الشعر سلاح السوريالية الأول، ورديف اللاوعي، اتخذه السورياليون السلاح الأسمى للفتح والمعرفة، بعد أن أخفقت
العقلانية والواقعية في تحقيقهما. الشعر واللاوعي قادران على تحرير الغريزة والطاقات الكامنة، والشاعر أو الفنان،
بوصف آموس فوغل في كتابه «السينما التدميرية»، هو: «الرائي أو العرَّاف الذي يمتلك خاصيات سحرية عصية على
الإمساك بها وفهمها فهمًا كاملًا، من قِبله» أو من قِبل المتلقي. سارا -في ثنائية أليخاندرو خودوروسكي المستمَدة من
سيرته الذاتية- كانت تتمتع بهذه الخاصية السحرية والشعرية الكامنة في غنائها الأوبرالي. حوَّلت سارا كل حواراتها إلى
غناء، وتُحقِّق غاياتها بالقوة الروحانية، وقد ورث عنها ابنها أليخاندرو هذا الجانب الموسيقي والشاعري بميله للشعر حتى
مع علمه بأن الشعر لم يعد يجدي في ظل الحياة المادية.
الشعر فعل لا كلمات. الشعر الذي استهل به خودوروسكي فيلم «رقصة الواقع» (2013) وتخلل أحداثَه وختمه به،
استكمل به جزءه الثاني «شعر أبدي» (2016)، مفتتحًا هذا الجزء بقصيدة تُعبّر عن حزنه لفراق مدينة طفولته:
«هذه الرعشة، هذه الحيرة، وهذا الترحال نحو أعماق البعيد والمطلق، فقدتُ جبالي وأريجها الفواح، فقدتُ
محيطي وغيومه الزاخرة بالنوارس، (الطريق) من توكوبيلا إلى سانتياجو ألفا كيلومتر من الدموع، شعرت
خلالها بأن أحلامي قد تهشمت إلى شظايا».
في «شعر أبدي» يستكمل خودوروسكي مسيرته مراهقًا ثم شابًا. وبعد أن كان في طفولته يحاول جاهدًا إرضاء أبيه،
نجده هنا مراهقًا يتملص من إملاءات والده ثم متمردًا عليها. يعود خودوروسكي إلى تلك السنوات الحاسمة من شبابه،
السنوات التي حددت المبدأ الذي من شأنه أن يحكم حياته كلها: الشعر.
رغم التجربة المريرة التي مر بها خايمي أثناء شلله وفقدان ذاكرته فإنه لم يتغير. نراه في «شعر أبدي» مستمرًا في
فرض رغباته على أليخاندرو. يريده أن يدرس الطب، وتحثه أمه على دراسة الموسيقى. لكن أليخاندرو يتملص منهما
ليجد ذاته. يحرق الكمان الذي أهدته له والدته، بعد سخرية أقرانه وتشبيه صندوق الكمان بالكفن. يجد ذاته في شعر لوركا
الذي بدأ بقراءته خفية: «خضراء، أحبك خضراء، ريح أخضر، أغصانٌ خُضر..» يلتقي بسكير جعل من النبيذ رسولًا
فأنقذ أليخاندرو من الوقوع في الهاوية بجملة شعرية واحدة: «عذراء عارية ستنير دربك بفراشة ملتهبة».
مع هذه النبوءة يولد أليخاندرو من جديد ويقرر أن يجرب الحياة من منظوره هو، متخذًا من الشعر هاديًا لخياره هذا:
«أيها الشعر لتُنِر دربي كفراشة ملتهبة». قرر ألا يكون هذا أو ذاك، وبأن يتغير آلاف المرات، وبأن تجرفه الرياح في
سرب من البتلات. باع أليخاندرو شيطانه إلى روحه، كما قال، مخالفًا بذلك أسطورة فاوست الذي باع روحه للشيطان
مقابل المعرفة والشهرة والثروة والسلطة.
حتى هذه المرحلة من عمر المراهقة لم يكن أليخاندرو يعرف هويته الجنسية، وبتَعَرُّفه إلى ريكاردو يدرك أنه غير مثلي.
وفي مطلع شبابه يلتقي بتلك العذراء التي تنبأ بها السكير. لكن هذه الشاعرة العذراء المسيطرة تجعله صورة منعكسة عنها
إلى درجة لم يعد يعرف معها نفسه. ومع الفوضى التي خلقتها في نفسه، وبعد علاقة مضطربة معها، يقرر العيش بعيدًا
عنها في عزلة ليختبر قدرته على البقاء وحيدًا.
نراه في هذه المرحلة شابًا يعيش حياة بوهيمية، يكرس نفسه للشعر بهدف الموت بسعادة، وباحثًا عن الحب والإلهام (قام
بدور أليخاندرو في مرحلة الشباب الممثل أدان خودوروسكي، ابن خودورسكي). يرتجل أليخاندرو الشاب القصائد مُعرفًا
الشعر بأنه فعل لا مجرد كلمات، كلمات يطلقها كرصاص ضد المتلقين المترفين ونكرات المدينة الذين يفتقرون إلى
الأحلام. وجد أليخاندرو طريقه لكنه لم يتخلص تمامًا من القلق الوجودي للشاعر كما لم يتخلص من الشعور بالذنب بلا
سبب. ستكون محطات النكوص النفسي هذه مناسَبة لتدخل ذاته العليا الناضجة. يتدخل خودوروسكي في هيئته الراهنة،
وبتقنية حُلمية سوريالية، ليزوّده بالدعم النفسي ويعوض غياب الأب ودوره الذي كان ينبغي له القيام به. في مرحلة
الشباب يقل تدخل ذاته العليا، لأن أليخاندرو كان قد وجد طريقه، فلا يحضر إلا عندما يواجه أليخاندرو نكسة نفسية
تستدعي الحضور.
تأثر السورياليون بمصطلحات سيغموند فرويد النفسية، وفي سياق هذين الفيلمين يمكن أن نرى في شخصية خايمي مثالًا
معدلًا لـ«الأنا العليا» التي تمثل المرء في صورته الأكثر تحفظًا وعقلانيةً والتي تسير وفق المبادئ الأخلاقية والمجتمعية
وتجنب الغرائز والشهوات. الأنا الأعلى مثالية، غير واقعية، وتسعى للكمال لا إلى اللذة. حاول أليخاندرو في طفولته
وبداية مراهقته التجاوب لمطالب الأنا العليا الماثلة في توجيهات والده، بينما يقوم خودوروسكي -بتدخله في أحداث القصة
الواقعية- بعمل الـ«هو» الذي يطالب باللذة ولا يراعي المنطق والواقع وأخلاق المجتمع. هذا الصراع النفسي بين الوعي
واللاوعي حفَّز أليخاندرو للانتصار للحياة بطبيعتها المبهجة دون أن يحرمه من المشاركة في القضايا الجادة.
الحياة بوصفها لعبة. من خلال تهشيم حواجز الزمن يستمر خودوروسكي (البالغ) في محاورة ذاته الطفلة. ثمة حاجة إلى
استعادة ماضيه ليحاوره وينال الخلاص، وفي خلاصه هو خلاص للمتلقي أيضًا؛ نظرته للكاميرا وهو يخاطب ذاته تؤكد
هذا. يقول لنا من خلال مخاطبة ذاته الطفولية: «أنا هو أنت مستقبلًا، وأنت هو أنا سابقًا». وفي مقارنة بين ذاته الآن
وذاته الطفولية في الماضي يقول: «أنا أخشى الموت، وأنت تخشى الحياة.. أنت غير مذنب لعيشك على طبيعتك، ستكون
مذنبًا إن عشت كما يريد لك الآخرون أن تعيش». وفي تعريفه للحياة يذهب إلى أنها بلا معنى، أو أن معناها كامن في أن
تعيشها كما تريد: «الحياة هي أن يطرح العقل الأسئلة وأن يجيب عليها القلب. ليس للحياة معنى، عليك فقط أن تعيشها».
الحياة لعبة، وفقًا لوصايا خودوروسكي، وعليك أن تقابلها بالضحك حتى على أسوأ الأمور، «فلست أنت من يعاني، بل
الصورة التي كوّنتها عن نفسك»، و«لا حاجة للعُش حالَما يكبر النسر.. إن كنت تملك جناحين حلِّق». الاحتفال بالحياة
على أنقاض الخراب فكرة تتجسد في صورة يقف فيها أليخاندرو أمام أنقاض بيت الأسرة المحترق. نرى في الصورة
مُهرجًا يناول أليخاندرو بالونات حمراء على هيئة قلوب. وبصورة تعبيرية لتحرير أمه من التقاليد، يربط بالبالونات مشد
الخصر الذي عثر عليه بين الأنقاض ويطلقه إلى الفضاء.
تجسيدًا لهذه الوصايا النظرية التي تحتفي بالحياة ومباهجها يُرافق خودوروسكي رائعته «شعر أبدي» في مشاهده الأخيرة
بكرنفال بصري حافل بالألوان والمتع. نرى أليخاندرو الشاب في هيئة نسر وهو يحتسي الشراب ويرقص مع الجموع.
لكن قلقه الوجودي لم يُعالَج تمامًا؛ هذه حالة لا يمكن أن تفارق الشاعر، فنراه يترك الجموع المبتهجة ويتجه إلى كواليس
حيث يقف أمام مرآة بحجمه. يسأل ذاته في المرآة: «أنت! من أنت! ما الهدف من وجودك؟! لمَ أنت على قيد الحياة؟!».
يتحول الخطاب المباشر للذات أمام المرآة إلى تقرير يحمل إجابة محتملة بصوت الراوي (أليخاندرو نفسه) أو هي إجابة
بصوت ذاته الكامنة في المرآة. يقول: «لقد وُلدتُ ميتًا، ميتًا آخر بين الأموات». يكرر أليخاندرو العبارة الأخيرة
ويضيف إليها: «سيتقدم بي العمر، وأموت وأتعفن، سيبتلع العدم ذاكرتي وكلماتي وإدراكي، كل ما هو ملكي سيطويه
النسيان المظلم. هذه الشوارع ستختفي أيضًا، وأصدقائي والمدينة والكوكب والقمر والشمس والنجوم والكون كله سيختفي..
ما الذي سأفعله بهذا العذاب الذي حقنتني به؟» ثم يحطم المرآة ويطلق صرخة غضب. أليخاندرو الشاب يخشى من العدم،
من أن يموت بلا ذكرى تخلده، يخشى العيش بلا منجز.
أمام هذه النكسة يحضر خودوروسكي، يجلس إلى جوار ذاته الشابة موجهًا خطابه للمُشاهد: «التقدم في العمر ليس عارًا.
تنفصل ذاتك عن كل شيء: عن الجنس والثروة والشهرة، تنفصل بنفسك عن نفسك وتتحول إلى فراشة متوهجة، إلى كائن
من نور نقي». بهذه العبارة الأخيرة، التي يرددها معه أليخاندرو الشاب وقد انضم إلى الجموع المحتفلة، يتحرر، أو هكذا
نظنّ، إلى أن يلتقي في المشهد التالي بشاعره المفضل بارا نيكانور الذي يخبره أنه أصبح معلم رياضيات في كلية
الهندسة. يطلب منه أليخاندرو النصيحة: «أرغب في أن أكرس روحي وجسدي للشعر». يصف بارا قراره هذا
بالجنون، «فما عاد أحد يدفع لقاء الكتاب، ناهيك بالشعر»، ثم ينصحه بأن يدرس ويحصل على شهادة ويعمل معلمًا مثله..
ويترك محاولات تغيير العالم، فالعالم سيظل كما هو. لكن أليخاندرو المتمرد يأبى الرضوخ فيصرح بأنه سيبدأ بتغيير
العالم وذلك بتغيير نفسه، أو بأن يُضيِّع مستقبله، كما قال.
في المشهد التالي نرى رايات النازية في أيدي جموع تنتظر قدوم الجنرال إيبانيز على متن قطار. الديكتاتورية التي
رافقت الأب ها هي ترافق الابن وسيكون له موقف معارض شبيه بموقف أبيه. سيهيأ للمُشاهد أن الديكتاتورية ممتدة
خلال كل هذه الفترة من حياة الأب والابن، ولعل هذا ما أراده خودوروسكي، لكن التاريخ يقول بأن إيبانيز حكم على
فترتين: ما بين عام 1927 إلى 1931 ثم عاد للحكم عام 1952 إلى 1958.
ينضم أليخاندرو إلى رفاقه في الحانة وهم يغنون ويرقصون وينعمون بمباهج الحياة الحزينة التي يصفونها بأنها جنة
عدن. يُبلّغهم أن هذه البلاد جزيرة وأنه راحل إلى باريس للانضمام إلى جماعة أندريه بريتون وإنقاذ السوريالية.
كينونة من نور محض. في المرفأ يلتقي بوالده وتحدُث بينهما مواجهة. يُذكِّره بالماضي، أيام كان بحاجة إلى حضن
وعناق وحب، أيام تقيأ دموعًا مريرة متوسلًا لقليل من المودة والاهتمام. يخبره بأنه مختلف عنه، يملك قلب شاعر بمقدوره
أن يحب العالم بأسره. يحاول الأب منعه من الرحيل وبعد عراكهما يبرر الأب نفسه بالقول إن نواياه كانت طيبة ويطلب
مصافحته قبل الرحيل. يتصافحان. لكن ما هكذا ينبغي أن يكون الوداع.
هنا يحضر خودوروسكي ليعلمهما الطريقة الصحيحة: يجذبهما لاحتضان بعضهما. ثم يخاطب أليخاندرو مستكملًا القصة
بما كان يود أن يقول لأبيه وبصيغة اعتذار متأخر: «لقد سافرتَ إلى فرنسا ولم تره مجددًا، وحين مات لم تذرف دمعة،
لكن تحت لامبالاتك كان قلبك يقول: أبي، لقد منحتني كل شيء بعدم منحك لي أي شيء، وبعدم حبك لي علمتني أن الحب
ضرورة بالغة الأهمية، وبإنكارك لوجود الرب علمتني تقدير الحياة..». يضيف خودوروسكي متحدثًا عن نفسه بضمير
الغائب ومخاطبًا والده: «أسامحك خايمي، لقد منحته القوة لتحمل هذا العالم، عالم لم يعد للشعر فيه وجود» ثم يناول
أليخاندرو ماكينة حلاقة طالبًا منه التعرف على أبيه بأن ينزع قناعه؛ فهو ليس بشبح بل كائن له وجود. القناع هنا هو ذلك
الحاجز الذي منع الأب من التعبير عن مشاعر الحب تجاه ابنه. وسيلة خودوروسكي لنزع القناع في الفيلمين هي التعري،
لكنه في هذا المشهد يستبدل التعري بحلاقة الشعر. يظهر الناس في مَشاهد عديدة وهم يرتدون أقنعة على وجوههم، ولهذا
هم بحاجة أيضًا إلى نزع أقنعتهم المضللة والكشف عن حقيقتهم، فالبشاعة ليست فيما يُخفونه بل فيما يُظهرونه.
بعد أن ينهي الابن حلاقة شعر أبيه كاملًا يُقبِّلان بعضهما، قبلة على الشفتين لم تحدث في الواقع لكن الخيال جعلها ممكنة.
هنا تنضم الأم بوصية أخيرة، وبصوتها الأوبرالي، لتزود الابن والمشاهد بمؤونة الرحلة: «إذا شعرت قط بحزن عميق،
فدعه يمضي وعش الحاضر». أما القصيدة الأخيرة فيلقيها خودوروسكي، بتعليق صوتي: «تعلمتُ أن أَكُون نفسي،
تعلمت أن أُحب، تعلمت أن أبتكر، تعلمت أن أعيش، كلُ درب هو دربي، أفتح قلبي فأسمع أحزان العالم..». رغم دور
الأم في حياة ابنها فإن حضورها هامشي قياسًا إلى حضور الأب. وهذا مفهوم، فالهدف من هذه الثنائية السينمائية هو
تصفية الحساب مع الأب بغرض نيل الخلاص والغفران والتصالح مع الذات.
احتفاءً بالشعر يحضر الشعراء في «شعر أبدي» مثل علي أحمد سعيد إسبر (أدونيس) الذي ظهر في أحد المشاهد
القصيرة، كما يحضر بعض الشعراء بأسمائهم وقصائدهم مثل الشاعر لوركا، ويحضر بابلو نيرودا عبر تمثال له في سياق
نقدي يصفه بأنه «شاعر قومي لزج». وفي العموم يوصف الشعر بأنه «كينونة من نور محض» اقتفاءً لتعريف سقراط
للشاعر بقوله: «الشاعر ضوء، مجنّح وسماوي، وهو لا يبدع ما لم يُلهَم ويفقد وعيه ويكون خارج سلطة عقله». 1
وبالطريقة التي أنهى بها خودوروسكي فيلم «رقصة الواقع» ينتهي فيلم «شعر أبدي»، بابتعاد القارب ببطء إلى أن
يختفي في البياض، ليصبح كينونة من نور محض.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش