ترجمات

أبناء الرب: الجندر والروحانية في حقبة ما بعد الحرب في «شجرة الحياة» لتيرينس ماليك

ملخص

تحليل فيلم شجرة الحياة (2011) لتيرينس ماليك عبر عدسةٍ تعاين الجندر والسياسات الدينية لأمريكا في بدايات الحرب الباردة، حيث يُسلَّط الضوء على وظيفة التناقض الموضوعي في قلب الفيلم — الطبيعة ضد النعمة — في تصويره للضغوطات المتفشِّية في الثقافة الأمريكيَّة بعد خمس عشرة سنة من الحرب العالمية الثانية.
أمَر جاك أوبراين ابنه البكر وسميَّه في أحد أهم أوقات فيلم "شجرة الحياة" (2011) مغلظًا: لا تسمِّني بابا [Dad]، سمِّني أبي [Father] لا غير. وهذا الفرض إقرارٌ على الهرميَّة المسيحيَّة في فيلمٍ يعجُّ بالمدلولاتِ الدينية، ومذهب السيد أوبراين هنا يتعدَّى ظاهرَه الديني، فهو يذكِّر المتفرج بالصبغة الكونية للعائلة الأمريكية في عصر ما بعد الحرب؛ الرجلُ رئيس أهله على المائدة هو ربُّ الأرض، طاقةٌ تُداوَلُ بين الرأفة والغضب بقدراتٍ هائلةٍ في الخلق والتأسيس وفرض النظام.
وقد رجحت الأوراق التي كُتبت عن فيلم شجرة الحياة في كفَّة الموضوعات الفلسفية والروحانية، مع حساسيةٍ تجاه مسائل الخطيئة والكفَّارة، والفناء، والظواهر والكونيات، وحياة الخلود. وهذا، وإن كان مفهومًا، فالانشغالُ بالمقدس قد حجب عناصرَ مهمَّةً في الفيلم وتسبَّب بوقوعِ بعض الباحثين في مأزق القراءات الساذجة لأعمالِ المخرج والكاتب تيرينس مالك؛ وهذا ما يعنيه سيمون كرتشلي بقوله: "ثلاث قشور تأويلية للموزة": البحث عن المعنى في تنسَّك ماليك، والمبالغة في تفسير خبرة ماليك طالبًا للفلسفة، وتخريجُ "لغةٍ وصفيَّةٍ فلسفيَّةٍ" تشرح أعماله.
وفي اجتهادٍ من أجلِ تجنُّب المتكرِّرات، أسعى في هذه المقالة إلى تجاوزِ مثلِ هذه الظنون الفلسفيَّة تجاه قراءةٍ تاريخيَّةٍ حصيفة. وعلى سبيل المثال، فإنَّ التغاضي الأكاديمي عن مقدار جندرةِ التوتُّر الرئيسي هو عاملٌ أساسي في الفيلم. زد على ذلك إهمالُ زمنِ الأحداث في الفيلم. وتزداد إثارةَ هذه الأسئلة الأبدية في الفيلم لتأصُّلِ السرد في التاريخ، فوضعُ الأحداث في زمانٍ ومكانٍ معيَّنيْن لم يكن من قبيل الصدفة؛ في ضواحي تكساس في الخمسينيات. وفي البحث الآتي أزعمُ أنَّ أيَّ فهمٍ للفيلم يخلو من ذكرِ مسألةِ سياسةِ الجندر في أمريكا بدايةَ الحرب الباردة لَهُوَ ناقص، وعليه فإنَّ المقالة تبيِّن توظيفَ فيلم "شجرة الحياة" للتناقض الموضوعي في مركزه — الطبيعةُ ضد النعمة — بغية تصويرِ ضغوطات الأدوار الجندرية التي تفشَّت في الثقافة الأمريكية بعد خمس عشرة سنة من نهاية الحرب العالمية الثانية. والنظر في هذا الصراع المهم بعينٍ جندريَّةٍ يكشف تعبيرَ الفيلم العالمي بالخاص، أي كيفَ يمكن رؤية تاريخِ الحياة في حوادث عائلةٍ تقليديَّةٍ واحدة.

في قلب فيلم "شجرة الحياة" تتواجدُ عائلة أوبراين المُتخيَّلة من واكو في تكساس: السيد أوبراين وزوجه (يمثلهما براد بت وجيسيكا تشستين) وأبناؤهما الثلاثة: جاك جونيور (هنتر مكراكن) ور.ل. (لارامي إبلر) وستيف (تاي شيريدن). ويواجه الأبناء، وهم يتقدمون في العمر ويعلمهم أبواهم سبل الحياة، عقباتٍ معتادةً وغير معتادة: مكابدة الواجبات الدنيوية، الحاجة إلى إبهار أقرانهم، نمو أحاسيسهم الجنسية، نقاش سلطة الوالدين، والمصائب التي تحلُّ بالجيران والأصدقاء. ويمتد التبحُّر في عائلةِ أوبراين في بضعةِ مشاهدَ ترسمُ ضنك جاك جونيور الراشد (شون بين) وهو يعيش حياته مهندسًا معماريًا في هيوستن الحالية. يتخلَّل السردُ المركَّز على العائلةِ عددًا من المشاهد التي تُظهِر ولادة الكونِ وفجرَ الحياة على الأرض: على غرار تفجُّر النجوم، وضربِ النيازك، وعواصف ضرَّستْ العالم، والتطوُّر البدائي لحياةِ الحيوانِ والنبات. ومن خلال سردٍ غير خطي، يحثُ الفيلمُ المتفرِّجَ على جمعِ أسئلةٍ كبرى عن الطبيعة الإنسانيَّة والروابط الأبديَّة بين الإخوة والوفاء ومعنى الحياة. وقد وصف أحدُ النقَّاد خلاصة 139 دقيقة بأنَّها "سمفونيَّةٌ سينمائيَّةٌ أكثرَ من كونها فيلمًا بسردٍ تقليدي"، بينما قال عنه آخر مستهزئًا بأنَّه مبهَم، و"محاولةُ استعظامٍ" مبالغٌ بها في الاستغراق في النفس.
صادحًا كان أم مواريًا، يُنزَع الستار عن جوهرِ القصَّة في أحدِ أعقدِ الأوقات وأكثرها تضادًا في تاريخ أمريكا؛ حيث يتمازجُ الحلمُ والشكُّ في الولايات المتحدة في حقبةِ ما بعد الحربِ مباشرة. صحيحٌ أنَّها انتصرت في الحرب إلا أن نهايتها زجّتْ المجتمع إلى حقبةٍ لم تعرف الاستقرار. إنَّ الخطر العالمي المتمثِّل بدولِ المحور قد اختفى، وخَلَفَه تهديدُ الاتحاد السوفييتي. هذا التغيُّر الذي فرضته الحربُ العالميَّة الثانية بدَّل نمط حياة الأمريكيِّين أيُّما إبدال، ولزِمهم للعودة إلى مستقرِّ السلامِ جهدٌ مثله، فبعودة ملايين الشبَّان من وراء البحار حلَّت بهم نازلةٌ لم يُرَ مثلُها من قبل في نسبِ المواليدِ والزواج. وقد قالت المؤرِّخة إلين تايلر مي إزاء هذا التغيُّر: «شهدَ مجتمع ما بعد الحرب الأمريكي فورةً في حياةِ الأسرةِ وترسيخًا لأُلفة المجتمع بأدوارٍ مختلفةٍ بين الرجل والمرأة»(5)، وهذا التوكيد سادَ بعد أن أرخاهُ الخوفُ من قيامةٍ نوويَّة، وكان «المنزل» كما تقول مَي «يمثل منبعَ المعنى والأمان في عالمٍ مسعور، فالزواج المبكر وكثرة الأولاد كانا من سبلِ الأمريكيين في دحضِ تنبؤات نهايةِ العالم». وكان هذا التوجس قويًّا لدرجة أنَّه تسبَّب في نقصٍ في الإسكان العام في السنين الخمس التي أعقبت الحرب العالمية الثانية.
في الوقت نفسه كانت المعايير الجندرية الأمريكية - وخصوصًا تلك التي تسوسُ الذكورة - على وشَكِ إعادة ضبطها، وحتى من قبل الحرب العالمية الثانية حذَّرَ المهتمُّون بالشأنِ الاجتماعي أنَّ اهتمامَ الأمَّهات الزائد وكثرة احتضان الأطفال يعيق نموَّ الذكورةِ لدى أبنائهن. وقد أُطلق على هذه المخاوف اسم "التعلق الأمومي" [Momism] من قبل الناقد الاجتماعي فيليب وايلي في كتابه المنشور عام 1942 والمعنون بـ جيل الأفاعي، وفيه زعمَ وايلي أنَّ أمهات العصر يحملنَ تأثيرًا عظيمًا على أبنائهن، فسلوكهنُّ في غلو حمايةِ أبنائهن يعني أنَّ الابن «محجوبٌ عنهُ التطوُّرُ الطبيعي خلال دورتِه البربريَّة أو طفولته.. [و] محصَّنٌ ضدَّ أيِّ خطوةٍ كبرى في النمو إلى النضوج»، وعليه، فإنَّ أيَّ تعاطفٍ من الابنِ لغيره من الناس تحوِّله الأم نحوها «فيصير تعاطفًا نحوها هي».
من هنا أضحى التعلُّقُ الأموميُّ ظاهرةً نفسيَّةً رائجة، وصارَ حديثَ الناس في أمريكا إبَّان أربعينيَّات وخمسينيَّات القرن الماضي. ونقلًا عن المؤرخ جيمس غلبرت، فإنَّ الخوف من تأنُّث الرجال دبَّ في النفوس خلال السنوات الخمس عشرة عقبَ الحرب العالمية الثانية؛ إذ كانوا يخشون من أن يقودهم التأنُّثِ إلى تفشِّي المثليَة. استشرى القلق أكثر مع حادثة «الذعر الأرجواني»، وهي سلسلة تطهيرٍ متداخلةٍ نفذتها السلطات الفيدرالية والمحلية وسلطات الولايات ضدَّ موظفي الحكومة المتَّهمين بالمثليَّة، وانتهت هذه الملاحقة بطردِ وإقالةِ الآلاف على حدِّ قول المؤرخ ديفيد كي جونستن.
ومع ادعاء غلبرت وغيره أنَّ حقبة الخمسينيات لم تأتِ «بنموذجٍ واحدٍ واضحٍ متَّفقٍ عليهِ للرجولة» إلا أنَّ بعضَ جوانبها تطغى على الباقي؛ خصوصًا ضمن أعراقٍ وطبقات اجتماعيَّةٍ واقتصاديَّةٍ محدَّدة. وعلى حدِّ تعبير مايكل كيمل، «يجب على رجال أمريكا أن يتشرَّبوا رؤيةً واحدةً للرجولة، رؤيةً فريدةً تسمو على كلِّ ما نقيس به أنفسنا». ويسمي الباحثون هذه النسخة المثالية «الرجولة السائدة»، وهو وصفٌ أتى به عالمُ الاجتماع ر.و. كونِل في الثمانينيات. وكانت الرجولة السائدة عند البيض من الطبقة المتوسطة إبان الخمسينات تعني العنف والتنافس والثقة، والاستقرار المالي واللياقة البدنيَّة. وساعدت الظواهرُ الاجتماعيَّة الثقافية وقتها، كالمخاوف التي ذكرناها أعلاه من تأنث الرجال ومثليّتهم، في حصرِ معنى الرجولة عند المجتمع، وتلك الحدودُ كانت صارمةً خصوصًا لدى البيض من الطبقة المتوسطة (على غرار السيد أوبراين) الذين يرجون صعودَ السلَّمِ المهنيِّ في ما بعد الحرب العالمية. زد على ذلك أنَّ الرجولةَ السائدةَ تختلفُ باختلافِ المكانِ أيضًا، وموقعُ عائلة أوبراين في تكساس يضعهم في تقاطعِ ثقافتَين إقليميَّتين، جنوبًا وغربًا، حيث كلاهُما يحملان تصوُّراتٍ محافظةً بشأنِ الأدوار الجندرية.
والجزء الآخر الضروري في السياق التاريخي لفهم فيلم "شجرة الحياة" هو تطوُّر الروحانيَّة الأمريكيَّة في بدايةِ عصرِ الحرب الباردة. فبين عامي 1940 و1960 ازداد عدد المسجلين في الكنيسة من 64.5 مليون إلى 114.5 مليون، وهو ما يُعتبرُ قفزةً هائلة. ويقول المؤرخ الديني روبرت وثنو إنَّ سببَ هذا النمو هي الحرب نفسها، فهي "ترمزُ إلى خط حدودِ الزمن، ومستهلِّ حقبةٍ شهدت طقوسَ النضجِ بعد الفتوَّة، ولحظةٍ فريدةٍ في التاريخ تفصلُ بين القديم والجديد؛ كأنَّ سنين الحرب العاصفة طهَّرت هواءَ الأعراف المعلومة، مهيِّئةً رياحًا جديدة تجوب المدارك الدينية". بالنسبة لكثيرٍ من الأمريكيين، كان انتصارِ الحلفاء في الحرب العالمية الثانية على الفاشيَّة تأكيدًا للبشارةِ المكتوبةِ على ملصق للملاكم جو لويس "سننتصر لأنَّ الرب معنا". والالتزام الديني أعان الأمريكيين حتَّى في تحسين استشعارهم للهويَّة الوطنية في خضمِّ عالمٍ متغيّر. وسعيًا إلى تمييز الولايات المتَّحدة التقيّة عن العدو الشيوعيِّ الملحد، "شرَّع الرئيس دوايت آيزنهاور إدخال عبارة «في رعاية الرب» في عهد الولاء ونقَش «نثِق بالرب» في النقود".
ومع ذلك يبيِّن وثنو أنَّ حِسَّ الميعاد والغاية المعزَّزة بالتديُّن الأمريكي فترةَ ما بعد الحرب كان محدودًا لأن «الخوف من خطرٍ وشيكٍ كان واضحًا، والخطاب الديني كان ممتلئًا بنبؤات الهلاك، ولا شك أنَّ السلام يتمتَّع بالأفضليَّة على الحرب، والرخاء على الكرب، إلا أنَّنا لا نعلم إلى متى تدوم النعم». ومع أنَّ نهاية العالم كانت مُتوقَّعَةً من قبل، بيدَ أنَّها صارت وشيكةً بمجيء حربٍ نوويَّة. وعلى نفس رأي وثنو، يقول المؤرخ بيتر أليت إنَّ الخمسينيات شهدت «زيادةً في التديُّن»، وأتت جرَّاء «الخوفِ من الفناء في حربٍ نوويَّةٍ عصيبةٍ أعادت الخائفين من رجالٍ ونساء إلى الكنائس والمعابد لتطمئن قلوبهم». وفي المخيال الأمريكي، كانت الضواحي الهادئة مليئةً بملاجئِ القنابل. وهذا النهج المتناقض في الدين يبيِّن أيُّما بيانٍ مِزاجَ المجتمع في الخمسينيات: لباسُ السكينة المحليَّة الذي يحجبُ العُقدَ الاجتماعيَّة السياسيَّة.
ووضعُ فيلم "شجرةِ الحياة" في هذا الزمن له أهميَّة، لأنَّ عالميَّة معاني الفيلم تهب الكاتب والمخرج تيرينس ماليك حريَّة اختيار أيِّ حقبة، واختياره لما بعد الحرب مباشرةً ليس نابعًا من خبرته بها فحسب، بل لأهميَّتها في تاريخ أمريكا في التغيُّرات الاجتماعيَّة والاقتصادية، والعلاقات الجندرية، والهلع الوجودي من حالة حربٍ نوويَّةٍ وشيكة. في حين أنَّ البحث عن معنى كونيٍّ ونظامٍ جامعٍ يمكن أن يكون بحثًا طويلًا، إلَّا أنَّ تفاصيلَ هذه الأسئلة تتغيَّرُ حسبَ الأحوال الراهنة.
وأغلب الظن أنَّ أحوالَ عائلة أوبراين اقتُبِسَت من وقائع ماليك نفسه، فشخصيَّة جاك أوبراين الصغير تشبه سيرة المؤلِّف في أوجهٍ كثيرة؛ فماليك، على غرار جاك المُتخيَّل، نشأ وسطَ طبقةٍ متوسِّطةٍ في الغرب الجنوبي (أوكلاهوما وتكساس) إبَّان خمسينيَّات القرن الماضي، وكان الأكبر من بين ثلاثة أبناء. وأحد إخوة ماليك - لاري - انتحرَ وهوَ ابن 19 عامًا (نفس العمر الذي توفي به ر.ل أوبراين بحادثِ سيَّارةٍ في فيلم "شجرة الحياة")، والثاني - وهو كريس - أصيب بحروقٍ بالغةٍ (وكذلك حدث لإحدى الشخصيَّات) في حادث سيارة وهو في سنِّ البلوغ. حتى أنَّ والد ماليك، شأنه شأن السيد أوبراين، كان يعزف الأورغ في الكنيسة المحليَّة بعد إخفاقه في دخول عالم الإحتراف الموسيقي، واضطر إلى تغيير مسكنه مرَّةً واحدةً على الأقل بحكمِ عمله في شركة فيليبس بتروليوم. وقد أضفت هذه التقاطعات عواطفَ أكثر في الفيلم فوقَ امتلائه بالمشاعر.
يتَّضحُ الشعور بخصوصيَّة الحالة أيُّما اتِّضاحٍ في مشاهدِ عائلة أوبراين، بلحظاتٍ هي لبُّ العاطفةِ في الفيلم: اللعب في ساحتهم في الضواحي، الجلوس على طاولةِ العشاء، التبضُّع في قلب مدينة واكو، الذهاب إلى الكنيسة، والسباحة في المسبح العمومي. وقدمت وقائع عائلة أوبراين السؤالَ الجوهريَّ في الفيلم إلى المشاهدين، سؤالًا جدليًّا ابتدأهُ صوتُ السيِّدة أوبراين معلّقةً: «علمْننا الراهبات أنَّ هناك طريقين للحياة، ألا وهما طريق الطبيعة وطريقُ النعمة. وعليك اختيار إحداهما». وقالت في شرح الفرق بينهما:
لا تسعى النعمة إلى إرضاء نفسها، بل ترتضي التهميش والنسيان والبغض، وحتى الإهانة والأذى. أمَّا الطبيعة فلا ترى إلا إرضاء نفسها، وحتى أنَّها تدفعُ الآخرين لإرضائها، تحب فرضها عليهم، وفرض طريقتها، وتنغص على نفسها وإن كان العالم حولها مشرقًا، حيث يبتسم الحب لكل شيء. علمنَنا أنَّ من يحبُّ طريقَ النعمة لا يخيب مصيره أبدًا.
وتكمنُ أهميَّة هذا السؤال الجوهري في أنَّ جوابَه قرارٌ فردي، وأنَّه بين جوابين لا ثالث لهما ولا يصح التوفيق بينهما؛ وعليه يُعرض هذا السؤال الفلسفي لأبناء أوبراين، خصوصًا جاك. أيهما يسلكون؟ إنَّ اعتقاد السيدة أوبراين بأنَّ القرار بيد أبنائها - وأنَّه يحدِّدُ مصير ما تبقى من حيواتهم - يبيِّنُ مدى أهميَّة إرشادِ الوالدين في مسلكِ الأبناء.
إنَّ الفرق بين النعمةِ والطبيعة له أصلٌ في اللاهوت المسيحي، ولعلَّ أشهر ما كُتب عنه موجودٌ في الفصل الرابع والخمسين من كتاب المواعظ «الاقتداء بالمسيح» لتوماس إيكمبس في القرن الخامس عشر. فالطبيعة في البناء المسيحي تعني طبيعة الإنسان التي أفسدتها الخطيئة الأولى، أما النعمة فهي متعلقة بالعفو عن مثل هذه الذنوبِ والاتِّصالِ الوثيقِ بالرب. وأول ما قال به القسيس الألماني كيمبس «كل امرئٍ يرغب الطيبات»، وعنده أنَّ الناس في الغالب يساقون إلى حالاتٍ روحيَّةٍ تقوِّض تحقيقهم للخير، وهذه توطئته في الفرق بين النعمةِ والطبيعة:
الطبيعة حذقة تغري خلقًا كثيرا، تهوي بهم وتخدعهم، وتضع نفسها وغايتها الأهم. أما النعمة فهي بيّنة واضحة، تنأى عن الشر وتحصن نفسها عن المكر، وتسعى أبدًا إلى مرضاة الرب وتلجأ إليه. والطبيعة تبغض الموت ولا تريده، وأن تهمش أو تُغلَب، وأن تُخضَع أو تُكبَت بسهولة. أما النعمة فما هي إلا عن تهذيب النفس، تقاوم الفتن والرغبات، تسعى إلى أن تُحكَم وترغب الخضوع وألّا تكون حرّة، وتحب الانضباط ولا ترغب أن تحكِم أحدًا، تصبو إلى العيش وأن تبقى في رعاية الإله، ولا تتوانى أن تخضع في أي أمر لأجل الإله. والطبيعة تتوق إلى مصلحتها ولا ترى سوى ما تستفيد به من غيرها، أما النعمة فلا تهتم بمصلحتها فقط بل ترى ما فيه خير للجميع. والطبيعة تنشد التقديس والعزة، أما النعمة تنسب العزة والمجد إلى الإله وحده.
وهذا الفهم للعلاقة - بين الطبيعة والنعمة - يوافق نظرة ماليك أو - على الأقل - النهج الذي تعلَّمته السيدة أوبراين من الراهبات؛ فمن يتَّبع طريقَ النعمة يرى الجمال في كلِّ شيء، يقدِّر وجودَه أيُّما تقدير ويُعجَب بما حوله في العالم، إلا أنَّه عرضةً إلى الخنوع والمذلَّة. أما من اتبع طريق الطبيعة فهو أعلى تحكُّمًا بحياته وأشدُّ مقاومةً، إلا أنه أشرس وأكثر عنفًا وعتيًّا في التنافس. وينبغي ملاحظة أن متَّبعي طريق الطبيعة عند ماليك - نقيض اسمهم - أقلُّ تقديرًا لجمالِ الطبيعة ممَّن يتَّبع طريقَ النعمة، كما أنَّهم يصبون إلى التحكُّم بالعالم الطبيعي وإظهار القوَّة عليه بدلًا من تقديرِ عظمته. إنَّ تكرار هذه الفلسفة التي يقدِّمها فيلم "شجرة الحياة" لا يخلو من التناقضات، لكنَّها تبيِّن غموض الحياة نفسها، وهذا - على جرأته - محط اهتمامٍ جوهريٍّ في الفيلم.
يمثِّل السيد والسيِّدة أوبراين كلا الطريقين؛ فهي تتَّخذُ طريق النعمة وهو طريقُ الطبيعة، وهذه ثنائيَّة تُبرِز الطبيعة الجندريَّة لنهجيهما. إنَّ طريقُ النعمة للسيدة أوبراين يجسِّدُ صورةً أنثويَّةً نمطيَّةً: ناعمةٌ ولطيفة، قبولةٌ وخدومة ليِّنةٌ ولعوب. وهذه الخصال واضحةٌ خصوصًا في تعامل السيدة أوبراين مع أبنائها، إذ أنَّها تعلِّمهم بلمسةٍ حنونة، تلاعِبهم في الحديقة، تطاردهم حول المنزل، وتوقظهم من النوم بوضعِ الثلج على ظهورهم. كما أنَّها تقوِّم صلتَهم بالطبيعة بإشارتها إلى شتلةٍ في الحديقة الخلفية وهي تقولُ لجاكِ الرضيع إنَّه «سيكبرُ قبل أن تنموَ الشجرة». وتتجلَّى قيمُها في نصائحِها لأبنائها من خلال تعليقٍ صوتي: «ساعدوا بعضكم، أحبوا الجميع، فكلُّ ورقةٍ وكلُّ خيطٍ ضوء، واصفحوا». وبعد وقتٍ يتابعُ الصوت قائلًا: «السبيلُ الوحيد إلى السعادة هو أن تحبُّوا، فإن لم تفعلوا، فستمضي حياتُكم في طرفةِ عين… أحسنوا إليهم، اندهشوا وتمنَّوا».
وتُبرُز الخيارات السينماتوغرافية لمدير التصوير إمانويل لوبتسكي رشاقة السيِّدة أوبراين وأنوثتها، فهي محاطةٌ بخيوطِ النور التي تُظهرها كالمَلك حين تخترق أطراف لباسِها وشعرها. وتطوف الكاميرا حولها مارة من محياها إلى السماء، إلى ضوء الشمس الذي يتسلُّ بين أغصان الشجرة. وهذه الحركة تربطُها بعالمِ الطبيعة بينما تبين مكانتها في الهرم، مظهرةً إياها مخلوقةً رقيقةً تعانق الأماكن حولها وتسمو بها. إنَّ حركة كاميرا لوبتسكي تبجلها تبجيلَ فناني الكاثوليكيَّة لمريم العذراء، وحتى صورة الأم المباركة دلَّت عليها جوانبُ أخرى من ظهور السيدة أوبراين في الفيلم؛ فهي لا تُرى مثيرةً أبدًا، ولا تظهرُ بمشهدٍ يحوي غوايةً وإغراء، وحتى لباسِها اللافتِ الملوَّنِ خلال الفيلم يزهو باحتشام. كما أنَّها تظهرُ في لحظاتِ تبجيلٍ وتعظيم: في آخر مشاهد الفيلم تحضرها شخصيَّاتٌ ملائكيَّةٌ وهي «تهبُ» ابنها إلى الإله.
على الرغم من قدسيَّة شخصيَّتها، غير أنَّ حدود السيِّدة أوبراين تنكشفُ عقِبَ سفرِ زوجها في رحلةِ عملٍ طويلة، فبدَت مغلوبةً على أمرها لا تقدر على ضبط أبنائِها الذين أمسوا هائجين في غيابه: يعذِّبونها على نحوٍ مرحٍ بسحلية لقوها خارج المنزل، يصرخون ويركضون في المنزل كأنَّهم عفاريت، ويمثِّلون أفعالًا يحرِّمها والدهم - مثل رد الباب بقوة - وهم مستمتعون. غدَت تصرُّفات جاك أكثر عنفًا من ذي قبل، فقد كسر نافذة سقيفة جاره بالحجارة، ثم رببط ضفدعًا بصاروخ ألعابٍ ناريَّةٍ وأشعله فيُقتَل الحيوان جراء تجربته هذه. بغيابِ والده أصبح اتصاله بعالم الطبيعة بالتحكُّم لا بالتأمل. وزادَت حدَّة تجارب جاك بعد عودة والده مباشرة، نرى مشهدًا وهو يقنع أخاه ل.ر. بوضع إصبعه على فوَّهة مسدَّس ضغط هواءٍ ومن ثمَّ ضغط على الزناد. وعلى الفور يشعرُ جاك بالندم، ويدعو شقيقه في وقتٍ لاحقٍ إلى الانتقام الجسدي: «اضربني إن شئت، أنا أخوك، وأعتذر منك». يذكّرنا إدراك جاك بسؤال قابيل لله في سفر التكوين، وعندئذٍ أدرك جاك يقينًا أنَّه هو الحارس لأخيه والحامي له.
لا يكاد يُرى في ظهور السيد أوبراين سوى التسلط، وتطبُّعُه بطريقِ الطبيعةِ منوطٌ بخصالٍ مشهورةٍ في الذكورة؛ فهو عنيفٌ لا يرضَخ، منافسٌ مستبدٌ وغليظ، يرى الحياة في كبدٍ لا ينقطع، وأن الفَلَاح لا يكونُ إلا لمن تحمَّل شقاء هذا الطريق. لقد تأثَّرت نظرة السيد أوبراين للعالم بخيباته الدائمة التي رسمت حياته: إخفاقه في احتراف الموسيقا، عجزه عن كسبِ براءات اختراعٍ لابتكاراته العديدة، علاقته المشحونة بامرأته وأبنائه، وعجزه عن الحفاظ على وظيفته حين أُغلقت المنشآت التي يعملُ بها. وكل هذا ابتلاءٌ له، فهو ليس مختلفًا عن أيوب، بل أول حروف اسمه مثل اسم المبتلى في الإنجيل: Jack O’Brien. ويأتي ذكرُ نصٍ مأخوذٍ من أوَّل آيتين في سفر أيوب وهو كذلك الاقتباس في أول الفيلم: «أَيْنَ كُنْتَ حِينَ أَسَّسْتُ الأَرْضَ؟… عِنْدَمَا تَرَنَّمَتْ كَوَاكِبُ الصُّبْحِ مَعًا، وَهَتَفَ جَمِيعُ بَنِي اللهِ؟»
أمَّا فلسفة السيد أوبراين مع امرأته فتتجلَّى في معاملته لأبنائه؛ فحينما صفقَ جاك باب المدخل، أرغمَه على إغلاق الباب بهدوءٍ خمسين مرَّة، ولما لم يُحسن جاك قصَّ حشائش الحديقة أجبره أن يكرر العمل، وحينما جادلَ ل.ر. أباه على العشاء اعتدى عليه السيد أوبراين جسديًّا، وحبس جاك في الخزانة لما حاول الدفاع عن أخيهِ الأصغر. وبيَّن السيِّد أوبراين لجاك لاحقًا سلوكَه محذرًا إياه: «والدتُكَ امرأةٌ خرقاء. لا بدَّ من قوَّة الإرادة كي تجابه هذا العالم، فإن كنت طيبًا استغلك الناس».
في أحد المشاهد المعبرة يصطحب السيد أوبراين أبناءه إلى الفناء ويحاول تعليمهم الملاكمة. ولكي يريهم كيف يلكمون، ضرب جانب وجهه مرارًا وهو يردِّد «اضربني!». حاول جاك لكنَّ السيد أوبراين صدَّ لكماته، وهذا أسلوب يوضح أنَّ رغبة جاك - أو ظنَّه - بالرجولةِ غايةٌ بعيدة، وأن أباه ما يزال الآمر الناهي في المنزل. ولم يقوَ ل.ر. على توجيه لكمةٍ لوالده لما حان دوره، بل ظلَّ ينظر بارتباكٍ إلى أبيه الذي كان يردد «اضربني!». ومتسمرًا لا يجرأ على مدِّ يده على أبيه حتى ولو كان تدريبًا، يستسلم السيد أوبراين أخيرًا ويقول له: «اذهب والعب بعيدًا». ودرس الملاكمة هذا لا يبيّن أهميَّة قوَّة الجسد في معنى الرجولة عندَ السيِّد أوبراين فحسب، بل حتى تلكؤ الأبناء وعجزِهم عن سلكِ منهج «طريق الطبيعة» العنيفِ لأبيهم.
وحتى تصوير لوبتسكي السينمائي مفيدٌ بالمثل في صقلِ شخصيَّة السيد أوبراين والتزامه بطريقِ الطبيعة، فحركة الكاميرا خلال المشاهد التي يَظهر بها السيد أوبراين أكثر عنفًا ومباشرة، تاركةً اللقطات الرقيقة المتموِّجة في تصويرِ امرأته. غالبًا ما تُحرَّك الكاميرا إلى الأعلى على مستوى عين السيد أوبراين، مُشعِرةً المُشاهِدَ بالنظرة الدونيَّة التي ينظر بها إلى أبنائه إذا تشاركوا المشاهد. وحتى في الحضور إلى الكنيسة لا يظهر على السيد أوبراين التواضع، صالبًا ظهره، مختالًا وواثقًا بحركته. من الواضح أنَّ النور الذي يملأ السيدة أوبراين لا ينعمُ به زوجها.
وعلى الرغم من اختياله، غير أنَّ السيِّد أوبراين مثقلٌ بشعورِ العجز والذنب، فخيباته في احتراف الموسيقا والإبداع تلاحقه، وقد قال لجاك في نهاية الفيلم «أنتم يا أبنائي أحسن ما خرجتُ به في حياتي، بدونكم حياتي بلا قيمة، أنتم كلُّ ما أملك»، ثمَّ يضيف متلكِّئًا «أنتم كلُّ ما رغبت به». وحلَّت الطامة في عمله بإغلاق المنشأة التي يعمل بها ثمَّ وضعه بين خيارين أحلاهما مر، إما الاستقالة أو الانتقال بعيدًا مع عائلته ليعمل في «وظيفةٍ لا يريدها أحد». وانتهت حقبة الخمسينيات في الفيلم باختيار السيد أوبراين الخيار الثاني، وبمنظر الأبناء وهم يتأمَّلون حيهم القديم عبر النافذة الخلفية لسيارة العائلة أثناء مغادرتهم البيت الوحيد الذي عرفوه. ثمَّ يأتي صوتُ السيد أوبراين معلقًا بحسرة: «أردتُ أن أكون محبوبًا لمنزلتي وعظم شأني، أنا محضُ نكرة، انظروا إلى الجلال حولنا، والأشجار والطيور، دنستُها ولم أنتبه لهذا الجلال»، ثم يخلُصُ إلى أنَّه كان «أحمق»، راثيًا حقيقة «زيغه» عن غايته في أن يكون «موسيقيًا عظيمًا».
لا شك أنَّ رجولة السيد أوبراين - والطريقة التي تتحدَّاها بها الظروف - رهينة الزمن اللي عاش فيه، فحُّس الرجولة عنده مشروطٌ بالتجاربِ الغالبة في العالم عند رجالِ جيله: الخدمة العسكرية (توحي لقطةٌ خاطفةٌ له باللباس العسكريِّ إلى خدمته في سلاح البحرية خلال الحرب العالمية الثانية)، وزواجٌ طبيعي، والأبوة وتملُّك منزِل، وعملٌ مجزٍ وعافيةٌ في الجسد، والدنيوية (وتُحَقَّق بالذكاء والسفر إلى الخارج والمهارات المجتمعيَّة). ويتَّضح في معظم الفيلم أنَّ السيد أوبراين يؤمنُ باستحقاقه حياةً سعيدةً راضيةً يملؤها التوفيق في النفس والعمل، ذلك وأنَّه عمل بجدٍّ وفعلَ الواجب جنديًا وزوجًا وموظفًا ووالدًا وعبدًا مطيعًا. وقد تمكَّن السيد أوبراين - رغمَ شعوره بالأحقيَّة - من أخذِ هباتِ أمريكا ما بعد الحرب العالمية: سيارةٌ مريحة، منزلٌ مستقلٌّ مليءٌ بالأجهزة (من المُحتَمل أن يكون مموَّلًا من قرضٍ فيدراليٍّ مضمونٍ حسب تشريعِ تمكينِ منسوبي الخدمة العسكرية [GI Bill])، وعملٌ وجيهٌ مع حساب للنفقات، خاصَّةً وأنَّه غير مثلي الجنس ورجلٌ أبيضُ أدى الواجب الرجولي المطلوب منه تجاه بلاده.
وفي النهاية أُعيق السيِّد أوبراين من قِبَل القوى العميقة التي يتكئ عليها هذا النظام الاقتصادي، مجبَرًا على اقتلاع عائلته نتيجة دورةِ نشاطِ وكسادِ النفط، والغالبُ أنَّ محاولته لكسبِ براءات الاختراع أحبطتها مصالحُ الشركة. ومن أسباب «زيغه» عن غايته بأن يكون «موسيقيا عظيمًا» هي مطالبته بتحقيق آمال الرجولة، منها أن يكون هو القائم على عيش عائلته. فحتى أوضح انتصارات السيد أوبراين - سلام الانتصار بالحرب العالمية الثانية - بات مشكوكًا إثر الخلاف الجيوسياسي للكوريين والحروب الباردة.
ويقدم تفحص ماليك في جاك أوبراين الابن - خصوصًا جهده في الاختيار بين طريق الطبيعة وطريق النعمة - نظرةً أخرى في المسائل التاريخيَّة والجندريَّة للسؤال الأساسي في الفيلم، فإن كانت الطريقتان منتظمتَين مع فهمٍ للجندر على أنَّه ثنائية الذكر/الأنثى، فالتغيُّر الذي عاشه جيل جاك الإبن فرصةٌ لنيل طريقةٍ ثالثة، وخصوصًا الشكل الآخر للرجولة، وقد طرأت فرصة الانحراف هذه بفضلِ الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي التي شهدها جيل جاك.
عند النظر إلى جاك من منظور تاريخي، من الضروري أن ندرك اصطفافه بين الأجيال باعتباره من مواليد جيل الطفرة السكانية؛ وهي مجموعة ولدت في أمريكا في العقدين اللذين تليا الحرب العالمية الثانية. وأبناءُ جيل الطفرة هم أكبر جيلٍ في تاريخ أمريكا، فقد بيَّن ستيف غيلون أن ما بين عامي 1945 و1964 «وُلد قرابة الثمانين مليون طفلٍ أمريكي»، وبحلول عام 1959 كان ثلاثون بالمئة من الأمريكيين تحت سن الرابعة عشر. وعلى الرغم المخاوف التي خلفتها الحرب الباردة، إلا أنَّ هذا الجيل نشأ في الرخاءِ ونَعِم بالأمن أكثر من الأجيال التي سبقته في أمريكا. فقد قال غيلون:
بين عامي 1940 و1960 ازداد الناتج الإجمالي المحلي أكثر من ضعفه، من 227 مليار دولار إلى 488 مليار دولار. وارتفع معدل دخل العائلة من 3,083 دولار إلى 5,657 دولار، وزادت الأجور الحقيقيَّة بنسبة 30% تقريبًا. وبحلول عام 1960 وصل عدد الموظفين الأمريكيين إلى 66.5 مليون وهو رقمٌ قياسي. وخلافًا لما حصل في أوقات الازدهار السابقة، لم ترتفع الأسعار مع ارتفاع الدخل: متوسط التضخم في الخمسينيات بلغ فقط 1.5% كل سنة. «لم نحظ بهذا الكم من الناس في رخاءٍ بأيِّ مكان في العالم»، ختم بها محررو U.S. News و World Report عام 1957.
وسطَ هذا المناخ من الثراء والاستقرار النسبيين، أتيحت الفرصة لأفراد جيل الطفرة السكانية مثل جاك لخوض مخاطرَ اجتماعيَّةٍ لم تكن متاحةً لأفراد جيل آبائهم، والرغبة بتميُّز المرء عن أبيه ظاهرةٌ في العالم، إنَّما أقرَّ المؤرخون والمتكلمون في المجتمع بانشغال جيل الطفرة في رفض عوائد المجتمع أكثرَ من أي جيل، مستشهدين بثورة الستينيَّات. وكانوا متفردين حتى في الاهتمام بأنفسهم وفي سعيهم إلى إشباع رغباتهم، وفي ذلك قال غيلون: «في عام 1940 لم ير في نفسه قول 'أنا مهم' غير 11 بالمئة من النساء و20 بالمئة من الرجال، وبحلول عام 1990 رأى هذا القول ما يزيد عن ستين بالمئة من الرجال والنساء».
وتفردُ جاك واقعٌ بصبوِه أن يكون بين رؤية والديه للعالم قوَامًا، فخطَّ مسارًا ثالثًا بين طريقي الطبيعة والنعمة. وجاك مثله مثل سائر أبناء جيله، ينشد رجولةً أرهف وألين تخالف رجولة أبيه الأكثر غِلظة، وكان جاك الراشد خلاف أبيه، أي أكثر حنانًا وإظهارًا لمشاعره، يتحدث عن شعوره بلا خجلٍ ويشارك - في آخر مشاهدِ الفيلم - في مقاماتٍ للصفح والروحانيات. وقد مهدت السعة في قوانين مظاهر الرجولة بعد شدتها في أمريكا ما بعد الحرب لجاك أخذَ هذا المسلك الثالث.
قد ترى في امتهان جاك للهندسة المعماريَّة غايةً لوصلِ طريقي الطبيعة والنعمة، إذ رغب بحرفةٍ غايتُها تقديرُ بديعِ العالم وجميلِه مع استغلالِ مساحة الطبيعة. ومكتبُ جاك مفرِطٌ في الهندسة حديث التصميم، وهذا يُظهر انضباطًا يوافق رجولةَ طريق الطبيعة، لكنه لا يخلو من حضور الطبيعة، بنوافذَ واسعة تغمر المكان بالنور وألواحَ خشبيَّةٍ غير مزخرفةٍ وأشجار موضوعةٍ تزين غرف الاجتماع والردهة، فبدت مناجاة الطبيعة وإخضاعها جليَّة. وكذلك منزل جاك فيه نفس الغشاوة بين الطبيعة والمصنوع، ففي أحد المشاهد تزيِّن امرأةٌ يغلبُ على الناظر أنها امرأته غرفةَ المعيشة بغصنٍ أخضر. وفيلم "شجرة الحياة" مثله مثل أفلامٍ أخرجها مالك - منها "أيام النعيم" و"العالم الجديد" - تُصوِّر الإنسان في دأبِه لتطويعِ نعمة الطبيعة في الأرض والتحكم بها واستبضاعِها، وأعلمٌ أنَّ عمل السيد أوبراين في صناعة النفط الأحفوري مثالٌ صريحٌ على هذه الغاية.
ومع هذا فإنَّ نجاحَ جاك بمهنته لم يُذهَب عنه الكدر، فقد أقرَّ همسًا في مكالمةِ جوَّالٍ - والظاهر أنَّ بعضها مع والده - بشتاته وتحسُّره على تقديمِه لعمله. وأثناء مكالمته نظر توَّاقًا إلى زميلةٍ شقراء غيداء ثم أفصح لمحدِّثه «وكأنَّه يضربُ الحيطان»، في مجازٍ بليغٍ بالأخذ بصنعته وعلاقته بالعالم الطبيعي. ويظهر في بعض الأحيانِ أنَّ إحباط جاك آتٍ من عجزَه عن الجمع بين فلسفتي والديه جمعًا وافيًا، فقد نال مطلبَ والدِه بوجاهة العمل ورخاء العيش وما زال مغتمًا، وما زالت رغباته الطبيعية تحدُّه، والدليل على ذلك نظرته إلى زميلته الفاتنة. وعدم إنجابه معبِّر أيضًا، فهو قرارٌ يفصله عن والده ويخفف مطالبة الإرشاد الروحي والأخلاقي لجيلٍ جديد، وقد يُرى في عدمِ إنجابه أنانيَّة، وهذا نقدٌ مشهورٌ يأخذُ به مواليد الطفرة.
وإن كان ماليك يُعرِضُ عن إجازةِ أحد نهجي الطبيعة والنعمة، فالجواب تجدُه في ذروة الفيلم، فمع دخول جاك - أو تخيُّله هذا - إلى عالمٍ غيبيٍّ أو أُخروي، مرت الكاميرا على بابٍ من الظلام إلى النور، ثمَّ إلى صحراءَ شاسعةٍ بها واحات، وصدحت معزوفة قداس الموتى العظيم [Grande Messe des Mortes] لهكتور برليوز (المعروفة باسم "رثاء" [Requiem])، وحين يجولُ جاك الراشد بلباسٍ حسنٍ عددًا من الأسطح الصخرية وبرفقته نسخته الصغرى، ترتفع الكاميرا إلى أعلى ويدخلُ جاك الراشد بابًا ليجد نفسه على ضفَّة بحرٍ أو بحيرةٍ كبيرةٍ يحيط بها ما يشبه الملائكة، فيجثو على ركبتيه، من ثمَّ يخوض الناس في ضحلِ الماء يلاقون أحبابهم ويعانقونهم، ومع ارتفاع صوت جوقَة برليوز يجتمعُ جاك مع عائلته، كلٌ على هيئته في الخمسينات؛ ويرى أمه، فأباه، ثمَّ أخوته.
وركزت الكاميرا على السيِّدة أوبراين وهي ترحِّب بابنها الأوسط ر.ل.، ولامست وجهَه متعجبةً من رؤيةِ ابنِها الميِّت بلحمه ودمه، وقبلت شفتي زوجها ومن بعدها تعانقوا جميعهم. وهمست السيدة أوبراين بصوتٍ خارجي يمثِّل مريمَ العذراء - مرة أخرى - خاتمةَ سطور الفيلم: «وهبتك إياه، وهبتك ولدي» بينما تردد جوقة برليوز «آمين، آمين»، ولا يُعلم ما إذا كانت تعني إبنها جاك أو ر.ل. (كُشف موت جاك في حادثٍ وهو ابن التاسعة عشرة). وفي مشهد ينضحُ بالنعمة عفا جميع أفراد عائلة أوبراين عن بعضهم، ختَمت لحظةُ الغفرانِ هذه الفيلمَ بتفاؤل، تفاؤلٌ يوعِزُ بضابطٍ كليٍّ للكون. ويُظهرُ المشهد قبلَ الأخير في الفيلم جسرًا يقطع سطحًا واسعًا من الماء، وهو ما قد يرمزُ إلى جهاد جاك في وصل نهجي والديه في العالم فضلًا عن مهنة جاك، وقبيل الختام سكنت الكاميرا على مقطع توماس ولفرد الفني "Opus 161"، وهو تجميعٌ شاملٌ خلابٌ متعدِّد الألوان استعرضه الفيلم لتمثيلِ الإلهي، ففي النهاية ما يرجعنا إلى الرب هي النعمة.
إن اختيار ماليك وضعَ زمانِ ومكانِ الفيلم مع عرضه لرؤيته عرضًا تاريخيًا صوفيًّا يبقيه تاريخيًا، فلا يمكن فهمُ الفيلم بهذا الوضع وفلسفة ماليك الثنائية - مع النبرة الجندريَّة - إلا بفحصٍ رصينٍ لسلوكِ تلك الحقبة عن الروحانية والجندر، فالمسلَّمات الجندريَّة المنطوية بليبراليَّة عائلِ الأسرة خصوصًا تقوِّض المصائِر الممكنةِ لآل أوبراين، حتى وهم يخوضونَ في أسئلةٍ لا تبدو لأجوبتها نهاية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

أ. معاذ أبو معطي
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا