في خضم نقاش مع أحد الأصدقاء المهتمين بالسينما قبل سنوات، وجدت نفسي عاجزًا عن شرح أسباب حبي للفيلم «حتى ينقطع النفس» (1960) Breathless، وغيره من أفلام المخرج الفرنسي الراحل «جان لوك غودار»، وبقية أفلام مخرجي الموجة الفرنسية الجديدة، ذلك لأن الفيلم -والموجة بالعموم- قائم، في عظمته وأهميته، على فكرة أساسية: تكسير القواعد التي قامت عليها السينما العالمية والهوليوودية في التصوير والإخراج، وأرفض أن يكون ذلك سببًا محضًا لإعجابي بفيلم، إذ كان التحدي الذي أواجه نفسي به، وأواجه الصديق به أيضًا، يقوم على أن يكون للفيلم معناه المتجاوز لتقنيته، إذ «يجب التخلي عن كل ما ليس له وظيفة في العمل الفني» كما يقول «تيودور أدورنو» (1)، أو بالأصح: يجب أن يقول العمل الفني شيئًا، وأن يكون متجاوزًا للتقنية الفنية المحضة. ومن هذا المنطلق تكون المقالة هذه محاولة لفهم ما يقوله الفيلم بفتوحاته التقنية، دون الرجوع إلى بقية أفلام غودار أو بقية أفلام الموجة الفرنسية بالضرورة، وإنما من خلال العودة إلى الفيلم نفسه بوصفه النقطة المحورية الوحيدة.
على الرغم من قدم الفيلم نسبيًا، فإنه يصعب مشاهدة «حتى ينقطع النفس» من دون شعور عميق بحداثته. يغمر المتلقي حين مشاهدته شعور عصري للغاية على الرغم من الأبيض والأسود، والسيارات القديمة، وباريس القديمة، وعلى الرغم من ستايلات الملابس القديمة كلها. لا يدل الفيلم على حقبة الستينيات التي صدر فيها، وإنما يدل في المقام الأول على أسلوبٍ وفهمٍ معاصر للحياة الحديثة -بمعنى الحداثة الضبابي والغامض نفسه- في فرنسا، وذلك ما يمكن أن نراه من خلال أسلوب المخرج نفسه، إذ تنطلق التقنية عند غودار، كما يقول هو نفسه، من رغبته في المساهمة في تشكيل الصورة التي يريد أن يراها في السينما، فهو ينطلق من لحظة فارقة: ناقد عادي يكتب في مجلة «أندريه بازان» الشهيرة، تعجبه بعض الأفلام ولا يعجبه بعضها الآخر لأسباب نقدية عديدة، ويجد نفسه في أمَسّ الحاجة إلى تقديم مساهمته في الصورة نفسها بدلاً من التنظير المحض، ما ينتج لنا ثورة تقنية تخلقها خلفيته النقدية التي تجعل منه مخرجًا عبقريًا، كما تساهم فيها الميزانية المنخفضة.
***
يقدم المفكر الراحل «إدوارد سعيد» قراءة فنية لأعمال عدّة فنانين وكتّاب في كتابه النقدي «عن الأسلوب المتأخر» (2) على ضوء فكرة قدّمها الناقد الموسيقي الأهم «ثيودور أدورنو» عن «بيتهوفن»، تركّز على محوريّة نهاية عمر الفنان في إتاحتها له بتكسير الأنماط الإبداعية واكتشاف وخلق أنماط إبداعية جديدة، إذ يتتبّع إدوارد سعيد حيوات الفنانين الشخصية التي تجعل منهم قادرين على أن يصلوا إلى نقطة تقنية في رواياتهم مثلاً، لا تخضع بالضرورة للمقاييس المتفق عليها لما يجب على الرواية، مثلاً، أن تكون عليه. تكون هذه المرحلة نتيجة لسيرةٍ وتاريخٍ حافلين بتقديم الأعمال الناجحة نقديًا على أقل تقدير، إذ يتفق أدورنو وإدوارد سعيد على رفض التفسير الشائع الذي يؤكد على أن الأعمال المتأخرة -المختلفة جذريًا- للفنانين المهمين هي بالضرورة نتيجة نفاد النبع الإبداعي للفنانين، بل على العكس: يؤكد إدوارد سعيد على وجود أفق إبداعي قد لا يجده الفنان إلا حينما يصل إلى مرحلة لا يهتم فيها فعليًا بالرأي الآخر، ما يؤهله لاكتشافات تقنية هائلة.
غير أننا لو أردنا الرجوع قليلاً إلى مرحلة متقدمة في فهم الأعمال الفنية، لوجدنا أن الكلاسيكية والتقنية التي يتفق عليها الجميع هي بذاتها نتيجة مباشرة أيضًا لكسر قواعد تسبقها، ولكن مبكرًا، إذ قام «باخ» مثلاً، المتقن للـ«فيوغ»، على تقديم مقطوعات تستخدم الفيوغ نفسه وتكسر قواعده نفسها بطرائق إبداعية مجردة. قد يكون النمط الأهم الذي يمكن أن نراه هنا هو الأسلوب المبكِّر هذا: يكسر الفنان المؤسس القواعد بدلاً من أن يكوّنها، وذلك ما يجعل من باخ، مثلاً، عراب الموسيقى الكلاسيكية بالضرورة على الرغم من عدم كتابته للسمفونيات. ومن هذا المنطلق، يمكننا أن نعد غودار في فيلمه «حتى ينقطع النفس» عرابًا سينمائيًا بامتياز، إذ بمجرّد الضلوع في الفيلم وفي التقنية الموجودة فيه يمكننا أن نرى أنه يكسر القواعد من المنطلق التأسيسي ذلك ذاته، ما يمكن أن نطلق عليه "الأسلوب المبكّر"، إذ إنه الأسلوب الذي يقوم على الظروف الأساسية الأولى لناقد يحاول أن يقدم نموذجه الإبداعي لأول مرة بدلاً من تلقي الأعمال والتعليق عليها، ما يرافقه ميزانية منخفضة. تلك الظروف الأولى المبدئية نفسها ما يجعل من باكورة أفلام الفنان قادرة على تقديم فتوحات تقنية إبداعية.
فإذا كانت الأفلام قبل «حتى ينقطع النفس» تقوم على مبدأ «الاكتمال» أو «الاستمرارية» Continuity، يقوم «حتى ينقطع النفس» على العكس من ذلك تمامًا، إذ في اللحظة التي تفترض القواعد السينمائية ضرورة استمرارية لقطة حوارية مثلاً دون قطع في الصورة، تنقطع الصورة في «حتى ينقطع النفس»، وذلك ما يسمى بالـ Jump Cut، وفي اللحظة التي تفترض القواعد السينمائية إياها ضرورة وجود قطع في الصورة لتوجيهها إلى كاميرا وزاوية أخرى، يقوم غودار بتحريك الكاميرا دون أي قطع في المونتاج ودون تغيير للزاوية، ما يعطي انطباعًا واضحًا بأنه ثمة من يمسك الكاميرا ويحركها، إذ نجد أن تكسير القواعد هذا -بالإضافة إلى كونه مرتبطًا مباشرةً بمحدودية ميزانية الإنتاج للفيلم- مرتبطٌ بالدرجة الأولى برؤية غودار الفنية والنقدية السابقة على إنتاج الفيلم، فمحدودية الميزانية تعني عددًا أقل من الكاميرات، وهي ما يحتاج إليها مبدأ الاستمرارية continuity. من هنا، كانت محدودية الميزانية سببًا تقنيًا مساعدًا لغودار لاكتشاف حلول إبداعية حقيقية على الرغم من معرفته بالقواعد الأساسية المسبقة، ما قد لا يكون متواجدًا لو لم يكن فيلم «حتى ينقطع النفس» أول أفلامه.
تقوم التقنية في جوهرها عند غودار في فيلمه الأول على فكرة أساسية صادمة، في وقتها على الأقل، وهي أنه يريد من المشاهد أن يعي بأنه يشاهد فيلمًا في كل لحظة من لحظات الفيلم، ففي الحين الذي كانت الغاية الأولى والأساسية لاستخدام التقنية في السينما قبل «حتى ينقطع النفس» هي أن ينسى المشاهد أنه يشاهد فيلمًا بممثلين وحبكة مسبقة من خلال الإتقان في التصوير والاستمرارية والزوايا المتعددة، يحاول غودار أن يقوم بالعكس، إذ يؤكد «حتى ينقطع النفس» على أن هنالك ما يريد أن يقوله الفيلم من خلال الصورة أولاً، لا من خلال الحبكة، إذ يعيدنا الفيلم إلى الواقع: واقع التصوير، وواقع المونتاج، وواقع صنع الفيلم نفسه، بدلاً من الانغماس في وهم القصة والحبكة التي هي في حقيقتها انغماس في الوهم. يؤكد غودار ذلك في مقابلته الشهيرة(3) حين يسأله المحاور الشهير «ديك كافيت»: «أليس لديك سكريبت سينمائي؟»، فيجيب: «لدي سكريبت ولكنه ليس مثل السكريبتات هنا في أميركا»، ويظهر بعدها بعض سيناريوهات أعماله القادمة لتظهر على أنها دفاتر جيب تحوي في صفحاتها بعض جمل فقط، قبل أن يضيف في وقت لاحق من اللقاء إياه: «لا يقوم الفيلم ولا تقوم صناعته على الكتابة بقدر ما تقوم على التصوير والمونتاج. 50٪ من أفلامي تصوير والـ 50٪ الأخرى مونتاج» ما يحيلنا للتساؤل بوضوح: ما الذي تقوله الكاميرا؟ وما الذي يقوله المونتاج في الفيلم؟ وهل يمكن القول بأنها مجرد محاولات تجريبية لكسر الأنماط الإبداعية السابقة؟
قد يكون أطول مشهد في الفيلم هو مشهد «ميشيل» و«باتريشا» في غرفتها، وهو الواقع في 25 دقيقة من 90 دقيقة مليئة بالمواقع والمشاهد، كما أنها متحركة زمنيًا بشكلٍ سريع للغاية، لا يساعدنا في تتبّع الزمن. لا يحتوي المشهد على أي حوار مهم، كما أنه بكل تأكيد لا يمكن أن يكون ذروة درامية، بل ما يمكن قوله عن المشهد الأمتع في الفيلم هو أنه التجسّد المباشر لما يريد أن يقوله غودار: كيف يمكن للصورة والمونتاج والتمثيل أن يقولوا شيئًا بصريًا وسينمائيًا عبقريًا دون أن يكون ذروة درامية، ودون أن يكون عبقرية في الكتابة والحبكة الأدبية نفسها. يحاول المشهد، والفيلم في مجمله، أن يقول شيئًا بالصورة بدلاً من أن يقول شيئًا باللغة أو بالفكرة أو بالحدث، وهو هنا ما يجعل للسينما والفيلم قيمتهما الذاتية المستقلة عن الأدب أو الموسيقى مثلاً: القيمة البصرية، إذ نجد أن أهم ما يحويه المشهد هو التفاصيل البسيطة التي يقوم بها ميشيل وتقوم بها باتريشا: يتقلّب ميشيل على السرير بشكلٍ لعوب، تنظر باتريشا إلى المرآة دون أي سببٍ حقيقي في خضم محاولاتها لأن ترتدي ملابسها. تدور محادثة غير ذات معنى بينهما. ميشيل المتهور اللامبالي بدرجة مخيفة ومراهقة يعود لينام مع باتريشا مجددًا، غير أنها لا ترفض تمامًا كما أنها لا تقبل أيضًا. يحاول أن يرفع تنورتها لتصفعه بهدوء تام ومن دون أي انفعال على وجهها ووجهه. تلعب بالأشياء من حولها، يقوم بعمل بعض الحركات أمام المرآة. يتساءل: «لماذا لا تنامين معي؟». «لأنني ما زلت أحاول التأكد إذا ما كنت أحبك». تقول ذلك وهي تلعب بأظافرها بلامبالاة مخيفة، في الحين الذي يقلّب هو بين يديه مجلة إيروتيكية، قبل أن تعود لتنظر في وجهه وهو يضع رداء السرير على وجهه.
لا بد أن يتوقف المُشاهد عند لعب ميشيل وباتريشا بالكلمات لينظر في وجهيهما وملامحهما ليبحث عن حقيقة الحوار نفسه: هل تفكر باتريشا فعلاً في حقيقة مشاعرها تجاه ميشيل؟ هل يحب ميشيل باتريشا فعلاً وهو العاجز عن التعاطف مع أي مخلوق كما رأينا سابقًا في لقطات عديدة من الفيلم؟ لا نجد في وجهيهما أي درجة من الحقيقة، كما أننا لا نجد غموضًا بالضرورة. كل ما نجده وجهين عصيّين على التفسير باللغة والحبكة. في لقطات الحوار تلك يجد المشاهد نفسه أمام صورة معبّرة بذاتها عن اللحظة اللعوب المليئة بالدلالات البصرية التي قد لا يمكن لأي شيءٍ آخر سوى فيلم واعٍ بذاته أن يقبض عليها: ملامح اللحظة وملامح التصوير وملامح التمثيل التي تتجاوز الحقيقة لتصل إلى الحس المجرد، كما لو كان فيلمًا وثائقيًا. يستمر المشهد بهذه الألعاب التافهة ليقدّم صورًا حسية من علاقتهما التي لا يمكن إطلاق الصفة الرومانسية أو الصفة الجنسية عليها، كما أنه لا يمكن إطلاق صفة الصداقة عليها. هي علاقة تقبض عليها الكاميرا فقط، لتوضّح تفاصيلها الدقيقة في اللعب والحوار البسيط التافه الممتع، وفي اللمس والنظر والعبث.
يستمر الفيلم في تقديم الفكرة نفسها في بقية أفكار ومشاهد الفيلم، إذ إنه يحاول أن يفهم الشخصيتين الرئيستين بالطريقة ذاتها، من خلال التفاصيل البصرية الدقيقة لا من خلال الحبكة: ميشيل مُلاحَق من قِبَل الشرطة لقتله شرطيًا بلامبالاة غريبة، يسرق السيارات والناس من دون أي ضمير أو أي تفكير، كما أنه يسرق القهوة والمجلات، ما نكتشفه من خلال الألاعيب البصرية ذاتها التي نراها في مشهده مع باتريشا. وفي الحين ذاته نرى باتريشا في مجتمع ثقافي وهي تعمل بوصفها صحفية أمريكية في باريس، تلتقي بأمريكي آخر لشرب القهوة والمسامرة في حوار يقطّعه المخرج بالمونتاج ليبرز جوانبه الثقافية المصطنعة، كما لو كان يريد أن يعلن بالمونتاج نفسه مشكلته الفعلية مع الحوار، كما أنها تحضر لقاءً ثقافيًا مع فيلسوف فرنسي يحاول أن يتجاوز الكليشيهات في إجاباته عن أسئلة الصحفيين، وهو الذي يطعّم الحوار نفسه بغزلٍ خارج السياق وغير متوقع لباتريشا نفسها. يُظهر المشهد تعابيرها وافتتانها بذاتها خلال اللقاء الصحفي بعد غزله، ليُظهر شخصيتها من خلال الصورة أيضًا لا من خلال وجودها في هذا المجتمع الثقافي نفسه فحسب.
من هذه الفتوحات التقنية التي نراها في «حتى ينقطع النفس»، يمكننا أن نؤكد على أنها تقنية ذات وظائف فنية جمالية حادة وواضحة. هي المحاولة الأولى الشبيهة بمحاولة عراب السينما الأول، «تشارلي تشابلن»: كيف يمكن للصورة أن تقول شيئًا تعجز اللغة والكلمة والأدب والشعر والموسيقى عن أن تقوله. هي الصورة حينما تأخذ بُعد الكينونة، لا الدلالة وحدها. ولهذا، لو عدنا إلى تأسيسية غودار السينمائية لوجدنا أنها في هذا البُعد المجرد في استخدام الصورة من أجل أن تقول شيئًا، إذ يكون المؤسس الذي يقوم على تكسير وتحدي ما هو متفق عليه حرًا مطلقًا من كل القيود الفنية والسوقية، وما قد يكون نتيجة لخلفيته النقدية البسيطة وميزانيته الإنتاجية المحدودة، إذ يمكن القول عن «حتى ينقطع النفس» إنه فيلم غير جماهيري لكثرة تجاوزاته الإبداعية، وهو ما يجدر بأول الإبداع أن يكون، أو ما يجدر بـ«الأسلوب المبكّر» أن يكون، قبل أن يبدأ السوق وشباك التذاكر بالتحكم بدرجة معينة بهذا الإبداع وإدخاله إلى السينما الأكثر جماهيرية. ولهذا، يمكننا أن نرى أن تقنيات غودار قد وصلت إلى مخرجي اليوم جميعًا: «وودي آلن»، «مارتن سكورسيزي» و«كوينتن ترانتينو» مثلاً، ولكن بصورة أكثر بنيوية وأكثر قدرة على البيع في شباك التذاكر. ذلك ما يجعل من غودار، في «حتى ينقطع النفس» على أقل تقدير، أحد أهم العرابين الأوائل في السينما العالمية ككل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش
1.تيودور أدورنو: من أهم مفكري مدرسة فرانكفورت النقدية، وهو الناقد المهتم بالفنون والموسيقى في جوانبها الفلسفية والتقنية والاستطيقية على حد سواء. الاتقباس من المصدر التالي:
Adorno, Theodor W., Philosophy of New Music, trans. Anne G. Mitchell and Wesley V. Blomster (New York and London Continium, 2004),P.70.
2.سعيد، إدوارد. عن الأسلوب المتأخر، ترجمة فواز طرابلسي، دار الآداب.
3.مقابلة ديك كافيت مع لوك غودار: