«جرت حوادث هذه القصة في عهد كان كل فرد منا يخوض فيه معركته الخاصة ويكافح وحيدًا معزولاً لتحسين عيشه وكان الوعي المصيري العام في بداية تكوينه».
هكذا استفتح المخرج اليوغسلافي بوشكوفتشينكش مسيرة السينما السورية بفيلمه «سائق الشاحنة»، عن سائق يخوض معارك الجميع وحده نيابة عنهم دون إغفال معركته الخاصة، إذ يرفض الترقي من معاون سائق لكي لا يترك معلمه وحده والذي حكم عليه الهرم بأحكامه، ويعيش قصة حب مع ابنة معلمه التي دائمًا ما حاول تسويقها له زوجةً، خشية أن يكسر قلبها وقلب والدها، وليعلما أن هناك سندًا لهما في هذه الدنيا، ويحاول الحيلولة قدر المستطاع دون أن تذهب ابنة عمه الصغيرة للخدمة في بيوت المدينة شفقةً عليها وحبًا لها، ويحاول أن يوفر في وسط هذا كله ما يكفي لعلاج أمه، وما إن تتطور الأحداث رغمًا عنه، ويصبح سائقًا ويستغنى عن معلمه، وتلهيه المعارك عن ابنة عمه، ويحاول أن يقارب ويسدد حول مخاوف والدته من غربة ولدها، حتى يزداد إصرارًا في القتال وحده في جميع هذه الجبهات، فتراه يجمع من المال ما يكفي ليصلح معه شاحنة مستعملة لكي يعطيها لمعلمه، ويبعث بابنة عمه إلى اللاذقية لتخدم في بيت صاحب الشركة مؤقتًا حتى يكُفّها لاحقًا عن الخدمة في البيوت، ويحاول وسط هذا كله ألّا يخون إضراب السائقين زملائه، الذين يطالبون بحقوق أفضل للتقاعد بعدما رأوا ما أصاب معلمه من إهمال، في هذا كله يرى «خالد تاجا» الذي أدى الدور الرئيس، نفسه مشجوج الرأس بعد أن فشل في جميع هذه المعارك.
وما إن ينتهي فصل الفشل في الثلث الثاني من الفيلم، حتى يحين الإدراك بفداحة الانهزام حين تقاتل وحدك في حين يمد الناس أيديهم لك، وترى الجميع يقدر تضحياتك ويحترمها بمشاعر الغضب نفسها التي تملؤهم في اختيارك للقتال وحيدًا، وهذا كله جسّده اليوغسلافي في صور جمالية جذابة تبرز سوريا بالأبيض والأسود بالإبهار نفسه الذي تحمله لك الصورة الملونة عن هذه الأرض.
هذه التجربة المتواضعة كانت مُحمّلة بالمشاعر رغم غياب العنصر الموسيقي في غالبية المَشاهد. وقد جاءت هذه التجربة في عرض مجهودات مخرج متواضع التجربة، إذ لا يملك إلا فيلمًا واحدًا في جعبته، مع رصيد أكاديمي كبير في عرض خبراته، إذ إن الجل قد أمضى حينها أكثر من ست سنوات في وزارة الثقافة السورية عاملاً بها ومحاضرًا ومدربًا حتى يتم بناء المشروع السوري بالشكل المطلوب.
والحقيقة أن افتتاحية هذا المشروع كانت افتتاحية فاتنة، اجتمعت في أرجائها جميع العناصر السينمائية المطلوبة لكي يكون لديك فيلم سينمائي جميل، إذ يبدأ الفيلم بأغنية شاعرية تسمعها مراهقات على أطراف الجبل، تُقدّم لك حالهن وهُنّ في الهم غارقات، رغم أن لديهن رغبة عارمة في الحياة تتناسب مع سنهن بل تزيد، وبتلك المقدمة أيضًا ستعرف أي الشخصيات ستجذبك أكثر لمعرفتها، وأيها ستمر مرور الكرام، مقدمة كانت هي الأروع، وبداية هي الأجمل لافتتاح أي مشروع سينمائي في العالم.
وعلى الرغم من جاذبية القصة، فإن فيها -كعادة ما يُفتتح به فنيًا- ضعفًا بيّنًا ومدرسية طاغية في سير أحداثها، فلا ترى في القصة ما تتطور معه الشخصية بتدريج منطقي، إنما ترى شخصية يمر عليها حدث فارق وتتعلم منه الدرس.
ورغم بساطة ما تتجه إليه مسارات الشخصيات والقصة، فإن تفصيلة الصراع مع الذات تُريك زاوية معقدة ومركبة تتفاعل معها الشخصية الرئيسة والشخصيات الثانوية جيدًا، وإن كانت هناك إشكالية في مسألة تطور هذه الصراعات، وذلك عائد بكل تأكيد إلى تشتت الدوائر وكثرتها.
وبذلك يكون «سائق الشاحنة» هو أول فيلم طويل يقوده السوري، وقد قاده بجمال تتطلبه السينما، وعالمية تقتضيها عناصر الفيلم الأجنبية، وبثيمة جديدة رغم بساطة معالجتها وتواضع قدرات مؤلفيها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش