مقالات

«الإعصار»: تدوير العنف في زمن الحرب

ارتأى صنَّاع السينما اللبنانية، في التسعينيَّات ومطلعِ الألفيَّة الجديدة، تصوير الحربِ الأهليَّة من موقعِ المراقبِ الخارجي، حيث يعيشُ البطلُ ضمن عديدٍ من اللبنانيين في الداخل ويكتوي بتبِعات الحرب مثلهم، إلَّا أنَّه لا يقدِّمُ نفسه بوصفه عنصرًا فاعلًا في الحرب. من هنا تتجلَّى عدم إدانته لنفسه على غرار المخرجين اللبنانيين الأوائل. وطبعًا، لا يعني هذا أنَّ هذه الأفلام لم تشتغل على كشف مظاهرِ الخراب والدمار، وعلى التركيز على الآثار النفسيَّة السيِّئة التي لحقت بالمواطن اللبناني بوصفه ضحيَّةً أولى للعبثِ والفوضى واللامبالاة. ولئن كان المخرج اللبناني زياد دويري في فيلم «بيروت الغربية» قد تناول زمن ما قبل الحرب عبر الصغار، واستعرض المخرج غسان سلهب في «أشباح بيروت» زمن ما بعد الحرب، فإن المخرج سمير حبشي ينطلق في زمن الحرب الأهلية اللبنانية.
يتعمَّق فيلم «الإعصار» (1992) للمخرج سمير حبشي في رحلةٍ طالبٍ لبنانيٍّ يعود من موسكو إلى لبنان لرعاية أسرته في منتصف الحرب الأهلية. أثناء محاولته الوصول إلى قرية عائلته، يواجه هذا الشاب المسالم اضطراباتٍ عنيفةً في مدينةٍ مقفرة، فيدرك حينئذٍ أنَّ الحرب الأهلية قد حوَّلت بيروتَ إلى أنقاض. يجد أكرم نفسه محاصَرًا داخل شقَّته بسبب القتال، ويبدأ بانتقاد العنف، ويشلُّه كابوس فقدان جواز سفره وعدم قدرته على مغادرة البلاد.
في المشهد الافتتاحي، يرى أكرم في نومه كابوسًا فحواه: تفجيراتٌ في بيروت ومجزرةٌ تتعرَّض لها عائلته، فيستيقظ مرعوبًا. وحينما يعود إلى لبنان، تختلط الكوابيس المروعة بالواقع السريالي، لأنَّه يجدُ الموت منتشرًا بقوَّةٍ في أنحاء المدينة. لذا يعجز عن التمييز بين الأحلام والواقع، ممَّا يُفقده الثقة في نفسه، وفي الآخرين أيضًا.
يستخدم حبشي موضوعات جنون العظمة والعنف وانعدام الثقة. إن التوتُّر والبارانويا الناجمَين عن العنف الطائفي المستمر من حوله، وقصصَ المعاناةِ التي رُويت له، وحوادثِ القتل التي حدثت من حوله، دفعته أخيرًا إلى شراء مسدَّس كي يحمله على خصره. اعتبارًا من هذه اللحظة في الفيلم، لم يعد أكرم متأكدًا تمامًا ممَّن يمكنه الوثوق به، ونتيجةً لذلك ينخرطُ في أعمال العنف التي لم يكن يريد المشاركة فيها قبل ذلك. إذا كان يشعرُ في البداية أنَّه ضحيَّة حرب ويلعن المتقاتلين، فقد انتهى به الأمر منخرطًا في لعبة العنفِ هذه. وهكذا لا يظهرُ جنون العظمة من خلال أكرم فحسب، بل ينعكس على المجتمع بأكمله، ويظهر من خلال سكَّان المدينة. تكشف نظرة الكاميرا عدَّة حوادث لمواطنين يتجسَّسون على بعضهم بعضًا ويحترسون من جيرانهم.
يأخذنا حبشي إلى عالمٍ معظمه من الشباب، يجوبون الشوارع مسلَّحين وبلا قيادة. الأشرار ورفاقهم يرتدون ملابسَ سوداءَ، والشبَّان الذين لا يشاركون في الحرب يرتدون قمصانًا بيضاءَ ناصعةً. يمضي حبشي، على غرار الجيل السينمائيِّ المميَّز الذي تأسس مع مارون بغدادي وبرهان علويَّة وجان شمعون ورندة الشهال وجوسلين صعب وغيرهم، بتحويل الحرب إلى ساحةٍ ذكورية. بادئ ذي بدء، لا يفهم أكرم لماذا قد يحمل صديقه مسدسًا بطرفه، وسينتهي به الأمر بقتل شخصٍ ما في شجارٍ على سيَّارةٍ تسدُّ أحد شوارع الحي. يعلمُ أكرم أنَّ الذي ينتقمُ منه ليس "أزعر" الحي الذي قتله، بل الحرب الأهلية نفسها التي تحرمه من البقاء محايدًا ومسالمًا.
في أفلام الجيل الأول عن لبنان والإنسان اللبناني، تظهر حالة التمزُّق الطائفي عبر تصدُّر الهويات الدينية، حيث نرى مسيحيَّة ثريَّا في «حروب صغيرة» وشيعيَّة حيدر في «بيروت اللقاء» ومسيحيَّة البطلة وإسلاميَّة البطل في «الانفجار»، وكذلك استمرَّت هذه العواملُ الطارئة تتصدَّر هويَّات أبطال المخرجين الجدد في التسعينيات. إلَّا أنَّ صاحب فيلم «جبران خليل جبران» يذهب في رؤيةٍ جريئةٍ أبعد من ذلك، وهو ما أثار سخط الرقيب اللبناني فأعملَ مقصَّه في عددٍ من أجمل مشاهده، حيث يعتبرُ الدين الدافع الأساسي للعنف، مع اعتباراتٍ أقل للتعقيدات الاجتماعية والسياسية في لبنان، مقترِحًا أن موت الله هو غايةٌ في حد ذاته، وبالتالي لا يجوز للآخرين الموت باسمه.
في أحد المشاهد، يأتي إبراهيم جار أكرم إلى كنيسةٍ مليئةٍ بالجثث. وبينما ينظر حوله وهو في حالةٍ من الرعب، يدخلُ رجلٌ ملتحٍٍ مرتدٍ للملابس الكنسيَّة من بابٍ مضاءٍ بإضاءة خلفية. يعتقدُ إبراهيم أنَّ يسوع المسيح يتحرَّك نحو المذبحِ فيتبدَّد يأسه ويشعرُ بارتياحٍ مؤقت. ولكن بعد دقائق، يقومُ هذا الشخص بإسقاط رِدائه ببطءٍ ليكشف عن نفسه بأنَّه أحد رجالِ الميليشيات، ثمَّ يرفع بندقيَّته ويطلقُ النارَ على إبراهيم في رأسه.
ومع انتشار العنف، تقلُّ فرصُ البقاء على الحياد وفرص العيش نفسه، حيث يطلقُ رجالُ الميليشياتِ النارَ على الحشد الذي حضر الجنازة، ويموتون مثل المسيح على الصليب، بأذرعٍ ممدودةٍ ورؤوسٍ مرفوعةٍ نحو السماء تتضرَّع وتتساءل. يكشف هذا المشهد كيف أنَّ الناس غيرُ قادرين حتى على الحزن أو التمتع بلحظةٍ من السلام، لأنَّ القتال لا يزال قائمًا. وفي أعقاب هذه المذبحة، يصعدُ أكرم، مذهولًا، تلةً تطلُّ على المدينة، حاملًا مسدسه. عند النظر إليه من مسافة بعيدة، لا نعرف ما إذا كان أكرم، الذي يضع يديه معًا على صدره، يصلِّي أم يصوِّب سلاحَه تحت ذقنه. وفي المشهد الختامي لألوفِ التوابيت وصورةٍ مدماةٍ للسماء، يطلقُ رصاصاته في اتجاه السماء، فيسقطُ الدمُ باللون الأحمر على وجههِ المقلوب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

أ. محمد الكرامي
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا