ترجمات

رثاء بيلا تار لغودار

كان العالم ليصبح مكانا آخرَ بدونه. كنا سنشاهد صورًا مختلفة، وكانت ستجمعنا علاقة مُغايرة مع السينما والعالم من حولنا. لم يعاملنا قط -نحن المتفرجين- على أننا أطفال وحمقى؛ بل -بالأحرى- معاملة الند للند. لقد وثق بنا، وعرف كيف يكتسب ثقتنا، كيف يسعدنا، وكيف يخدمنا بكل ما في هذه الكلمة من معنًى نبيل.
علَّمتنا أفلامُه أن السينما ليست مجرد عالم ترفيه؛ بل هي الفن السابع. وعلمتنا أن قيمة أي عمل فني لا تحدده عائدات البوكس-أوفيس؛ إنما يحدده مدى تأثيره في الناس، وكيف يصبح جزءًا من حياتهم اليومية، كيف يصبح أبديًا.
إن الاختبار الحقيقي لأي فيلم، هو أن يبقى مقدَّرًا بعد عقود من الزمن؛ وأعمال غودار تجتاز هذا الاختبار بسهولة. لم يعتنق يومًا أيّ شكل أو أسلوب أو مدرسة؛ لأنه هو هو المدرسة والشكل والأسلوب. متحديا اللافهم والتهكم والازدراء، صنع غودار أفلامه بابتسامة ساخرة، ولُفافة سيجارة تتدلى من فمه. مثلما أعطانا الشجاعة، أعطانا حسًّا أخلاقيًّا.
لقد حرَّرَ liberated غودار الفيلمَ نفسه، بوعيه التام أن السرد الخطي كان مرض "الفيلم الروائي" العضال. هذا المرض الذي أحال كنز الترابطات الصوَريَّة* قصةً بسيطة، وقتل في الوقت نفسه الإحساس الظرفي**.
أرانا كيف أن الفيلم ليس سيناريو مبنيًا على كتاب كوميك؛ بل توليفة من صور وصوت، وإيقاع وموسيقى وحركة، ونظرة إنسانية. وهكذا يغدو الفيلم فنًّا. لقد علمنا أن ليس ثمَّةَ ما نخشاه، وأننا أحرار وشجعان. كانت آراؤه كلها تدور حول استقلالية الإنسان، وحول التجارب* التي تنتظرنا.
أعظم إنجازاته كانت: أننا نخرج من السينما بغير الشعور الذي دخلنا به؛ إذ نصبح مستقلين أنفسنا، نصبح شيئًا "أكثر" مما كُناه، وذلك بمجرد التوهم بأننا صرنا أحرارًا. لربما كان هذا هو الشيء الأهم، فالتوهم بالحرية هو الخطوة الأولى نحو الحرية الحقة. لكي نواجه، ونضعَ حدًّا للخنوع المثير للشفقة الذي ما زال يسم صناع الأفلام اليوم.
أوضح جليًّا في كل أعماله، أنه ليس بمقدور امرئ جاثٍ على ركبتيه أن يصنع فيلمًا حقيقيًّا وأصيلًا على الإطلاق.
يُعرَف هذا المخرج العظيم بحقيقةِ أنه إنْ عُرضت عليك صورة واحدة من أفلامه، ستعرف أنها له على الفور. فهي فريدة وخاصة به، لا تخطئها عين؛ لأنها تعكس أسلوبه الحق ولغته الخاصة. قلة قليلة قادرة على هذا -إن بقي منهم أحد- وهذا بالفعل ما يجعل أعماله استثنائية. أعمال فنية بقيم هائلة، ومستوى عالٍ، وتأثير كوني.
ولهذا فإننا ندين له بعظيم الامتنان .. سنفتقده.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

أ. عيسى العبيد
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا