هل وقع المخرج يورغوس لانثيموس في فخ السطحية والمباشرة؟ أم أن بعضًا من إسقاطات آخر أعماله «أشياء بائسة» (2023) قد أحالت إلى قراءة العمل على نحو مغاير عن جذوره الفلسفية الأولى؟
قرأتُ عديدًا من الآراء حول العمل ودارت أغلبها حول نقد فكرة الكتابة النسوية من منظور رجل، إلا أنني أميل لدرجة اليقين بأن لانثيموس كان منشغلاً بالتفكير في نظريات فرويد عن التداخل بين الإدراك والجنس طوال فترة كتابة وتحضير العمل، فهو أقرب لوصفه بأنه شيء يشبه إضفاء سيغموند فرويد بعضًا من السريالية في كتاباته!
اقترح فرويد أن سلوك الإنسان يتأثر بالرغبات غير المدركة، وأن كثيرًا منها متجذر في تجارب الطفولة والاندفاعات الجنسية، واقترح أيضًا أن إدراكنا للعالم يتمرر من خلال هذه الرغبات غير المدركة والتي بدورها تشكّل فهمنا للواقع وتؤثر في سلوكياتنا، وهو ما لا يمكن إتمامه أو محاكاته في عمل سينمائي دون «بيلا باكستر» المولودة حديثًا في جسد بالغ، منطلقة نحو رحلة لاستكشاف الهوية في عالم مشوه. طوال العمل نرى رجالاً يحاولون صقل شخصية بيلا بشتى الطرق، وعليه كان أغلب الحديث عن العمل في سياق بعيدٍ نوعًا ما عن روحه الأصلية، فإن العمل لم يدُر حول طرح رؤية مغايرة للنسوية على نحو مباشر، بل إن لكل شخصية ذكورية في عالم بيلا باكستر انعكاسًا أو توظيفًا لقيمة أو آفة دنيوية ما. هناك «غودوين باكستر»، المسؤول عن عودة بيلا باكستر إلى الحياة في جسد آخر عن طريق عملية جراحية، هو أول مظهر أبوي في حياة بيلا ودليلها الأول لاكتشاف الحياة، وهو أيضًا أول من تحاول التمرد عليه، وهناك «ماكس ماكندلس»، الرجل الوحيد الذي يضفي إلى عالَم بيلا باكستر بعضًا من العقلانية والأخلاق. أقول هذا لأن ركيزة العمل الأساسية تعتمد على تشكيل وبناء وعي بيلا ورغباتها حول عالم مشوّه، إلا أنه متعدد الشخصيات والمجتمعات والمرجعيات الأخلاقية أيضًا، فإن بيلا وحدها في هذا العالم من تخوض رحلة الاكتشاف الذاتي، تواجه قوى غير مدركة تشكل إدراكها ورغباتها. تلك التعقيدات لم تكن لتظهر بوجود شخصية مثل ماكس، فهو يحاول مساعدتها والتقرب منها في سياقٍ ما يبتعد عن أي محاولة استغلال. على النقيض نجد «دنكان ويديربرن» الذي منذ لحظاته الأولى على الشاشة لا يُخفي سوء نيته وفضوله حول بيلا، يأخذها في جولة حول العالم تبدأ فيها بيلا «القفز الغاضب» -وهو ما تطلقه على الجنس- المرافق لها طوال رحلتها التي -بلا شك- تنمو خلالها -عقليًا- وتكتشف مزيدًا من كل شيء، تختبر مشاعر جديدة تمامًا وترى العالم من نوافذ مختلفة أحيانًا شديدة البهجة وأحيانًا تكون قاتمة تمامًا..
منظور العمل هو رحلة فتاة وُلدت للتو في جسد بالغ وعالم ديستوبي مشوّه، وهو ما يجعلها تتعرف إلى حياتها عن طريق الجنس. من تلك الناحية كان يجب أن يسير الفيلم في هذا الاتجاه، وبلا شك كان يجب أن يتضمن عديدًا من المَشاهد الجنسية التي لاقت انتقادات حادة بخصوص كثرتها، إلا أنها كانت منطقية بل وواجبة لطرح فلسفة العمل، لأن الجنس من منظور بيلا ليس مظهرًا من مظاهر التحرر أو التعبير عن نفسها أو مثالاً سيئًا عن النسوية، بل هو الشيء الوحيد الذي يشكّل وعيها، فبمجرد أن تعطي طفلاً طبيعيًا بعض المساحة دون مراقبة، فهو لا يكفّ عن العبث بكل شيء ولا يمكن السيطرة عليه، وبالتالي كان من المنطقي أن يكون لبيلا باكستر -الطفلة التي وجدت نفسها في جسد بالغ- طريقةٌ للعبث وفقًا لمتطلبات جسدها الحالي، فمن خلال الجنس تكتشف مفاهيم عديدة تتمثل في رجال تقابلهم، أبرزهم هو دنكان ويديربرن الذي يستغل رغبتها غير المفهومة وغير الخاضعة للسيطرة وشخصيتَها الطفولية البعيدة عن أي مرجعيات لمحاولة وضعها في إطار جنسي واجتماعي معيّن في علاقة أشبه بالعبودية.
لا نقف هنا حول صحة نظرية سيغموند فرويد أو ما إذا كانت هي الطريقة الوحيدة لاكتشاف الهوية، إلا أن معضلة العمل تجبرنا على التطرق إليها، فلا يمكنك التطرق إلى مناقشة قصة طفلة وُلدت في جسد امرأة بالغة دون أن تستعين بفلسفة فرويد.
رحلة بيلا في باريس هي الأكثر تعقيدًا وتأثيرًا في حياتها. تأتي باريس مدينةً للظلام والنور والعزاء والإلهام وأحيانًا اليأس؛ لا تظهر المدينة بنسختها التجارية الرومانسية كما تجري العادة، بل تأتي ملائمة تمامًا لتناقضات بيلا باكستر وصراعاتها. إنها مدينة تطاردها ماضيها، حيث تُظلل واجهتُها الأنيقة تاريخًا من الألم والخيانة والشوق. من خلال أسلوبه البصري وعمل بيلا باكستر عاهرةً، يكشف لانثيموس عن طبقات باريس، عارضًا العواطف الخام والحقائق المخفية التي تكمن تحت سطحها. تصبح بيلا -كما المدينة- شخصية مستقلة بذاتها، برغباتها ودوافعها وأسرارها الخاصة في انتظار الكشف عنها، هناك حيث تتعلم الفرنسية والطب والفلسفة، وهناك أيضًا تتخلص من التحكمات ومن دنكان، وربما أيضًا من التشوُّه والجنون المحيط بكيانها، ومن ثم تعود إلى مراسلة غودوين وتسافر إليه عندما تعلم بأخبار احتضاره، وفي العودة إلى العقل أو «العادية» يعود ماكس ماكندلس ويطلب من بيلا الزواج، ولأن النهاية السعيدة حتمًا لا يمكن أن تحدث بسهولة في هذا العالم، يحُول فضول بيلا بينها وبين زواجها بماكس حينما يظهر ويديربرن مرة أخرى مصطحبًا زوجَها في حياة جسدها القديمة، «ألفي بليسينغتون»، الأمر الذي يشير إلى بداية تحوُّل بيلا باكستر من فرانكنشتاين إلى امرأة كاملة؛ حين تجد أن ألفي لا يكف عن تهديدها والتحكم فيها، تطلق النار على قدمه، وتأخذه إلى ملكية غودوين باكستر بعد أن يُتوفى، وتُجري عليه أول تجربة لها حيث تُبدِّل رأسه برأس الماعز، لتنتهي رحلتها بنهاية سعيدة لا تختلف في غرابتها عن البداية. تعيش في ملكية غودوين هي وفيليستي (فرانكنشتاين أخرى صنعها غودوين في غياب بيلا) وماكس وتوانيت رفيقتها من بيت الدعارة.
من الممكن الوقوف عند بعض الأشياء البصرية مثل التباين بين الألوان والمؤثرات التي ربما كانت في غير محلها، إلا أنها يمكن أن توضع في سياق التشوه المحيط بعالم بيلا باكستر الغريب، أو كما قرأتُ في إحدى المقالات عن الفيلم أنه يمكن وصف بيلا باكستر بالنسخة الغريبة من باربي. تتبع العمل خطوطًا فلسفية أحيانًا امتازت بوضوح مزعج وأحيانًا توارت عن الأنظار، خصوصًا في المشهد المحذوف من الفيلم، وأظن أن لانثيموس أراد خلق قصة فرانكنشتاين بثوبها الفرويدي، وكانت النتيجة «أشياء بائسة»!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش