مقالات

كيف نرى الجمال في معاناتنا وفقًا لـ«جمال أمريكي»؟

في عالم السينما، يوجد لحظات نادرة تتجاوز حدود الكلمات وتترك في نفوس المشاهدين أثرًا عميقًا. في فيلم «جمال أمريكي»، واجهنا واحدة من تلك اللحظات السحرية التي تجعل السينما فنًا استثنائيًا. يبدو «ويس بنتلي» الذي قام بدور ريكي في «جمال أمريكي» (1999) شخصيةً لا تنفصل عن تعبيرات الفيلم ودلالاته عن جماليات الحزن، فلا تنفصل هذه الرؤية عن ملامحه التي ظهرت في البداية من خلال عينيه الحمراوين وتقطيبة حاجبيه وكاميرته التي توثق كل شيء بصمت رتيب، فهو «يحتاجها لكي يتذكر»، وما كان حملُه لها طوال الفيلم والمساحة التي أُعْطِيتْ لها لعرض المَشاهد إلا ميزة جمالية صيّرت الفيلم أشبه بسينما داخل سينما، فهناك -إذا أخذنا بالاعتبار المتفرج للفيلم- ثلاث واقعيات، الواقع الأول محيط المتفرج البشري ونظرته للفيلم وداخله الواقع الثاني وهو الفيلم نفسه، والثالث ما تعرضه كاميرا ريكي، وهي النظرة الأعمق للجمال المُخترِقة لما هو أبعد من العين وأقرب إلى الحِس. مَشاهد مشوشّة ومهزوزة لكنها تأتي بعيدة عن ضجيج الحياة الروتيني مستعينة بالموسيقى الهادئة لتعزيز مَكَانة هذا المشهد، فهي نظرة مختلفة للعالَم ليس من خلال الفيلم الذي يبدو أنه يتماهى مع الواقع الحي، بل من خلال إحساس ريكي وكاميرته.
كان سيناريست الفيلم ألان بول نفسه مَن وصف النقادُ المسلسلَ الذي كتبه «ستة أقدام تحت الأرض» (2001-2005) بأن آخر حلقاته هي من أعظم النهائيات للمسلسلات التلفزيونية، ليبدو أنه حتى في «جمال أمريكي» كان مولعًا بالنهاية، وهي نهاية بدت قاسية، يقول ريكي عنها في منتصف الفيلم إن مشهد موت مشردة في الشارع كان رغم حزنه جميلاً للغاية، وكأن الرب قد نظر إليها.
ريكي -كما صَوَّره الفيلم من خلال صديقة «جين» بوصفه غريب الأطوار- هو الذي دخل مصحة للأمراض النفسية، ومع هذا لا يدور الفيلم حول نموذجين مُحبَطَين في الحياة الأمريكية فقط، بل هو يحقق ما قالته بطلة مسلسل «آن» (2017-2019) Anne With an E، بأن العبارة التي قرأتها وهي تتحدث عن المعاناة جميلة، وعندما سألتها المرأة: «ما الجمال فيها؟» أجابتها بأن هناك رومانسية أو جاذبية في الجملة تجعلها، بالرغم من أنها تشير إلى المعاناة، أشبه بالمواساة.. فحتى في اللحظات التراجيدية في الفيلم، كاللحظة التي سبقت الموت، يبدو مشهد الثانية الذي يتم تَذَكُّر شريط الحياة فيه شاعريًا، إذ يصف ريكي تلك الثانية بأنها ثانية أبدية. أما تحوُّل الشخصيات كأبي ريكي من شخص صارم إلى توهمه من رؤية ابنه وهو يلف الحشيشة عند «لستر» بأنه مثلي، واعتراف لستر بأنه لم يهتم بابنته جين، وكذلك اعتراف جين المبكر ورغبتها في الهروب من العائلة.. كل هذا يكشف أن تلك المآلات الحزينة هي فشل محاولات الإفصاح عن المكبوت الذي تجد الأنا صعوبةً في قوله للآخر. كذلك ريكي الذي يظهر أنه عدائي وغريب الأطوار يتضح أنه مفتون بالجمال بشكل لا يقدر على تحمله قلبه، لكن الفيلم لم يقدم المعاناة وحدها بوصفها قضية، بل مزج بين التراجيديا والجمال، أو بطريقة أخرى استخلص الجمال من عمق التراجيديا.
فمثلاً صارت «جين» هي الشخصية التي حصلت على الاهتمام الأكثر من قِبَل كاميرا ريكي، كونها فتاة منعزلة وفي روحها نوع من المعاناة لم يره سواه، فهو في البدء سيبتسم وهو يصوَّرها ويقرّب ملامحها، فالذي سيدرك الكهرباء الخفِية في الريح عند ملامستها الأكياس الطائرة يستطيع بسهولة فهم ما تتوارى خلفه شخصية جين من حزن، وهذا لا خلاف عليه، إنما كيف يصير هذا الحزن جمالاً، فهذا ما يتوافق مع ما قاله بيسوا في كتابه «اللاطمأنينة»: «إذا كنا قد فشلنا في استخلاص الجمال من الحياة علينا أن نبحث عنه في معاناتنا وإخفاقاتنا»، وهذه النظرة الجمالية في الفيلم لم تأتِ باعتبارها مواساة لحياة قاسية، إنما أتت في سياق طبيعي برّر له بناء شخصية «ريكي» الذي لا يتصور في كل خطواته أي جمال سوى في الصوَر الأكثر عزلة وفشلاً وغرابة، فلا هي تعبير عن واقع مأساوي حضر الجمال فيها بوصفه نتيجةً مثل لوحات «غويا» السوداوية، ولا هي افتعال لمقاومة الملل عن طريق البحث عن أنواع أخرى من الجمال، فريكي لا يعد ما يعمله شيئًا غريبًا، إذ يسجل فيديو لجين أمامها هي وزميلاتها، فالجمال الذي يتصوره منهجية حياة واعتقاد راسخ لا تقل أحقيته عن أي حقيقة أخرى.
ومن زاوية أخرى يبدو الفيلم فيلمين متناقضَين تمامًا، الأول هو واقعية أمريكا الصاخبة وروتينها المليء بالخيانات الزوجية والاهتمامات الشخصية كالوظيفة والبيت، والثاني واقع آخر متأمِّل لأكثر الأشياء التي تبدو بلا أهمية في الواقع الأول والتي يسعى لتوثيقها ريكي. الحياتان تتقاطعان عبر ريكي، فهو يعمل في وظيفة ويخرج منها ويتعرض للضرب من والده، فلو كانت بعض الأعمال الفنية تتسم بتعدد الأصوات فـ«جمال أمريكي» حضرت فيه تعدد الحيوات وحوارها مع بعضها، حيث إن إحدى هذه الحيوات التي تمثلت في ريكي وجين بدت حياة مقموعة في ظل حياة أخرى سائدة لا يمكن الخروج من قفصها، لكن هذا السجن صار هو الملهم لالتقاطات مستوقَفة لا تخلو مما هو مدهش.
وهكذا عندما يلتقي ريكي بجين لا تجمعهما سوى الأحاديث عن معاناتهما نتيجة أخطاء الوالدين، وعلى عكس جين فريكي لا يكره أباه، ومن الطبيعي أن يعلن لجين أنه حتى في علاقته المضطربة مع والده يرى أن ثمة جمالاً ما لكنه لا يفعل، بل عندما تتحدث جين عن إهمال أبيها يبتسم ريكي وهو يصورها، يقرب زوم الكاميرا إلى عينيها، هناك تبدو خيبتها أوضح وتستحق التوثيق، فعيناها جميلتان إلى حد سيجعله يبتسم وفقًا لأسلوبه في تذوق الجمال. هما جاران التقيا خلسة عن عائلتهما المشغولة بهموم حياة أخرى، جين هي الضحية البارزة التي لا ترى في معاناتها أي جمال، وريكي هو الضحية الأخرى والذي يرى في فشله وأقداره أشياء لا تخلو من سِحر ومتعة. يصل الحال بالفتاة لأن توافق على عرضه بأن يقتل أباها، ولكن لا يبدو هذا حدثًا مُهِمًا، فريكي يتعامل معها بتساهل كأنها لا تبدو شيئًا غريبًا وسط الأشياء الغريبة التي ألفها وباتت مصدرًا من مصادر التسلية بالنسبة إليه.
النهايات مأساوية لكنها مُتَوقَّعة بالنسبة إلى ريكي الذي لا تحرك المعاناة فيه إلا دافع التأمل، ولا تثير المَشاهد المملة في نفسه سوى الاندهاش. ربما تكون هذه الشخصية ردة فعل تجاه تفكك الأسرة، لكنها لا تخلو من قيمة وجودية، باعتبار أن الفلسفات التي صار لها صدى وتأثير على الحياة البشرية هي ردات فعل من قِبَل أفراد على المجتمع، ولكن هل رؤية الجمال في المعاناة ردة فعل للتعايش مع المأساة؟ ربما يتوافق معنا بيسوا في عبارته التي ذكرناها، لكن إذا سألْنا ريكي ستكون الإجابة واضحة، إذ لا مناص من واقع فيه مأساة، فالتراجيديا هي أهم ما يستحق الالتفات له وتوثيقه.
وكذلك الحال بالنسبة إلى لستر جار ريكي، فهو نفسه لن ينجو من توثيق حالات جنونه من قِبَل كاميرا ريكي، وبالاهتمام نفسه الذي تناول به جسد جين، فالجمال الجسدي يتساوى مع أفعال الغرابة، فالرغبة بالنسبة إلى ريكي ليست مدعاة للدهشة، إنما ما هو خلف الرغبة ومحركاتها، فلو اعتبرنا الهروب رغبة لَما شد ريكي منه سوى مسبباته، إنها إذن كاميرا أعمق، نظرة تحاول الوصول إلى ما هو أبعد من الجسد والفعل، كاميرا فلسفية تستعين بالمساحة السينمائية والحركة فيها والموسيقى لإبراز تعقيدات النفس البشرية ودوافعها ومأساتها بطريقة صِوَرِية، كأنها أشعة لفحص الروح، وهذا ما ظهر واضحًا في كاميرا ريكي الأقرب بألوان فيديوهاتها الباهتة إلى أشعة إكس (X Ray).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

1.كتاب «اللاطمأنية»، فرنادو بيسوا، ترجمة: المهدي آخريف
2.مسلسل Anne with an E
3.اللوحات السوداء لغويا، وهي تسمية لـ14 لوحة.
عبده تاج
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا