره معاهد السينما؟ لأن الأستاذ يقف أمام الطلاب ويقول لهم ما الصح وما الخطأ. في القرن الحادي والعشرين، إذا أردتَ أن تنجز فيلمًا، أقل شيء ألا تلتزم بالقواعد. لا توجد طريقة صحّ. يوجد أنتَ ولا شيء سواك! ثقْ بعينيك، اصغِ إلى قلبك. عليكَ أن تكون نزيهًا. يجب ألا تتوقّع شيئًا في المقابل». هكذا يكون جوهر العملية الإبداعية، إذ على المبدع ألا يلتزم بالقواعد وإنْ تعلمها، لأن الإبداع يكمن في التحليق خارج هذه الأسوار وابتكار الجديد المنطلق دومًا من الرؤى الذاتية الخاصة بالفنان للفن والوجود، حيث إن العملية الإبداعية هي عملية خلق، لا محاكاة، وعملية الخلق تتطلب الحرية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

أ. عدنان المناوس
March 25, 2024
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا