مقالات

«أنورا»: السلطة والهوية وأشياء أخرى

عام 1970 نشرت المفكرة الأمريكية "كيت ميليت" كتابها الشهير «السياسة الجنسيَّة»، هذا الكتاب الذي أصبح، مع الضجة التي أحدثها في الأوساط الثقافيَّة والفكرية، ركيزةً من الركائز الأساسية للحركة النسويَّة الحديثة.
في هذا الكتاب تناولت ميليت العلاقات بين الجنسين كظاهرةٍ سياسيَّةٍ بامتياز، تُكرَّس عبر المؤسسات الثقافيَّة والاجتماعيَّة مثل الأسرة والدين والأدب. كمَّا ركزت على كيفيَّة استخدامِ السلطة الأبويَّة لهذه المؤسَّسات لترسيخِ الهيمنة الذكوريَّة، حيث تُهمَّشُ النساء وتُقَلَّصُ أدوارهن، جاعلةً منهنَّ كائنات تعتمدُ على الرجال، سواء من خلال الصورِ النمطيَّة الثقافيَّة أو الاستغلال الجنسي والاقتصادي.
سلطت ميليت الضوء على كيفيَّة تصويرِ النساءِ كأدواتٍ للمتعةِ أو كمُكمِّلٍ للرجال في نصوصِ كُتَّابٍ بارزين على غرار "د. هـ. لورانس" و "هنري ميلر". وكانت تسعى، من خلالِ انتقاد هذه النصوص، إلى توضيح كيف تعكسُ هذه الأعمال الأدبيَّة ديناميكيَّات السلطة السائدة في الواقع الاجتماعي. يمكننا اليوم، انطلاقًا من هذه الأفكار، قراءة العديد من الأعمال الفنيَّة من منظورٍ سياسيٍّ جندريٍّ يعيدُ تفكيكَ العلاقات الإنسانيَّة في ضوءِ السلطة الأبويَّة.
استنادًا إلى الطروحات الجريئة التي قدَّمتها ميليت، يمكننا تناولُ واحدٍ من أبرز الأفلام التي شهدها العام الفائت، ألا وهو فيلم «أنورا» (Anora) الحائز على جائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي 2024. يقدِّم الفيلم قصَّة أنورا، وهي راقصة تعرٍّ تعيشُ في حي برايتون بيتش ببروكلين في نيويورك، وتلتقي بفانيا، وهو وريثُ عائلةٍ روسيَّةٍ ثريَّةٍ تحميه ثروته من الصراعات التي ستحدِّد حياة أنورا في الفيلم، وتنشأ بينهما علاقةٌ تتحوَّل سريعًا إلى زواج. سرعان ما يواجه هذا الزواج، الذي يبدو وكأنَّه فرصةً لتحطيمِ الفوارق الطبقيَّة، معارضةً شرسةً من عائلة فانيا، التي تحاولُ بكافَّة السبلِ السيطرةَ على مصير ابنها، متجاهلةً إرادة أنورا ورغباتها. لا يقتصرُ الفيلم على تقديم دراما شخصيَّة فقط، بل يقدِّم أيضًا قراءةً معاصرةً للعلاقات الجندريَّة والسلطوية، ليصبح امتدادًا بصريًا للأفكار الثوريَّة التي طرحتها ميليت في كتابها «السياسة الجنسيَّة».
يمكن قراءة فيلم أنورا من خلال عدسة "فلاديمير بروب" وتحليله للأنماط السرديَّة في الحكاياتِ الشعبية. فعلى الرغم من أنَّ الفيلم لا ينتمي إلى هذا النوعِ التقليدي، إلا أنَّه يَستخدم بعض الوظائف السرديَّة التي ناقشها بروب، مثل "البطل" الذي تمثِّله أنورا في سعيها لمواجهة العقبات وإثبات ذاتها، و"الخصم" الذي تجسِّده عائلة فانيا في محاولاتها للسيطرة عليها وإقصائها. بيد أنَّ ما يجعل الفيلم مميزًا هو الطريقة التي يُخرِّب بها هذه الأنماط: ففانيا، بدلًا من أن يكون "الأمير المنقذ"، يظهرُ بمظهر الشخصيَّة الضعيفة غير الناضجة، والجائزة النهائيَّة ليست زواجًا سعيدًا، بل استعادةَ أنورا لقوَّتها وهويتها. هذا التلاعبُ بالأنماط التقليديَّة يمنح الفيلم أبعادًا معاصرةً ويجعله دراسةً معقَّدةً للعلاقات الإنسانيَّة والهويَّات المهمَّشة، بعيدًا عن الكليشيهات التي قد يتوقَّعها المشاهد.

ديناميكيَّات العلاقات الإنسانيَّة في أنورا

ببراعةٍ يبحث الفيلم في الديناميكيَّات المعقَّدة للسلطة والامتيازات الممنوحة لمالكيها، وكذلك التهميش الحاصل لمن لا يملكونها، كاشفًا عن التناقضات العميقةِ بين حياة أفرادِ كلا الفريقين. هذه التناقضات تتجلَّى بوضوحٍ من خلال العلاقة بين أنورا، ممثِّلة الطبقة المسحوقة والتهميش الطبقي، وعائلة فانيا التي تمثِّل قمَّةَ الهرم الطبقيِّ بامتيازاتها وسلطتها. لا تنظر عائلة فانيا إلى أنورا كشخصٍ مُستقل، بل كتهديدٍ لسمعتها ومكانتها الاجتماعية، فتسعى بكلِّ الوسائل إلى إلغاء الزواج، في محاولةٍ لفرض سيطرتها وإعادة الأمور إلى النظام الذي يحفظ امتيازاتها. تتعامل العائلة مع أنورا كدخيلة، فتَستخدم امتيازاتها المالية لمُحاصرتها وإلغاء زواجها من فانيا. محاولات العائلة لإلغاء الزواج تمثِّل قمة التناقض بين عالم أنورا، التي تعتمد على قوتَّها الداخلية وإصرارها، وعالم العائلة المترف، والتي تستخدم السلطة لإخضاع الآخرين.
على الجهة المقابلة، يبرزُ الفيلم الجانب الآخر من المعادلة، وهو التهميشُ الذي تعاني منه أنورا بسبب خلفيَّتها الطبقيَّة والمهنيَّة. إنَّ عملها كراقصة تعرٍّ يعرضها للعار الاجتماعي، ويجعلها في نظر عائلة فانيا مجرَّد "عاهرةٍ" تسعى للاستفادة من ثروة العائلة. ومع ذلك، تُظهر أنورا قوَّةً استثنائيَّة في مقاومةِ محاولاتِ التهميش، خصوصًا في المواجهة النهائية مع والدةِ فانيا، حيث ترفضُ التراجع أو التنازل عن حقها في تقرير مصيرها.
في هذا السياق، يُبرز الفيلم شخصيَّة إيغور، الذي ينتمي إلى حاشية فانيا، لكنَّه يُعدُّ شخصيَّةً مهمَّشةً بدوره، رغم اختلاف موقعه عن أنورا. يُظهر الفيلم تشابهًا خفيًا بين أنورا وإيغور، فكلاهما ينحدران من تنشئةٍ بسيطةٍ تربطهما تجارب مشتركة. كلاهما نشأ تحت رعاية الجدَّة، حيث تعيش والدة أنورا منفصلة عنها في الجانب الآخر من أمريكا مع صديقها، بينما يظلُّ والدها غائبًا وغير مذكور. هذه الخلفيَّة العائليَّة المشتركة تخلق نوعًا من التوازي بينهما، فلا يجعل من إيغور شخصيَّةً داعمةً لأنورا فحسب، بل أيضًا مرآة لتجربتها.
يبلغ هذا الترابط ذروته في المشهد الختامي للفيلم، عندما يُعيد إيغور خاتم زواج أنورا، ويصدمها بلمحةٍ من الحنان والتعاطفِ غير المتوقَّع منه. في هذه اللحظة، تُبادر أنورا ببادرةٍ أخيرةٍ من الحميميَّة معه، مما يعكس تفريغًا للرغبات المكبوتة وإثارة مشاعرَ جديدةٍ معقَّدة. هذا المشهد يبرزُ التعاطفَ العميقَ بين الشخصيَّات المهمشة، ويدلُّ على أنَّ التهميش ليس مجرَّد عزلة، بل يمكنُ أن يولِّدَ روابط إنسانيَّة تتجاوز الظاهر.
علاوة على ذلك، يساعدُ حضور إيغور في إبعاد الفيلم عن القوالبِ النمطيَّةِ التي ترتبطُ غالبًا بالشخصيات الروسية. فبعكس الصورة الهزليَّة لحاشيةِ العائلة أو تلك القاسية لعائلة فانيا نفسها، يُقدِّم إيغور تنوعًا يُثرى به بناء الشخصيَّات ويمنح الفيلم بعدًا إنسانيًّا أعمق. يصبحُ إيغور وأنورا، من خلال هذا التفاعل، تجسيدًا لرؤيةٍ أوسع عن تعاطف المهمَّشين مع بعضهم البعض، ويؤكد الفيلم على أهميَّة كسر الصورِ النمطيَّة واستكشاف ما تنطوي عليه الشخصيَّات من تعقيد، بعيدًا عن الانحيازات السطحية.
لا يكتفي الفيلم بعرض هذه التناقضات على مستوى الشخصيَّات فقط، بل يعكسها بصريًا من خلال الأماكن التي يعيش فيها الطرفان. يعكسُ حي برايتون، حيث تسكن أنورا، الحياة اليوميَّة البسيطة بمشكلاتها وصراعاتها، بينما يصبحُ منزل عائلة فانيا المترف رمزًا للفجوة الطبقيَّة الشاسعة. من خلال هذا التناقض، يقدِّمُ الفيلم سردًا بصريًّا يبرز كيفيَّة حضور السلطة في كافَّة تفاصيل الحياة اليوميَّة.
يستكشف الفيلم مواضيعَ الهويَّة والتفاعلات الإنسانية ويكشف عن التوتُّرات ونقاط الضعف داخل الانقسامات الاجتماعيَّة. كما يرصد عبر تطوُّر أحداثه الصراعات التي تنشأ بين شخصيَّاتٍ قادمةٍ من خلفيَّات متباينةٍ تمامًا، حيث يتحوَّلُ الاختلاف في المُنطَلَقات والقيم إلى ساحة مواجهةٍ مليئةٍ بالتوترات. ويُظهرُ التفاعل بين هذه الشخصيات كيف يمكنُ للهوية أن تكون أحيانًا مجالًا للصراع، وأحيانًا أخرى وسيلةً للتحدي وإعادة صياغة العلاقات الإنسانيَّة.
كما وينتقد الفيلم المعايير المجتمعيَّة الأوسع نطاقًا، فبينما تواجه أنورا توقُّعاتٍ أخلاقيَّةً واجتماعيَّةً صارمة، يتمتَّع فانيا بالحريَّة الممنوحة للرجال في المجتمعات الأبويَّة. هذا الانقسام يسلِّطُ الضوءَ على العوائق المنهجيَّة التي يتعيَّن على النساء اجتيازها، فيما يظلُّ الرجال دون أيِّ تحدٍ في سلوكياتهم. ويُعد إدراك أنورا لاستغلالها في نهاية المطاف انعكاسًا قويًّا لحجَّةِ ميليت بأنَّ النظام الأبوي يحصرُ النساء في أدوارِ الخضوع والعبودية. تدريجيًّا تصبحُ أنورا صورةً للصمودِ في عالمٍ يسعى إلى تسليعها وتشييء شخصيَّتها. وعلى الرغم من أنَّ القصَّة تتطوَّر من موضوعِ الرغبات الحسيَّة الفجَّة أحيانًا، إلَّا أنَّها تأتي لتمنح آنورا العُمق والقدرة على الفعل. تتطوَّر شخصيتها لتغدو شخصيَّةً معقَّدةً تتحدى النظام الذي يختزلها إلى شبحٍ صنعه الآخرون. يمثل تحول بيكر في التركيز - من التشييء إلى الاستقلاليَّة - تخريبًا نقديًا للنظرة الذكوريَّة التقليديَّة.

أنورا و إعادة تعريف سينما المهرجانات

في عالم السينما اليوم، يمكن التمييز بين أفلام المهرجانات ذات الطابع السياسي والأيديولوجي، والتي تهدفُ إلى حصد الجوائز في كان وبرلين والبندقية، وبين الأفلام السينمائيَّة التي تركِّز على المتعة البصريَّة ورواية القصص دون الالتزام برسائل ثقيلة. من هذا المنطلق، كان من الصعب تخيُّل فيلمٍ مثل «أنورا»، بفكرته التي تبدأ من إطار قصَّةٍ مألوفةٍ حول زواج امرأةٍ من رجل ثري، ضمن مهرجانٍ عالميٍّ مثل كان، فما بالك بفوزه بالسعفة الذهبية؟ هذه الفكرة حول الفيلم تُذكرنا بأفلامٍ مثل «امرأة جميلة» (Pretty Woman) لجوليا روبرتس وريتشارد جير، أو حتى فيلم «سندريلا مان» (Cinderella Man)، حيث تتناول هذه الأفلام قصصًا رومانسيَّةً تبدو تقليديَّةً في طابعها، لكنَّها عادةً ما تركِّزُ على إبهار الجمهور بمواقفَ دراميَّةٍ مبهجةٍ ونتائج سعيدةٍ دون الغوص في أعماقِ العلاقات أو الانقسامات الاجتماعيَّة. عادةً ما تُعتَبر هذه الأفلام أفلامًا ترفيهيَّةً بحتة، بعيدةً تمامًا عن أجواء مهرجاناتٍ مثل "كان" التي تفضل الأفلام ذات البعد الأيديولوجي أو الاجتماعي العميق.
لكن أنورا يخرج تمامًا عن هذا التصنيف التقليدي. الفيلم ليس ترفيهيًا وممتعًا في ظاهره فحسب، بل يحملُ في طياته مستوى غير متوقع من العمق، ممَّا يدفع المشاهد إلى الحفر في طبقاته لاكتشاف تعقيداته. اختياره للسعفة الذهبية في مهرجان كان، على الرغم من بدايته التي قد توحي بأنَّه فيلم بسيط، يُشير إلى تحوُّلٍ مثيرٍ للاهتمام في توجُّهات المهرجان، ويعكس كيف يمكنُ للفيلم أن يوازن بين سردٍ حيويٍّ وممتعٍ ورسائل اجتماعيَّةٍ وإنسانيَّةٍ غنيَّة.
إضافةً إلى كلِّ ما سبق، نحنُ أمام أداءٍ مميَّزٍ للبطلين الرئيسيَّين، حيث تقدِّم مايكي ماديسون شخصيَّة (أنورا) ببراعةٍ فائقة، تجمعُ بين هشاشة التجربة الإنسانية ومرونتها. لا تُعتبرُ أنورا بطلةً كاريكاتوريَّةً ولا ضحية، بل هي امرأةٌ مدركةٌ تمامًا لندوب تجاربِها وصراعها مع قسوة العالم. تُظهِر المَشاهد التي تجمُعها مع إيغور، حين يتردَّد صوتُها بين الغضبِ والضعف، تعقيدَ شخصيَّتها وقدرَتها على إثراءِ الفيلم بعاطفةٍ إنسانيَّةٍ نادرة. تعبِّرُ ماديسون عن مشاعرِها عبر تفاصيل دقيقة: ابتسامة متردِّدة، نظرة هادئة تخفي رغبةً في التدمير، أو لحظة صمتٍ مليئة بالمعاني، لتخلُق شخصيَّةً تنبضُ بالحياة بعيدًا عن أيِّ تنميط.
على الجانب الآخر، يجسِّد مارك إيدلشتاين شخصية "فانيا" بطريقةٍ تنحرفُ عن النمطيَّة المعتادة في الكوميديا الرومانسية. لا يُعتبرُ فانيا ذاك الأمير الشهم مفتول العضلات الذي يُخرج البطلة من واقعها، بل على العكس من ذلك، فهو شخصيَّةٌ مليئةٌ بالعيوب، تبرزُ جاذبيتُّه وسحرهُ السطحيَّان في البداية فقط، ليكشف لاحقًا عن ضعفه العاطفي وعدم نضجه. مشهدُ اعترافه بانعدام أمانه، وهو في حالة سكر، يضعه في موقعٍ مُتناقضٍ يجعل المُشاهد يتأرجحُ بين الغضب تجاهَه والتعاطف معه. هنا تكمن عبقريَّة بيكر في رسم شخصيَّاته: ففانيا ليس مجرَّد شخصيَّةٍ سطحيَّةٍ بل هو تجسيد للرجولة المضطربة، والتي تبدو جذَّابةً ولكنَّها تفشلُ في مواجهة الضغوط الحقيقية.
فيلم أنورا يستحقُّ مكانته في قائمةِ أهمِّ أفلام شون بيكر، حيث يواصل التزامه بسردِ قصصٍ عن المجتمعات المهمَّشة، لكنه في الوقت ذاته يمثل تطوُّرًا جديدًا في أسلوبه الإخراجي. فبينما ركَّزت أعماله السابقة، مثل «تانجرين» (Tangerine) و «مشروع فلوريدا» (The Florida Project)، على صراعات البقاء اليوميَّة، يضعُ أنورا هذه الصراعات في سياقٍ أوسع، إذ يجمعُ بين المهمَّشين وبين أصحاب الامتيازات. والنتيجة فيلمٌ يتحدَّى التوقعات ويُظهرُ كيف يمكن للكوميديا الرومانسيَّة أن تتحوَّل إلى نقدٍ اجتماعيٍّ لاذعٍ ومؤثِّر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

عمار ملص
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا