كيف أُصبح مخرجًا لديَّ بصمة وأسلوب إخراجي؟ سؤال يراود عددًا كبيرًا من صناع الأفلام في بداية مسيرتهم، ولكن لنعلم بدايةً أن الإخراج مهنة مرهقة، فهي تتطلب قدرًا كبيرًا من التحضير والوقت، وقد يعمل كل العاملين في القطاع في مشروعات أكثر عددًا من المخرج فيما يراوح المخرج بين مشروع واثنين في العام، ولذلك يُعدّ الاستعداد الذهني والبدني عاملاً حاسمًا حيث قال عنه جورج لوكاس: «إنّ القُدرة على تحمّل العمل ذهنيًا وجسديًا هي أوّل ما تحتاج إليه كي تمتهن الإخراج، وإلّا فلا تمتهن الإخراج لو لم تمتلك تلك القدرة. أنت مَن سيقود العمل، فلتُرِ الآخرين كيفيّة فعل ذلك». إذًا أنت -بوصفك مخرجًا- لديك سلطة، وقد تظن أن بإمكانك العمل على أكثر من جبهة وحدك، ولكن يجب أن تمنح الثقة لمن حولك من الفريق والممثلين لتتفرغ لاحقًا لأداء مهامك في موقع التصوير بالتحضير مع الممثلين والعمل على إخراج الفيلم جيدًا، وهو ما سيجعل أسلوبك الإخراجي يبرز على وجه أفضل.
الأسلوب الإخراجي لا يأتي بين ليلة وضحاها، ولكنه نتيجة تراكم تجارب وخبرات تقودك إلى أسلوب معيّن، وقد تغيره حسب الفيلم الذي أنت بصدد إخراجه، ولكن قبل ذلك عليك أن تعزز حصيلتك في المعرفة، وستجد أثرها في إخراجك، وعن هذه المعرفة يقول المخرج جورج لوكاس: «ينبغي أن تُركّز أوّلاً على الاستزادة في التّعلم عن الحياة، وعن مختلَف جوانبها، وتتعلّم بعدها تقنيات الإخراج لأنك ستتعلمها سريعًا»، ومتى ما وجدت أسلوبك فلا بأس بالتمسك به فهو نقطة قوة تميزك عن الآخرين من زملائك المخرجين، ومن هؤلاء مثلاً كريستوفر نولان وأسلوبه في التلاعب بالسردية الزمنية وتركيزه على الحبكات المعقدة والتصوير الواسع باستخدام تقنية آيماكس مؤخرًا، وكذلك نرى أن مخرجًا مثل ويس أندرسون وجد أسلوبه في التصوير السيمتري التناظري والسرد البصري عن طريق الألوان، وتتميز أفلامه كذلك بقصصها غير الاعتيادية، ومن الذين وجدوا أسلوبهم في إخراج أفلام الأكشن والإثارة المخرج تشاد ستايلسكي، حيث تمتاز أفلامه باستخدام الكاميرا بابتكارية في مَشاهد القتال، فتارةً تكون محمولة على «ستاديكام» steadicam وتارةً أخرى تكون محمولة على «الكرين» crane، وقد تكون محمولة باليد في مَشاهد أخرى لصنع درجة عالية من التوتر، ونرى أن ستايلسكي يولي الألوان اهتمامًا كبيرًا، وكذلك الضوء والظل، والحديثُ عن كل مخرج وأسلوبه يطول.
بوصفك مخرجًا، عمومًا، يجب أن تجد في أفلامك بعض الأفكار والقِيَم والتجارب المرتبطة بالمجتمع والحياة من حولك، وذلك لتحقق فيلمًا ينتمي إليك وبالتالي يربطه المشاهدون بك، فالأسلوب يكشف عن هوية مخرج العمل إذا وُظِّف بإتقان، فكل المشاهدين سيتعّرفون إلى أسلوبك، ولذلك كان عدد من المشاهدين يصفون مثلاً «مشعل الجاسر» بأنه أفضل مخرج، وسبب ذلك في ظني أن لديه أسلوبًا واضحًا في العمل، وبالتالي أصبح المُشاهد يتعرف إلى أعماله بسهولة من خلال أسلوبه.
الخطوة الأولى نحو وضع بصمة المخرج هي قراءة السيناريو وتفسيره. يختار المخرج ما إذا كان يعالج القصة بعمقها الداخلي النفسي أو بشكلها الظاهري بناء على الأحداث، وبعد قراءة النص ستكون قادرًا على تفسيره بحيث تضع تصورًا لنوع الفيلم ومعناه وأجوائه وأهداف الأبطال.
أسلوب الإخراج يؤثر في قرارات المخرج في اللقطة وأحجامها من اتساع الكادر من عدمه، على الرغم من أنه أحيانًا يتم اختيار حجم كادرٍ ما بسبب جماليته وليس بسبب إيصاله لمعنى معين أو مساعدته في تكوين شعور عاطفي بين الجمهور والممثل، ومن القرارات المهمة في تكوين اللقطة هو مكان الكاميرا وقُربها أو بُعدها من الممثل، وأخيرًا زاوية الكاميرا، فلكل زاوية استخدام ومعنى، بل حتى حركة الكاميرا تُعدّ أمرًا مهمًا يبني عليه المخرج أسلوبه الذي قرره، فاللقطات المتحركة يشيع استخدامها في أفلام الأكشن ومنها ما يكون على «الستاديكام» أو على «الدوللي» dolly (المسار الحديدي) أو على جهاز «الترينتي» الحديث، الذي يُمكّنك من صنع لقطات متحركة بزوايا واتجاهات لم تكن ممكنة من قبل بهذه السهولة. ومع وجود كل هذه الأدوات بين يديك، احرص على الاستمرارية في اللقطات، من خلال تصوير لقطة عامة ولقطات أقرب للشخصيات وهي تتكلم وأخرى وهي تستمع، وحتى تنتظم هذه اللقطات جيدًا في المونتاج فلا بد أن يكون الأداء فيها متطابقًا، وأن تحافظ على قاعدة الـ180 درجة وعلى مطابقة اتجاه عين الشخصية في لقطات المشهد الواحد.
المشهد السينمائي يجب أن يتضمن ضوءًا وظلًا، ولهذا فالإضاءة من أهم السمات السردية البصرية التي يمكن للمخرج توظيفها جيدًا، وهنا ليس على المخرج أن يكون ملمًا بكيفية ضبط الإضاءة وتوزيعها، ولكن عليه أن يعرف ما هو الجو العام المطلوب تحقيقه في المشهد، ومن ثم يتم اختيار نوع الإضاءة المناسب من الأنواع الشائعة التالية:
إضاءة التنغستن – Tungsten lights: وهي مناسبة في المَشاهد الداخلية، وتُعتبر صاحبة أعلى رقم في جودة الإضاءة CRI حيث تصل إلى 100، ويعيبها الحرارة الناتجة عنها.
إضاءة HMI: تتميز بأنها تحاكي إضاءة النهار، وتفيد في إضاءة المساحات الواسعة، وعيبها أنها تحتاج إلى قوة كهربية عالية لتشغيلها.
إضاءة LED: تتميز بقلة استهلاكها للكهرباء وتوفرها بقيم حرارة لونية ثابتة أو متغيرة، ويعيبها وجود اختلاف في درجة اللون الأبيض، ولا سيما مع مرور الوقت.
وبمعاونة مدير التصوير، يقرر المخرج كيف ستبدو إضاءة المشهد، هل ستكون ناعمة خافتة أم ناعمة قوية أم حادة خافتة أم حادة قوية، ومن ثم يحدد مدير التصوير كيفية توزيع الإضاءة بناءً على جو المشهد، فكل إضاءة في الفيلم يجب أن تكون مبررة ومتصلة بإضاءة حقيقية في الواقع بحيث تحاكي لونها واتجاهها وانتشارها.
اختيار الممثلين يلعب دورًا مهمًا كذلك في أسلوب المخرج. الممثل الصحيح يُنجح العمل، ولذلك فإن اختيار ممثل يجيد تمثيل شعور الفرح والحزن والغضب والرضا هو أمر مهم بالنسبة إلى المخرج، وتلعب الكاريزما كذلك دورًا عند اختيار المخرج للممثل، فبريق الممثل أو الممثلة يجذب المُشاهد إلى عالم القصة، وبالتالي سيتواصل ويتفاعل مع الفيلم على نحو أفضل، وللمخرجة غريتا غرويغ حديث قيّم حول اختيار الممثلين، وفيه تقول: «إنّ أكبر جزء من وظيفة المخرج، ولا سيّما إذا كنتَ كاتبًا ومخرجًا، يتمثّل في إعطاء كل شخص الشخصيةَ المناسبة. عندما يتم اختيار الفرد للدّور، فإنك تُعطيه شمعة صغيرة باعتبارها روح الشخصية التي يؤدي دورها، وتقول له: "هي لك الآن، فأنا لا أعرف أكثر منك. أنت حارس هذا الشخص"، ولا يمكنك التدخل -بوصفك مُخرجًا- في هذه العملية. نعم، سأقدّم توجيهاتي، وسأتعاون مع الممثلين، وأوصل المَشاهد إلى ما أظنّه جيدًا في رأيي بحيث أكون مُشاركة، لكنني لا أملك مفتاح الشخصية، وقد تحدثتُ مع الممثلين في هذا الأمر تحديدًا، لأنّه لو كان دورًا شخصيًا، وقد كتبتَه أنت، وتُخرجه بنفسك، فإنّ الممثلين سيميلون -في ظنّي- لأنْ يشعروا بأنّهم لا يريدون بذل كلّ جهدهم، أو سينتابهم القلق من أنّك ستواصل التدخّل في العمل، لذا لا أواصل التدخّل، وأضع العمل بين أيديهم هُم، فإخراج الأفلام هو فنّ قائم على التّعاون».
ولأهمية اختيار الممثل، يعتبره المخرج أورسن ويلز أهمَّ شخص في الفيلم، ولذلك أقول إنه من الواجب على المخرج أن يجد وسيلة لكيفية العمل والتعامل مع الممثل، وخصوصًا إذا كان المخرج ليس من الصف الأول، ويعمل مع ممثل من الصف الأول، فهنا قد تضيع بوصلة قيادة المشروع من المخرج إن لم يثق النجم بالمخرج وأسلوبه في العمل، مما يسبب سوءَ تواصُل بين الاثنين، وينعكس سلبًا على نجاح العمل، وفي علاقتك بالممثلين قد تُضطر إلى خوض دورة تدريبية قصيرة في التمثيل لتعرف معاناة الممثل، حيث إن عمله يكون أمام الجميع، والكل يشاهد إخفاقه في المشهد وكبواته، في حين تكتفي أنت -في الخلف- بالقول: «لنُعد المشهد من جديد»، وقد تضع الخطأ على الإضاءة أو المايك، بل على الممثل نفسه إن استنفدت أعذارك. بناء على هذه المساحة المكشوفة التي يعملون بها، عليك أن تعطي ملاحظاتك على أدائهم بمهنية واحترام، وأن تشيد بهم وتشكرهم في نهاية اليوم ليعطوك أفضل ما لديهم، ويجدر بك كذلك ترك الأمور التقنية وتحضيراتها لمدير التصوير وفريقه لتتفرغ للإجابة عن أسئلة الممثلين بخصوص الشخصيات ودوافعها والصراعات التي تخوضها، ففهمك للنص يجعلك مخرجًا موثوقًا بك بالنسبة إليهم.
أما بالنسبة إلى المونتاج، فقد تطور منذ القيام بتجربة كوليشوف، ولذا فإن على اللقطات التي يضعها المونتير بجوار بعضها أن تعزز من السرد والأسلوبية الخاصة بالفيلم، فالبعض يفضّل أسلوب اللقطة الطويلة والبعض الآخر يفضّل أسلوب القطع السريع وغيره، فتحديد هذا الأسلوب يؤثر في تفاعل الجمهور مع الفيلم، وتضم كثير من الأفلام أكثر من أسلوب في الفيلم الواحد، لذا فإن غرفة المونتاج هي التي ستُخرج الفيلم الذي تريد، أو ستُخرج فيلمًا آخر بناء على ما توفر لديها، ولذلك ينبغي أن تكون هناك لقطات كافية للمونتير لتسهيل مهمتك في تحقيق أسلوبك الذي أردته، وإن تطلّب الأمر وجود المونتير بجوارك في موقع التصوير فالتأخر قليلاً لمراجعة المَشاهد خير من إعادة التصوير أو تحرير عملك بثغرات واضحة، ولذا فإن آمن الحلول أن تحرص على الاستمرارية في اللقطات، رغم قناعة بعض كبار محرري الفيديو بأن قوة القصة تُنسيك أي عثرات في المونتاج، وهو قول صحيح، ولكن كيف تعلم أن الجمهور سيندمج مع قصتك؟ لذلك احرص على ترابط اللقطات واستمراريتها حتى لا يكون المونتير الشخص الذي يصلح ما أفسده المخرج.
ولتجنب الوقوع في ذلك، يلجأ بعض المخرجين إلى تصوير بعض المَشاهد بالهاتف المحمول، ومن ثم تحريرها ورؤية كيفية تناغمها في سرد القصة، فإذا أصبحت كما تخيّلها يعتمد هذه اللقطات وحركة الكاميرا والزوايا في يوم التصوير الفعلي، ومن عمليات ما بعد الإنتاج عملية التلوين، وهنا يكون للمخرج تفضيلات لونية معينة مسبقًا، وقد تتكون لديه لاحقًا، كما حدث مع المخرجة السعودية شهد أمين حين أخرجت فيلمها «سيدة البحر»، حيث أنهت نسخة ملونة ولكن لم ترُق لها، فقد كانت لا تخدم قصة الفيلم حسب قولها، ولذا تم إسناد التلوين لملوِّن برتغالي يتعامل معه مدير التصوير، وعن طريقه خرجت النسخة الرسمية بالأبيض والأسود، وذلك حسبما ذكرت في لقائها في برنامج «خام».
أسلوب المخرج كذلك تراه ظاهرًا في موسيقى الفيلم، وهل ستبدو إيقاعاتها سريعة أم بطيئة أم متوسطة، وعن أي حالة مزاجية ستعبر، وإن كان ضليعًا بالموسيقى فقد يحدد كذلك الآلات الموسيقية التي يرغب أن تُنتَج الموسيقى من خلالها، وبعض المخرجين مثل كوينتن تارانتينو قد يستحضر ذاكرته الفنية فيستخدم بعض الأغاني لتظهر في الفيلم وتعزز من السرد، وبعضهم الآخر مثل كريستوفر نولان مثلاً لم يُرد أن يوزع الموسيقار هانز زيمر موسيقى فيلم «إنترستيلر» وهو يعرف نوع الفيلم، بل أراد له أن يدخل في عملية إبداعية نقية، لذلك سلّمه ورقة فيها حوار كتبه للفيلم، فيه بعض أفكار الفيلم، ليحرره من الانسياق دون أن يشعر خلف نوع الفيلم، ويروي هانز زيمر ذلك فيقول: «جلستُ، وكتبتُ مقطوعةً عن شعور كونك أبًا، وكنت أكتب عن ابني» ونتيجة لذلك، أُعجب نولان بالمقطوعة، وجعلها الأساس الذي تُبنى عليه موسيقى الفيلم، ولأن الأورغ لا يصدر الصوت دون النفخ فيه فكان مهمًا لنولان أن تعبّر الموسيقى ليس عن الفضاء فقط، ولكن عن أولئك الناس في الفضاء أيضًا.
وفي النهاية سيتم عرض فيلم وتوزيعه، وقد ينال التقدير والاحترام، وسيعرفك جميع الناس بأعمالك، فاحرص أن تضع فيها بصمات مشرّفة تجعلك لا تسعى لمحوها في نهاية مسيرتك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش
القاعدة تقول بأنه يوجد خط وهمي يمر بين أي شخصيتين في المشهد، ويجب أن تكون الكاميرا يمين أو يسار هذا الخط بحيث لا يصح أن تصور ممثلًا من يسار الخط والممثل الآخر من يمينه، فبذلك الشكل سيبدو الاثنان وكأنهما ينظران إلى اتجاه واحد بدلاً من أن ينظر الاثنان إلى بعضهما، ويمكن كسر القاعدة لأسباب إخراجية فنية1 معينة.