في المشاهدة الأولى لفيلم «نسخة موثقة» (2010) Certified Copy، يجد المُشاهد نفسه أمام حيرة بالغة، إذ يضعه المخرج والكاتب عباس كيارستمي أمام وقائع متناقضة ومنفلتة للغاية في دلالتها. يبدأ الفيلم كما لو أنه لقاء أول بين امرأة فرنسية وكاتب إنجليزي في إحدى المدن الإيطالية الصغيرة. نجد فيه إيلي، والتي تؤدي دورها الممثلة الفرنسية الشهيرة جولييت بينوش، نجدها كما لو أنها إحدى معجبات الكاتب اللاتي يُرِدْنه أن يوقّع كتابه لهن، إذ يتمحور اللقاء في بدايته حول ذلك في المقام الأول. يبدأ الحوار بهدوء بالغ، كما لو كان لقاءً أول مليئًا بالمجاملات والحواجز وجس النبض، قبل أن نجده متحولاً فجأةً إلى نسق وإيقاع صادق وانفعالي شديد، يوصلنا في النهاية لتصوّر أنها علاقة قديمة، بل وأنهما زوجان، دون أن يكون جازمًا، إذ لا تنكر إيلي زواجها من جيمس أمام نادلة المقهى، ليكملا بعدها تمثيلية زواجهما حتى نهاية الفيلم، والتي قد تكون أيضًا حقيقة العلاقة. يبدأ الفيلم من هنا، أي من نهايته تحديدًا لا من بدايته، إذ يُبقي المُشاهد في حالة من الذهول والتساؤل والتفكير حول حقيقة علاقة هذين الاثنين، إذا كانت علاقة في بدايتها بين معجبة وكاتب، أم علاقة زوجية قديمة. ومن رغبة المخرج في بقاء الفيلم وأفكاره لغزًا يفكر فيه المُشاهد، ما يضطره أن يعيد مشاهدته، من هذا المنطلق تحديدًا أكتب المقالة هذه.
بعد المشاهدة المتكررة للفيلم، وجدت أنه من بالغ الصعوبة أن نفهم الفيلم دون أن نقرأ مقالة والتر بنيامين: «العمل الفني في عصر إعادة الإنتاج التقني»، ذلك أن عباس كيارستمي، المرتبط بدرجة كبيرة بالشعر والسينما والصورة، وفي هذا الفيلم ببقية الفنون التشكيلية، يناقش رؤية فلسفية عميقة من خلال الفيلم في فهم الفن وأشكال تلقّيه. أجد العلاقة بين مقالة بنيامين والفيلم علاقةً وثيقة، لا هربًا من الأسلوب والشكل الفني للفيلم نحو موضوعه، ولكن بالعكس. أدعي وأجادل في هذه المقالة مدافعًا عن فكرة أساسية: فيلم «نسخة موثقة» هو تجسيد فنّي وتقني للفكرة الفلسفية التي هي موضوع الفيلم، وهي «النسخة الموثقة» أو «النسخة طبق الأصل»، التي تناقشها الشخصية الرئيسة جيمس في الكتاب الذي يبدأ به الفيلم تحديدًا.
بكل عفوية وبأقل تكلّف ممكن، يحاول جيمس ميلر أن يشرح فكرة كتابه المُعَنْوَن بـ«نسخة موثقة» لحضور بسيط في إحدى قاعات مدينة إيطالية صغيرة. يؤكد، باقتضاب سريع، بأن الاطلاع البسيط على الأعمال الفنية المستنسخة وغير الأصلية، والتي هي مطابقة للعمل الفني الأصلي، تحمل ذات القيمة الفنية، إذ تقوم قيمة العمل الفني على مشاركة المتلقّي في خلق المعنى الذي يوحي به العمل، ما يمكن أن نجده بسهولة في الأعمال الفنية المستنسخة. نكتشف أفكار الفيلم لاحقًا من قِبَل إيلي، وهي شخصية المرأة التي يلتقي بها جيمس فيما بعد، وهي التي تحاول أن تشرح وجهة نظرها المتعمقة حيال أفكار الكتاب، ما يوحي بتجربتها القرائية العميقة مع دلالاته. تؤكد إيلي بأن حقيقة العمل الفني نفسه، أي اللوحة الفعلية، ليست ذات أهمية أكبر من اللوحة التي هي مجرد نسخة مطابقة لها، ومحاولة استنساخ. إما أن يقدّم العمل فكرته ودلالاته بذاته، والتي تجعل من المتلقي قادرًا على خلق المعنى إلى جانبه، أو أنه لن يحمل قيمة أخرى. ذلك تمامًا ما يذكّرنا بمقالة والتر بنيامين.
يؤكد بنيامين في مقالته على اللحظة المحورية والجذرية التي غيّرت الفنون بدرجة بعيدة، وهي لحظة إمكانية إعادة إنتاج الأعمال بنسخ مطابقة للأصل. يتتبّع بنيامين تطوّر التقنية واقترابها من تحقيق هذا الهدف، إذ يبدأ الأمر مع الطابعة، وهي التي أتاحت إمكانية إعادة إنتاج المادة المكتوبة للآخرين، ما يجعل من قيمة النسخة الورقية الأصلية للعمل الفني الأدبي والمكتوب مثلاً مختلفة عن السابق في النوع والدرجة، ويصل بعدها إلى الصورة الفوتوغرافية وأثرها على الرسم والنحت واتجاهات الإبداع فيها، ما أدى إلى تقليص مساحة الإبداع بالنسبة إلى الفنانين من خلال نفي الحاجة إلى رسم الواقع مثلاً. يحلل بنيامين كل ذلك بدرجة بعيدة من الدقة والفهم لتطور التقنية وتأثيرها في الفنون، غير أنه يصل إلى نتيجة مختلفة كليًا عن نتيجة جيمس ميلر في الفيلم، إذ يؤكد أن التقنية عاجزة عن استنساخ الأعمال بكامل قيمتها وتاريخها، وهي التي تحوز على جزء أساسي من قيمتها من خلال السياق، السياق التاريخي، السياق الشخصي، بل وحتى من خلال عملية تقديم الفن نفسه، إذ يؤكد بنيامين على أن قيمة العمل الفني مرتبطة بالعوامل الموضوعية التي تساهم في تشكيله، ما يساهم في إضافة قيمة العمل الفني أو إنقاصها.
تكمن أهمية استعراض الفكرتين السابقتين في حقيقة أن جيمس ميلر، بعد أن أتمّ حفل توقيع الكتاب الذي استعرض أفكاره فيه، تنازل تقريبًا كليًا عن أفكار الكتاب. بقيت إيلي تدافع عن حقها بوصفها متلقية قادرة على المساهمة في خلق معنى الأعمال الفنية التي كانا بصدد رؤيتها في جولتهما في الفيلم، وهو ما تحتجّ به في وجه جيمس، غير المبالي وغير المهتم، والذي يبدو كما لو أنه يتبنى وجهة النظر الأخرى تلك، التي تستند إلى ما هو موضوعي لا ما هو ذاتي. ذلك ما يحيلنا إلى نقطة محورية للغاية: ليس الاستغراق في الأفكار المرتبطة بـ«النسخة الموثقة» مجرد فكرة في كتاب جيمس ميلر، وليس عنوان الفيلم مجرد عنوان اعتباطي، بل تتمثل تلك الأفكار في صلب تكوين الفيلم.
يبقى السؤال المحوري الذي يتركنا الفيلم أمامه، حتى بعد مشاهدات عديدة، وهو عن حقيقة علاقة جيمس بإيلي، نتيجة لتناقض الدلائل. يقصد كيارستمي، بذكاء حاذق للغاية، أن يُبقي الأمر غامضًا. يمكنك أن تأتي بحقائق ودلائل تدل على وجهتَي النظر. يؤكد طفل إيلي مثلاً، أنها تريد أن ترى ذلك الرجل، كما لو كان رجلاً جديدًا لتوها تتعرف إليه، كما يوحي الحوار بعدم معرفته لأسماء إخوتها وأصدقائها. تؤكد مثلاً إيلي له بأن «النادلة [ظنتهما] متزوجَين، ولم [تصحح] لها» قبل أن تبدأ تمثيليتهما. في التمثيلية نفسها، تذكّره إيلي بتفاصيل كثيرة، غير أنه لا يتذكّر أيًا منها. تفاصيل عديدة لا يمكن لزوج أن ينساها بكل تأكيد، مثل أن الجولة التي يقومان بها قد قاما بها في شهر العسل، «هنا تزوجنا، هنا أمضينا الليلة الأولى، هنا صوّرنا الصورة التذكارية الفلانية»، ولا يتذكر جيمس أي شيء، ما يوحي أنها تمثيلية بارعة للغاية. يوحي الفيلم، وفقًا لهذه الحجة، بأن الكاتب والمعجبة قد قاما بتمثيلية لعلاقة، إذ إن إيلي، التي قد قرأت الكتاب بعمق، قد قررت أن تختبر قدرته على مجاراتها في تمثيل مرتبط بظن النادلة الخاطئ بأنهما زوجان، وجيمس، كاتب الكتاب نفسه، كان قادرًا على المجاراة. اختلقت إيلي وقائع زواجهما ومكانه وفندق الليلة الأولى، لتمثّل أنها الزوجة الحميمية في وجه الزوج البارد البعيد غير القادر على استذكار أي من التفاصيل المهمة تلك، إذ يوحي الفيلم، بالطبع، بالعلاقة الخطيرة الممكنة بين المتلقي الحذق والفنان أو الكاتب.
غير أننا، طبعًا، يمكننا أن نجادل بالعكس تمامًا؛ تبدو حرارة العلاقة عصية على التمثيل، كما أن المشهد الذي أوحى بفكرة الكتاب: «رأيت فتى يلحق أمه.. لا يمشيان جنبًا إلى جنب، كما لو كان يتعمّد دائمًا أن يتأخر عن مواكبة أمه في المشي ليوحي بشخصية ذكية ومشاكسة، قبل أن يصلا إلى تمثال يتأمله الطفل وهو الذي يظنه أصليًا. تشرح الأم تاريخ التمثال وسياقه التاريخي، ويقف الطفل منبهرًا كما لو كان التمثال أصليًا، في الحين الذي كان فيه نسخة طبق الأصل». توحي تفاصيل الحادثة بأنها عن إيلي وطفلها، حيث رأينا أنه يتأخر عن مواكبتها في المشي عن عمد أيضًا. تبكي إيلي حينما تسمع عن إيحاء المشهد بالكتاب، كما لو كانت تعرف أنها هي، رغم أنه يتحدث عن أم وفتى مجهولَين، غير أننا بالتأكيد لا نجد سوى هذه المعلومة الوحيدة التي تربط الأم بالرجل.
تتعدد المشاهدات، تتعدد الدلائل التي تدعّم وجهة نظر على الأخرى، دون أن نصل إلى نتيجة حاسمة بعد كل مشاهدة. ذلك تمامًا ما يريد أن يقوم به كيارستمي: أن يُبقي المُشاهد عاجزًا عن أن يصل إلى أي نتيجة تجاه حقيقة العلاقة، تمامًا كما لو أنه أمام تمثال قد يكون أصليًا، وقد يكون نسخة طبق الأصل، إذ قد يكونان زوجين، وقد يكون ذلك كله مسرحية.. يطبّق كيارستمي من خلال الفيلم أفكار الكتاب نفسها، إذ إننا في مكان الطفل الذي أوحى لجيمس بالكتاب: منبهرين، لا نعلم عن حقيقة العلاقة شيئًا. نقف مذهولين أمام الحوار الحار الغامض العميق بين شخصيتين معقدتين، نساهم في تكوين المعنى ومحاولة التأويل، دون الوصول إلى «حقيقةٍ» و«جوهر» ندّعيهما للعلاقة، مما يؤكد فكرة «النسخة الموثقة»، فعلى العكس مما قد يظنه المُشاهد، لا يجب أن يكتشف حقيقة العلاقة، بل وإنْ فَهِم حقيقة العلاقة وحدّدها، فهو قد أساء فهم فكرة الفيلم بالكامل، فإنّ فَهْمَ الفيلم يعني البقاء حائرًا، والاستسلام للغموض، غير أنه -بالإضافة إلى ذلك كله- يؤكد على فكرة والتر بنيامين أيضًا، فبينما يحثّ الفيلم على التفكير والمساهمة في خلق المعنى المرتبط بالعلاقة والفيلم ككل، فإنه يحثّ أيضًا على التفكير في العوامل الموضوعية التي أدّت إلى تكوّن العمل الفني.
كيارستمي، في تجربته السينمائية الحقيقية خارج إيران، يفاجئنا في آخر أفلامه بأسلوب مغاير لأفلامه الإيرانية، ليقدّم لنا أسلوبًا متحررًا كليًا من الثقافة والسياق الإيرانيين. يشرّح لنا جمجمته، يضعنا في مواجهة أمام أنفسنا وأمام السينما، ويتركنا نحلّق في التفكير في أعماله سنوات عديدة بعد وفاته، تمامًا كما يتركنا «نُسخًا موثقة» لنفكر ونفكر طويلاً..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش