ترجمات

رُبَّما مات غودار

‏عند تحريري لفيلمٍ ما، أحبُّ أن أترك التلفاز مُدارًا على محطات الأفلام صامتًا. إنه طقسي الخاص أنْ أقلّب نظري بين الحين والآخر نحو مَشاهد أخرجها آخرون. عندما نقّحنا فيلم «الأصدقاء الطيّبون - Goodfellas»، نهضتُ من على الكرسي، وألقيتُ نظرةً على التلفاز، فرأيتُ صورًا واقعيّة. توقفتُ ذاهلًا لأرى لاعبي كمال أجسام يرفعون الأثقال في صالة الألعاب الرياضية؛ فكانت أجسامهم في هيئات غريبة، وبينهم فتاتان ترقصان. استمرَّت مَشاهدُ من دار الأوبرا بالظهور، تارةً يصدح صوت الصالة الرياضية، وتارةً أخرى تصدح الأوبرا. كنت كالمسحور. لكن ما الذي شاهدتُه؟ لحظتَها، كنتُ أعلم أني أشاهد فيلمًا لم يخرجه إلا جان-لوك غودار. كنتُ أجهل أوبرا «أرميد» لجان-باتيست لولي، وكنتُ أجهل قصيدةَ «توركواتو تاسو» التي تعود للقرن السادس عشر المقتبسة منها، لكنّني حتمًا أعرفُ غودار. أعرفُ بصمتَه ولمستَه.
لطالما تحدثتُ على مرّ السنين عن تجربة شبابي في الستينات؛ إذ كنتُ أرتاد السينما وأخرج من المسرح مشدوهًا في كلِّ مرّة من أنطونيوني وكازافيتس ورينيه وبيرجمان وأوشيما وسيمبين وفاردا وإيمامورا وفيلّيني وتروفو وأمثالهم.
ثمّ أتى غودار.
عادةً تدخل دار السينما وتقعد على كرسيك مُحمّلًا بأفكار ثابتة عن ماهيّة الأفلام، عن إنتاجها وحدودها. لقد جمع غودار كل تلك المفاهيم المشتركة وزجّ بها في الهواء، وتركها تقعُ حيثما وقعتْ؛ فأعاد تعريف السينما، ناهيك عن أسلوبه الخاص في أفلامه التي شاهدتها دقيقةً دقيقةً. مرارًا وتكرارًا، تبدو أفلامه متفاعلةً متبدَّلةً أمام عينَيك، مشهدًا تلو الآخر، وصورةً وراء صورَة.
عند مشاهدتك لممثلٍ في فيلمٍ روائيٍّ، أأنت تشاهدُ شخصيّةً ما أم إنسانًا يؤدّي عملَه؟ ماذا تعني قصة في فيلمٍ بالضّبط — هل هي لقطة أم سلسلة من اللقطات تكافئ فقرات في رواية؟ أم لحظات واقعية مستمرة التقطتها الكاميرا أم كلاهما في آنٍ واحد؟ لا يسأل هذه الأسئلة ويقاربها بمزيج من الصرامة والحرية إلا شخصٌ أحبّ السينما كما أحبّها غودار وخبرها.
عندما شاهدتُ فيلم «منقطع الأنفاس À bout de souffle» للمرة الأولى، أسَرني الإخراج ذاته. لقد ذُهلت. أًعزي ذلك لتلك الانتقالات المفاجئة والمُثيرة أيّما إثارة من مشهد لآخر، ولكنّ التجربة الفعلية مسألةٌ أخرى. في البداية كانت مُقلِقَة، ثم فاتِنة، ثمّ مبهجة. لكن لمَ هذا الانتقال العشوائي بين هُنيهات زمنيّة؟ بعد وقتٍ قصير من المشاهدة، فوجئت أنها ليست عشوائيّةً، وأنها دائمًا تأتي على فواصل زمنيّة لتوقظك بسحرها. لكن توقظك لماذا؟ لذلك السؤال الممض عن عمليّة التحرير السينمائي: لمَ الانتقال المباشر من مشهد لآخر، لم إلى هذه الصورة بدلًا من تلك؟ وبعبارة أكثر وضوحًا، أصبحت عمليّة إخراج الأفلام جزءًا من الفيلم ذاته.
أوغل غودار في هذا الأسلوب فيلمًا بعد آخر، فهو لا يسائل قواعد الفيلم فحسب، بل محسوسات السينما أيضًا. كانت مادة السيلولويد جزءًا من التقاليد التجديديّة قبل غودار، ولكن كان هذا مختلفًا وأقرب إلى الفنون البصرية. تعامل غودار أكثر مع الشخصية والسرد والمهارة، مثلما نعرف نحن السينما. فعل كل ما لم يكن من المفترض أن نفعله، كانقطاع الصوت المفاجئ، أو إدخال إيقاعات الموسيقى في لحظات غريبة، أو إدراج تذبذبات إيقاعيّة في الأصوات المحيطة. لقد أراد أن تبدو اختياراته عفوية وعشوائية، لكنها خرجت عن الإطار المعنوي للمادة. صُوّر «ألفافيل Alphaville» في باريس عام 1965 التي تجلّت كمدينةٍ للمستقبل. بصريًّا، ارتبط الفيلم ارتباطًا مباشرًا بالموجة الألمانية التعبيرية — إذ تشعر بحدّتها عند انعكاس الألوان المفاجئ. في «ويكند Week-end»، تلمح عنف الصورة وشدّة مقت غودار لثقافة الطبقة الوسطى في فرنسا في شتّى الطرق والأساليب، وتشعر بها حقًّا في صورٍ منفرة داخل المشهد، فالوسط نفسه يصبح جزءًا من السرد. وقتذاك، كلّ الاعتراضات التي تتوقعها موجودة، ونابعة من نفس الرأي: ما هكذا تُنتج الأفلام. حينها يُجيب غودار «لمَ لا؟» في هيئة فيلمٍ جديد.
ثمّ أتت النقلة إلى الألوان. وضعنا غودار وجهًا لوجه أمام الألوان، بدءً بفيلم «المرأة هي المرأة Une femme est une femme»، وأكثر جرأةً في «الاحتقار Le Mépris» و«صُنع في أمريكا Made in USA» و«الفتاة الصينية La Chinoise» و«شيئان أو ثلاثة أعرف عنها - Deux ou trois choses que je sais d'elle». يجبرنا غودار على الألوان الأساسية الفاقعة التي عملت على تسوية الصورة، آتيةً تجاهنا بكل أصناف التراكيب. كنتُ مولعًا في قول إنّ أفضل رسَّامَين حديثين هما جان-لوك غودار وميكل آنجيلو أنطونيوني، ولكنّي قد عنيتُ ذلك حقًا.
وبعد ذلك كثُرت الكلمات في الإنتاج: عناوين الفصول، كلمات انتقاليّة في وسط المشهد، وكلمات أُعيد ترتيبها لتشكّل كلمات أخرى، وكلمات دخيلة بصريًّا وإيقاعيًّا، وبالطبع، كلمات الحوار. أجد صعوبة في تتبع تلك الاقتباسات وربطها مع باقي الفيلم، وبالكاد أميّز مصدرها، لكن ليست هذه المسألة. مثلما عُرف غودار، إن توظيفه للاقتباسات مُثير للفضول. كانت هذه الأفلام تُشعرك بالحرية على أقلّ تقدير حتى وإن كانت أفلامه مستفزّة جدًّا، إذ لا تكفّ عن إشباع عينَيك وخيالك.
في الحقيقة، كان غودار غزيرَ الإنتاج وأفلامه كالسّيل، وكانت صوته المتجدد دومًا، وردوده حول أهم ما يحدث في العالم — ثورة التحرير الجزائرية، حرب ڤيتنام، تأثير الماويّة، أحداث العام الثامن والستين من مايو، باريس المتقلبة، حياة الرجال والنساء والصبية، واقع كسب العيش وتوفير الطعام على الطاولة. لكن كأي مُتلقٍ هنالك أعمال معينة أثرت بي تأثيرًا عميقًا. فيلم «أنْ تعيش حياتها Vivre sa vie» كان تجربةً لامست كثيرًا منا. كنت مذهولًا مشهدًا تلو مشهد — كمشهد التسجيلات حينما تحركت الكاميرا مع شخصية نانا التي مثلتها آنا كارينا وفق تناغمٍ جسديّ؛ ومشهد اللقاء بالفيلسوف برايس بارين في المقهى؛ والمشاهد الوثائقية التي عرضت لنا حياة نانا في الدعارة مع اهتمامٍ دقيق في جزئية الموسيقى والصورة الشعرية على الشاشة. لكنّ المهم هو التأثير الحيّ للفيلم بأكمله. رُأيت نانا ودُرست بدقة وعناية من عدة منظورات كما لو أنّها لوحة رسمها فنّان على مرأى منا. كانت وفاتها المفاجئة للبعض قاسية وغير مرضية. لكن بالنسبة لي، كانت مناسبة؛ لأن هذا ما يحدث على الدوام في الشارع.
«الاحتقار Le Mépris» فيلمي المفضل لغودار. إنه مأساة صادقة، فيلم عن الخيانة الحقيقية: خيانة الزوج لزوجته، خيانة السينما التي جسَّدها مُنتِج جاك بالانس، خيانة هوميروس، خيانة الأسطورة، خيانة القديم. في اللحظة الأخيرة، تبتعد الكاميرا عن أجواء صناعة الفيلم إلى محيطٍ هادئ على مدّ النظر يناشد بالسكون. هذا المشهد لامسني حقًّا، إنّه يرثي السينما، والحب، والشرف، والحضارة الغربية برمّتها.
في مقدمته لرسائل تروفو، كتب غودار: «ربّما مات فرانسوا. ربما أنا حيّ. لكن، أثمّة فرق؟». الآن، رحل غودار، مثلما رحل تروفو. يمكنك قول المثل في روبرت جونسون أو هيرمان ميلفيل أو سوفوكليس أو هوميروس، لكن فنّهم حي بلا جدل، فنٌّ يحررنا؛ أكنّا مستعدين له أم لا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

علا ناصر
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا