«إن الأفلام هي الوسيلة الفعالة التي تمس شريحة كبيرة من الشعب».
1الرئيس الأمريكي روزفلت
السينما، هذه القوة الفريدة، لم تقتصر على مجرد مشاهدة أحداث على الشاشة الكبيرة، بل تجاوز تأثيرها حدود العقول والقلوب خلال فترات حساسة وصعبة في تاريخ الشعوب. في سياق الحروب، تتحول السينما إلى أداة حساسة ومؤثرة تؤثر في آراء الشعوب السياسية والاجتماعية، مسلطةً الضوء على تأثير النزاعات ومعاناة الإنسان وتداعيات الحروب من خلال تقديم تجارب البشر وسلطتهم. الحَربان العالميتان الأولى والثانية شكلتا العالم اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا، وساهمت السينما بشكل كبير في توجيه أهداف هاتين الحربين. لذا، نجد أن السينما والحروب، بوصفهما أداتين ثقيلتين، قد أثرتا كثيرًا على عقول الناس واقتصاد الشعوب. فما هي النتائج المترتبة عن دمج هاتين القوّتين من أجل هدف واحد؟
لقد اهتمت السينما منذ نشأتها عام 1895 بالظروف الاجتماعية والسياسية، وأصبحت من وسائل تعبير الدول الكبرى في الحرب، ولم تقتصر على الجانب الترفيهي والاستعراضي فقط، بل قد أدرك السياسيون منذ الوهلة الأولى أنه بإمكانهم توظيفها للدعاية الحربية2، ومن هنا بدأت العلاقة الأولى التي ارتبطت بها السينما مع السياسة، ومن ثم بدأت فكرة إنتاج أعمال سينمائية تتحدث عن الحروب، وهذه الفكرة تربعت على عقول صناع الأفلام لتجديد ساحة السينما.
تكمن هناك علاقة تفاعلية بين بناء الأمة والسينما، وذلك لأن السينما منذ ظهورها تعمل على بناء تصوُّر متكامل لهذه الأمة، ولقد قامت الدول أثناء الحرب العالمية الأولى والثانية بتعزيز بناء هذا التصور لأمتها من خلال توظيف السينما لكي تحقق غايتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية في كلتا الحربين، وطرائق توظيف السينما في الحربين كثيرة ومتفرعة، ولقد شهدنا عدة محاور رئيسة كان لها الأثر الكبير على البلدان وشعوبها:
في البدء الدعاية الحربية.
يذكر المصور والمخرج غريغ ويليامز أن «الأفلام من أكثر أدوات التعلم شيوعًا، وأقوى موزع للمعلومات حول العالم»(4) ويعود استخدام الأفلام للأغراض الدعائية الوطنية إلى السينما الثورية السوفيتية في عشرينيات القرن الماضي، ووصل هذا الاستخدام للأفلام إلى مرحلة النضج مع النصف الأول من الثلاثينيات، وكلٌ من السينما السوفييتية والسينما النازية هدفت إلى تعريف الناس بالدولة، وما يميز هوليوود أنها هدفت إلى أن تُظهر اختلافها الأمريكي للدول الأخرى، ليس على نطاق الشعب الأمريكي فحسب، بل على نطاق الشعوب حول العالم.
وتتمتع الأفلام أكثر من أي عمل فني آخر بعلاقة مباشرة مع الروح السياسية في الوقت الذي أنتجت فيه في تلك الحقبة، وهذه ميزة خاصة للأفلام وقد حظيت بتقدير مجموعة واسعة من العلماء، وعلى سبيل المثال، في كتاب «من كاليغاري إلى هتلر: دراسة حول تاريخ السينما الألمانية»، يشير سيغفريد كراكوير إلى أن «أفلام الأمة تعكس عقليتها بطريقة أكثر مباشرة من أي وسيلة فنية أخرى»(4).
ولعل أحد أهم الأمثلة البارزة في ذاكرتي للحرب العالمية الثانية هي إحدى العلامات التي ميزت الجيش النازي والتي ما زال العالم يتحدث عنها حتى وقتنا هذا، وهو زي القوات الخاصة للجيش النازي، ذلك الزي الأسود القاتم الذي تترأسه جمجمة الموت، وفي ذراعه شريطة ترمز للدماء وفي منتصفها علامة الحزب.
وبجانب جودة صناعة الزي فإن الدعاية الحربية كان لها وقع كبير في ظهور قوة القوات النازية الخاصة على نحو مميز، وكان عامل التكرار الإعلامي للزي هو الذي أظهر أثرًا في الأفلام النازية على سينما هوليوود في أعمال عدة، حتى أصبح العميل النازي في القوات الخاصة هو موطن القوة والشر والدمار، ولعل أبرز هذه الأعمال: فيلم «إنديانا جونز والحملة الصليبية الأخيرة» (1989)، «أوغاد مجهولون» (2009)، «قائمة شندلر» (1989).
وفي أواخر العشرينيات والثلاثينيات، شهد العالم انفجارًا في وسائل الإعلام، وكانت ألمانيا تستفيد من هذه القوة الإعلامية الجديدة. هتلر، بوصفه فنانًا في السابق، أدرك قوة الصورة وقام بتوظيفها من خلال وضع وزير للدعاية وكان هو جوزيف غوبلز. جوزيف كان سياسيًا وأظهر قوة ألمانيا النازية من خلال اختياراته للمخرجين الذين سيساهمون في تحقيق بناء الأمة النازية. ولكي يُنفّذ جوزيف مشروع هتلر السياسي، استخدم كل الوسائل التقنية إلى حد الكمال ليسيطر على الشعب، ولجأ إلى صناع الأفلام، من بينهم المخرجة ليني ريفنستال التي كان لها تواصل كبير مع هتلر وأنتجت أفلامًا دعائية شجعت الألمان على الخدمة في الجيش، مثل فيلم «انتصار الإيمان» (1933) و«انتصار الإرادة» (1933).
الأساليب والتكنولوجيا العسكرية.
منذ ظهور التصوير العسكري في الحرب الأهلية الأمريكية إلى مراقبة ساحة المعركة بواسطة الفيديو، كان الاستخدام المكثف في المراقبة للاستطلاع الجوي يتطور خلال الحرب الأهلية الأمريكية، وفي الحرب العالمية الأولى لم يكن لدى هيئة الأركان العامة أي وسيلة أخرى لتحديث صورتها للواقع، حيث كانت المدافع تشوش التضاريس وتزيل المراجع الطبوغرافية الحاسمة لتنظيم المعركة، وأحد هذه الأفلام هو فيلم «تحول المد» (1954) والذي كان يصف أحداث كوريا عام 1950م عندما انسحبت القوات الأمريكية من كوريا الجنوبية وكيف هاجمت القوات البريطانية بعمليات دعمها الجوي(5).
وإلى جانب قسم الأفلام التقليدي في الجيش وهو المسؤول عن توجيه الدعاية إلى السكان المدنيين، فقد ظهر قسم «الصور العسكرية» والذي يتولى مسؤولية تصوير وعرض الخطط التكتيكية والاستراتيجية العسكرية للجندي أو لقائد الدبابة أو لقائد الطائرة، وعرضت الأفلام التقنيات العسكرية واستخدام الأسلحة على نحو واقعي، مما سهّل على الجنود فهم كيفية تشغيل وصيانة معداتهم واستخدامها في الميدان(2).
الترفيه والهروب من الواقع.
يُعدّ فصل الترفيه عن الأيديولوجيا أحد أهم إنجازات هوليوود، وتُعدّ سمة مميزة لأفلام الحرب الباردة التي أُنتجت في الولايات المتحدة الأمريكية كونها تمثل قصصًا وطنية بين الولايات المتحدة وعلاقاتها مع الاتحاد السوفييتي(4).
أثناء الحرب العالمية الثانية في بريطانيا، كان الذهاب إلى السينما هو النشاط الرئيس لوقت الفراغ لدى الشعب، وأثبتت السينما أنها وسيلة لا غنى عنها في تعليم وترفيه الأمة في زمن الحرب، وكانت فترة الحرب هي العصر الذهبي للسينما البريطانية، وبرز فيها صناع الأفلام مثل: همفري جينينغز، وديفيد لين، وباول وبريسبرغر، وكارول ريد(3). وبهذا تنافست الأفلام البريطانية في الحرب العالمية الثانية مع هوليوود من حيث الجودة وليس الكمية، وقدّمت روايات تحكي عن تجارب الحرب، ومن تلك الأفلام: «هل سار اليوم على ما يرام؟» (1942)، «بدأت الحرائق» (1943)، «حياة وموت العقيد بليمب» (1943)(3).
تشويه الأعداء وتفكيك وحدتهم.
عندما هجمت اليابان على قاعدة بيرل هاربر عام 1941، لم تتوقف هوليوود عن إنتاج أفلام دعائية تدين العدو الياباني وترفع معنويات الجنود الأمريكيين، وقد أضافت الحرب الباردة جوًا خاصًا على الإنتاج السينمائي، فأصبحت هناك مواجهة بين المعسكرين الشرقي والغربي أيديولوجيًا، وعسكريًا، واقتصاديًا، وثقافيًا، وقد عكست السينما هذا الواقع.
السينما الأمريكية شاركت في المعركة الأيديولوجية ضد المعسكر الشيوعي من خلال قوة السينما، وأصبح الشيوعي شرير أعمال هوليوود، وكانت كل الاستوديوهات الكبرى تسعى بكامل قوّتها لإنتاج أعمال ضد الشيوعية، مثل شركة «وارنر برذرز» Warner Brothers بفيلم «كنت شيوعيًا في مكتب التحقيقات الفيدرالي» (1953) للمخرج غولدن دوغلاس، وشركة «باراماونت بيكتشرز» Paramount Pictures بفيلم «ابني جون» (1952) للمخرج بيومارك كاري.
وقد وصل هذا التأثير الأيديولوجي لأفلام الخيال العلمي، وأظهر الإنتاج الهوليوودي العداوة للشيوعية بفيلم «كوكب المريخ الأحمر» (1952) للمخرج هاري هورنز، وصوّر الفيلم كيف أن الشعب الروسي ينتفض ضد حُكّامه، ليكون هذا الإنتاج بمثابة تحريض هذا الشعب على نظامه، لإحداث فوضى من شأنها أن تؤثر سلبًا في الاتحاد السوفييتي(1).
التجنيد ورفع معنويات الجيش.
خلال الأشهر الأولى من الحرب العالمية الأولى منحت السلطات الألمانية الدعم المالي لشركات الإنتاج لصناعة أفلام تسجل القتال على الجبهة لغرض التحريض، وكان الإنتاج المحدود في فترة اندلاع الحرب هو الذي ميّز الفيلم الحربي بوصفه أداة دعائية لها غايات سياسية. وتيقن منتجو هوليوود والحكومة الأمريكية في الحرب العالمية الثانية بأن الأفلام لها دور أساسي تلعبه في تجنيد الجيوش، وهذا جعل أكبر مخرجي هوليوود ومنهم: فرانك كايرا، وجون فورد، وويليام ويلز، جنودًا سياسيين سينمائيين في الحرب.
وكان جون فورد يدير مصلحة السينما في الديوان الاستراتيجي المرتبط بوكالة المخابرات المركزية، وقد كان المخرج فرانك كايرا في خدمة روزفلت، وصور ما بين عامَي 1942 و1945 سلسلة «لماذا نحن نقاتل؟»، وهي سلسلة من سبعة أفلام تحت إشراف السلطة العسكرية الأمريكية، وتم توجيهه لتعليم وتوعية المجندين الجدد، حيث صُورت عديد من الأفلام لرفع معنويات الجنود، ومنها فيلم «فخر مشاة البحرية» (1945) للمخرج إدوارد ديميتري.(1)
تقديم مشهد إيجابي لدول التحالف.
بعدما أُنتجت الأعمال السينمائية الأمريكية التي تشوّه الشيوعية، انضم الاتحاد السوفييتي إلى قوات الحلفاء، وتم ترقيتهم من الروس الفاسدين إلى السوفييت الرائعين بعد الغزو النازي المباشر في الحرب العالمية الثانية، وأُنتجت أبرز أربعة أعمال سينمائية بوصفها أعمالًا دعائية للسوفييت ومنها فيلم «نجم الشمال» (1943)، «أيام المجد» (1944)، «أغنية روسيا» (1944)، و«موسكو» (1943)، وكان الفيلم الأخير يمجد ستالين وشجاعة الشعب الروسي(4)، وفي حلقات سلسلة «لماذا نقاتل؟» تحت رعاية وزارة الحرب الأمريكية بقيادة فرانك كابرا تم قبول سلسلة «معركة روسيا»، التي تُعتبر واحدة من أفضل سلاسل الأفلام الدعائية، باعتبارها حادثًا استراتيجيًا بسبب موقفها المؤيد للسوفييت.
هوليوود والحكومة الأمريكية.
كانت الحكومة الأمريكية -كونها أقوى دولة بعد الحرب الثانية- تطمح لأن تُظهر في أعمالها المنتجة شجاعتها ونبلها وديمقراطيتها، وتواصل هذا الطموح من بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية حتى يومنا هذا مع الأحداث السياسية التي تحصل في وقتنا الحالي، وأصبحت هوليوود أكثر حرية الآن في دمج اتجاهين وهما قيم الشجاعة والوفاء والتضحية، والخيانة وأساليب الخداع التي تتخذها الحكومة الأمريكية تجاه شعبها. ويرى الباحثون في المجال السينمائي أن الأربعينيات هي العصر الذهبي لهوليوود، فقد برزت الشركات الكبرى التي تقاسمت مجموع ما ينتج ويوزع ويسوق من الأفلام وهذه الشركات هي: «فوكس» Fox، «مترو غولدوين ماير» Metro Goldwyn Mayer، «باراماونت بيكتشرز»، و«وارنر برذرز».(1)
وتعتبر فترة السبعينيات هي من أزهى فترات السينما الحربية، ولعل أحد أبرز الأعمال الحربية في نهاية تلك الحقبة هو فيلم «يوم القيامة الآن» (1979) للمخرج فرانسيس كوبولا والذي نال جائزة «كان» في السنة نفسها، وساهم فيلمه في تقديم حرب فيتنام بطريقة جديدة ومغايرة للأفلام الأخرى، ولكن هاجمت السلطة الأمريكية فيلمه بوصفه فيلمًا متمردًا، وذلك لاتهام كوبولا المباشر للجيش الأمريكي القوي والنبيل، وتحول هذا الأمر بجعل الفيتنامي ضحية وليس وحشًا كما صورته الحكومة الأمريكية، وقد ذكر كوبولا في بداية تصويره للفيلم أن «هذا الفيلم هو ضد الكذب، فهو يعبّر عن الأشياء التي نتذكرها بسبب الحرب، أشياء عن طبيعة البشر، وهو محاولة لفهم الخطوات التي أدت بنا إلى الحرب»(1)، وتميزت التسعينيات بوجود أشكال تقنية متطورة مثل: فيلم «إنقاذ الجندي رايان» (1998)، «قائمة شندلر» (1994)، و«الخط الأحمر» (1999).(1)
ولقد تساءلت سينما هوليوود طوال تاريخها ثلاث مرات عن توضيح سبب دخول الحرب: في المرة الأولى «لماذا نقاتل؟» وقت اندلاع الحرب العالمية الثانية، والمرة الثانية في عام 1951 «لماذا كوريا؟» للدفاع عن السياسة الخارجية لإدارة ترومان، وللمرة الأخيرة في عام 1965 «لماذا فيتنام؟» لتوضيح أسباب دخول أمريكا حرب فيتنام، والذي كان مشتركًا بين جميع هذه التساؤلات التي أطلقت هذه الأفلام هو التعهد بأن أمريكا دخلت هذه الحروب بوصفها ملاذًا أخيرًا لإنقاذ العالم الحر(4).
ختامًا، فإن الأعمال السينمائية الحربية المتنوعة هي مادة دسمة ومستمرة تخدم السياسة دائمًا وترتبط بالحرب ارتباطًا وثيقًا، فالأحداث السياسية هي ظاهرة مستمرة، وكل حدث يحصل فيها له مَن يؤيد ومَن يعارض، وتضاد الآراء والتوجهات والاعتقادات تجذب من يحملها إلى رؤية تلك الأحداث السياسية من زوايا مختلفة عبر السينما، وهذا ما يجعلها أكثر التصنيفات التي ترصد مشاهدات أكبر من موجات أفلام الرعب، والخيال العلمي وغيرها، لأنها تعرض حقائق التاريخ المشبعة بالدراما.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش
1.Fuat, Sengul (2005) Cinema and Representation in International Relations: Hollywood Cinema and the Cold War. Department of International Relations.
2.ساكر، صباح (2015) السينما والحرب: الوجه الآخر للسياسة. المجلة الجزائرية للدراسات السياسية.