الأب الذي أعطتك إياه الحياة؟ إن لم يكن إدوارد بلوم1 فاسمح لي بأن أخبرك أنها بخستك.
كلنا (سأقول تحوّطًا أغلبنا) كان له أب وهبه الله بسطةً في الجسم والعلم (من موقع الطفولة أتحدث) فكان حامي الحمى الوهّاب العليم الرزّاق القادر على فتح الأبواب المغلقة، وكانت حكاياته ينبوع الحكمة والتسلية أيضًا، وقد حسبناه الرجل الذي لا يُقهر ثم تسللنا من مرابع الطفولة بأجساد تكبر وبوعي يتنامى، كاويًا بصائرنا بفكرة مزعجة تجعلنا نُقِرّ بمحدودية هذا الأب الذي يستسلم -ببدايات صبانا أو نهاياته- وحسب طاقته على المقاومة (قد يتشبث بصورته ومكانته فترة أطول) يُرهق ويسقط تحت سياط تشكيكنا.
إدوارد بلوم (ربما بتشجيع من موهبته أو من زوجته المحبة أو بإيعاز من نبوءة قديمة) لن يقبل بأن تتراجع عظمته في عين ابنه، وبذلك استحق أن يكون بطل فيلم أعتبره أنجح أعمال سيد الفانتازيا تيم بورتون2، وسيجسد ثلاثة ممثلين مسيرة حياته الغنية، متناوبين على نحو غير خطي الظهور والفعل.
إدوارد بلوم، حتى آخر لحظة في حياته، يصر على أسطرتها، من أحلامه التنبؤية في طفولته (رؤية موت العمة ثم رؤية موت الأب)3 وشجاعة صباه التي جعلته يقبل تحدي أصحابه فيطرق باب ساحرة المستنقع ليرى كيف سيموت، ولن يرتعد للحظة وهي ترفع الرقعة عن عينها الزجاجية ويرى ميتات رفاقه المختلفة ثم ميتته هو التي سيخفيها الفيلم عنا من فرط عاديتها ربما أو من فرط غرابتها4.
يشب إدوارد وتكبر تحدياته. يواجه كارل العملاق ويُخرجه من ويتشتا5 لتطمئن أفئدة أهلها، ويصاحبه في رحلة غريبة يقابل فيها الشاعر الذي ظل اثني عشر عامًا يكتب قصيدة لم ينجز منها غير بضعة جمل مبتذلة6، ثم يصحب المستذئب في ليلة تحوله7، ويعاون -غير متعمد- لص بنوك في سرقة كبيرة، ويدخل جنة عدن (بلدة سبكتر المخفية8) حيث الجميع يغني ولا أحد يلبس الأحذية.
ربما لو كان لك هذا الأب لانزعجت مثل ويليام ابن إدوارد، ولمللت تكرار الحكايات وتبدُّل بعض تفاصيلها بين رواية وأخرى، ولكرهت عجزك عن القبض على الحقيقي فيها9، وستقول لنفسك إن حكاياته السريالية تعويض بائس عن نجاحات لم يحققها. ربما اتهمته سرًا بإهمالك، ولن يلومك غير أمك، فإدوارد بلوم بائع متجول يقضي أيام عديدة خارج البلدة ليجلب قليلًا من المال وكثيرًا من الحكايات، ولا اعتذارات عن الغياب الذي ستشك في مرحلة من نضجك وتأجج غرائزك أنه يعني ربما علاقات غرامية في البلاد البعيدة أو حتى أسرة أخرى، وبقدر ما سيكون ذلك مؤلمًا، لن ينفيه الأب، بل سيحكي أيضًا عن جيني الشابة الآسرة التي سيتردد عليها في بلدة سبكتير والتي تستقبله مرارًا وتقع في غرامه ولكنها حين يحاول إنقاذ البلدة سترفض مبدئيًا عرضه10.
نعم، إن فيلم «سمكة كبيرة» -في إطاره الكبير- حكايةٌ عن علاقة ملتبسة بين أب بابنه الوحيد، علاقة يجتهد الأب فيها ليحافظ على إعجاب ابنه به متسلحًا بحكاياته المدهشة، فيما يتفاقم شعور الابن بهوانه على أبيه للحد الذي يجد فيه مبررًا لهجره والابتعاد إلى أقصى الأرض كي لا يرهق نفسه بمطابقته نسخة الأب التي حصل عليها الآخرون.
لـ«وليام» كل الحق في التذمر، فحتى قصة ولادته يؤسطرها أبوه ويرويها له وهو طفل، ويكررها وهو صبي، ثم يحاول أن يوجزها في حفلة تخرجه، ويعيدها في زفافه وتظل تتطور وتوغل في الغرابة دون أن تصحح الأم تفاصيلها حتى يسأل ويليام طبيب البلدة في آخر زيارة فيخبره أن أباه كان غائبًا يوم ولادته!!
إدوارد بلوم في أحد أطيافه هو أبي وأبوك الذي يغرس نفسه بلسانه في تفاصيل حياتك حتى التي لم يكن فاعلًا فيها، لكن إدوارد متطرف يسرق الأضواء من ابنه حتى ليلة عرسه. وهذا هو المزعج الذي سنعيشه من خلال ويليام، فكلنا نتذكر آلام الانسلاخ عن ظل الوالد ورغبتنا في التفرد وصراعه بحجة حمايتنا لإبقائنا تحت مظلة قراراته.
إدوارد بلوم رجل شهم يعود لينقذ من الخراب قريةً مر بها من سنوات، يعيش محترَمًا في محيطه محافظًا على قيم مجتمعه11 ومحبوبًا من زوجته (ولنتذكر هنا مشهد البانيو الحميم بينهما في آخر حياته) وحتى زوجة الابن التي فر بها ويليام بعيدًا عن الأب ستقع أسيرة الإعجاب به من الزيارة الوحيدة للبيت.
وكعادة أفلام تيم بورتون العائلية ومهما بدا ظل الأب فيها موحيًا بثقل مزعج غير مبرر، فستكون النهاية دائمًا مُرضية ترسم ابتسامة وتملؤنا بالرضا، ففي ختام الفيلم -بلا نبوءات مسبقة ومن خلال عين زجاجية أخرى هي كاميرا بورتون- سنرى كيف ينهض الابن الضال لإكمال مسيرة الأب فيؤسطر ميتته ليجعله سمكة كبيرة خفيفة (خفة الحكايات الخيالية) ويعيده إلى البحر ثم يقيم جنازة تظهر فيها كل شخوص قصص الأب: العملاق، والمستذئب والشاعر والتوأم الملتصق، سيرك كامل في جنازة.
إن كنتَ متابعًا لأعمال تيم بورتون فستتذكر شخصيات أبطاله الغريبة بخلفياتها الغامضة والمختلفة شكلًا عن الآخرين، والتي تتعامل بخفة مع الحياة ولكنها ستوسعها بالسخرية حينًا وباللطف حينًا آخر، وفي اللحظة المناسبة ستتطرف بكآبتها وسيتآمر معها تيم بورتون بكاميرته فتتقشف لونيًا حين تنتقل لبيوت ذاكرة البطل الطفل (البيوت المتفردة البعيدة والقلاع النائية والأكواخ المغبرة المتهدمة).
أخرج تيم بورتون في مسيرته الطويلة عديدًا من الأفلام، وأنتج أفلامًا أخرى ولا يزال يعمل، حتى لقد قرأتُ مقالة حديثة تتهمه بأنه يتقيأ أفكاره القديمة في كل أعماله الحديثة، لا يهم! هذا الفيلم منه يكفيني، رغم براعة قصة «بيتلجوس»، واللوحات الغنائية الجميلة التي صنعها الأقزام في فيلم «ويلي وونكا ومصنع الشوكلاتة»، والبساطة المدهشة لفيلم الستوب موشن «العروس الجثة» والوحدة التي أكلت قلبي وأنا أرى إدوارد بأيديه المقصات وشخصيته الطفولية ووجهه الشبحي من قلة تعرضه للنور.
فيلم Big Fish قدّم ببساطة مدهشة تعقيدات علاقة أب بابنه، ورغم كل الحبكات الفرعية -المتنوعة المدوّخة والغامضة وغير المكتملة لتذكرنا بحكايات نسمعها في حياتنا اليومية- فقد ظل يعيدنا إلى حكايته الأهم، وجمع عوالمه بإتقان على خلفية لوحات من مدارس فنية متعددة تذكرني بالتعريف القديم للسينما بوصفه «فنًا تشكيليًا متحركًا». ومَن شاهد الفيلم سيتذكر بلا ريب عرضَ الزواج بساندرا حيث وقف إدوارد الشاب وسط غابة من أزهار النرجس الصفراء، أو سمكةَ السلّور الكبيرة التي اعتنى تيم بتفاصيلها لتتموه بين الحقيقة والمجاز في رمزية قابلة لقراءات متعددة12، وهجومَ الدبابير والخفافيش على إدوارد وعروض السيرك وسط سيل من اللوحات الغنائية أيضًا.
سأعتبر فيلمه هذا أكثر أفلامه عاطفيةً، ولن أعيب عليه فيه غير ضعف الأدوار النسائية التي تظل ثابتة في العمل فلا تتطور ولا تُغير في سياق الحدث.
ومع ذلك فلو كنت سأقول إن فيلمًا بعينه قد كُتب لي فسيكون هذا؛ أنا بطلة قصة حياتي ومثل إدوارد (ومثلك عزيزي القارئ) فأنا أعيد صياغة أحداثها على نحو دوري لتحافظ على جدارتها بأن تُروى وأن تُخلّد.
ماذا عنك أنت؟ كيف كان أبوك؟
إن لم يكن إدوارد بلوم، لا تقبل. كن أنت إدوارد بلوم، عِش -حقيقةً أو خيالًا- حياة أوسع من محدودية ما عشت حتى اليوم: وسّع الوجود مِن حولك لمَن حولك ولوّنه، كن الحكّاء الذي يفيض خياله سيلًا فيمحي الحد بين تضاريس الواقع وممالك الخيال، لا تخْشَ أن يُساء فهمك؛ ليس واجبك أن تفسر نفسك لهم، وصدقني سيفهمون يومًا ما، أو صدّق تيم بورتون الذي كان يرسل إليك أنت أيضًا الإشارات المبشرة حين يضخ المَشاهدَ التي يرويها إدوارد من الذاكرة بالألوان، فيما تبهت المشاهد قليلًا أو كثيرًا كلما عشنا في الفيلم واقعه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش
1.إدوارد بلوم الشخصية الرئيسة في فيلم «سمكة كبيرة» عام 2003
2.مخرج وكاتب ومنتج أمريكي من مواليد 1958
3.الذي مزج فيه الفيلم السخرية بالألم
4.يترك المخرج تفسير الأمر للمشاهدين
5.مدينة البطل ومسرح أغلب أحداث الفيلم، تقع في ولاية كنساس
6.في إشارة لأن مَن لا يخرج من محيطه الأليف وقيود خياله لن يبدع
7.الرعب في أفلام تيم بورتون جاء متأثرًا بأفلام الرعب الأمريكية القديمة التي شاهدها في طفولته
8.بلدة متخيلة
9.«لم يقل شيئًا حقيقيًا واحدًا في حياتي»، هكذا قال ويليام ملخصًا سبب ابتعاده عن أبيه
10.بين حكايات بلوم تُعدّ هذه الحكاية الأشد غموضًا والتي لن يقدم ما ينفيها أو يدعمها بعكس حكاياته الأخرى
11.وقد أحسن الفيلم حين لم يقدم جوانب سيئة للأب كالعنف أو الشرب أو غيرها، بل إن له عبارة جميلة جدًا قالها لوليام ليلة عرسه: «إذا أردت أن تصطاد امرأة عليك أن تضع خاتم زواج في يدها»
12.تأتي السمكة في الثقافة الغربية مُحملة برموز متعددة وتتردد في كثير من الأمثال وكثيرٌ منها أشيرَ إليه في الفيلم