مقالات

«حياة فيرونيك المزدوجة»: تهويدة الموت والذاكرة

تتكون حياتنا من تجارب الذاكرة والحكايات، حيث نتشارك رحلات مشابهة مع أشخاص آخرين يعيشون في أماكن نائية قد تفصلنا عنها بحار ومحيطات. تلعب الذاكرة دوراً مهماً في تشكيل هويتنا، كما يقول المخرج السينمائي لويس بونويل في سيرته الذاتية: «عليك أن تبدأ في فقدان ذاكرتك، ولو أجزاء صغيرة منها؛ لِتُدْرِكَ أنَّ الذاكرةَ هي ما يشكل حياتنا؛ فالحياة دون ذاكرة ليست حياة أبدًا. إنَّ ذاكرتنا هي اتساقنا، وتفكيرنا، وشعورنا، وأفعالنا، ومن دونها، فنحن لا شيء». هذا الوصف الدقيق في تشكيل مسار حياتنا كان واضحًا أثناء مشاهدة فيلم المخرج البولندي كريستوف كيشلوفسكي «Double Life of Véronique 1991».
بعد مشاهدة فيلم «حياة فيرونيك المزدوجة» أدركت أنَّ ماهيَّة الحياة الحقيقيَّة قابلةٌ للتأويل والتعاطف، وأنَّ الحياةَ مكانٌ ضيِّق جدًا، مكانٌ مكشوفٌ لا يخصَّ المرء وحده! عندما تجد نفسك تبكي في لحظةِ عزلتك، تذكَّر أنَّ هناك المئات من الآخرين يشعرون بنفس أسبابِ بكائك، سواء كان ذلك بسببِ الوحدة أو الحزن أو الفقد. وعندما تضحك، تأكد أنَّ هناك غرباء لا تعرفهم يشاركونك الضحك بسببِ ذات المواقف أو المشاهد.
هذا العالم أشبه بقريةٍ صغيرةٍ جدًا، قريةٌ يعيشُ سكَّانها بمشاعرَ وذاكرةٍ متوائمةٍ جدًا. في تلكَ القريةِ تكمنُ ماهيَّة الحياةِ كي تُصبِح مساحةً حرَّةً قابلةً للتعقيد، تُعرَض في شكلٍ فنيٍّ أو تُروى كمغامراتٍ خياليَّة، أو تتَّخذُ طابعًا جدليًّا معقدًا في مؤلفات الفلاسفة والمفكرين، بعيدًا عن بساطةِ رؤية المخرج البولندي العظيم كريستوف كيشلوفسكي. هذا المخرج قدَّم رؤيته للحياة في شكلٍ شعريٍّ رقيق، حيثُ يصوِّر الموتَ والحياةَ في أجواءٍ من المتعة والشغف، مع التركيز على المدنِ الباردة والموسيقى الأوبراليَّة الحزينة، كما في فيلم «حياة فيرونيك». كان لكيسلوفسكي القدرة الفائقة على دعوةِ المشاهدين إلى التحليلِ واستكشاف عالمٍ ضبابيٍّ نقي، مما يشجِّع حواسنا ومخيِّلتنا على السموِّ بالمشاعر. أفلامه تتَّسمُ بإمكانيَّةِ المشاهدةِ المتكرِّرة، وفي كلِّ مرَّةٍ ستكتشف منظورًا جديدًا لمعنى الحياة، وستجدُ نفسكَ محاطًا بتلكَ المشاهد الصامتة أو الغنية بالكلمات.

أنت لم تعد ذو كيان مكتمل، أنت ناقصٌ إلى الأبد!

يبدأ الفيلم بمشاهد حميمة تصور حياة فيرونيك، الشابة الجميلة المفعمة بالحب والعاطفة، التي تعيش بروح طفولية في محيط محدود داخل منزل خالتها، التي تظن أن الموت في سن الشباب هو قدر عائلتها. في تلك اللحظة، تستمع فيرونيك لخالتها بصمتٍ مع ابتسامةٍ غامضة، حيث تردِّد قائلة: «أشعر أنَّني سعيدة، ولست وحدي في هذا العالم»، وكأنَّها تشعرُ بوجودِ شخصٍ آخر يشاركها أحلامَها ولحظاتِها في هذا العالم الواسع. تتوالى الأيام مع مغامراتها وشغفِها بالغناء والموسيقى، وتظهر في الفيلم لحظاتٌ تقليديَّةٌ لعلاقةٍ عاطفيَّةٍ دافئةٍ وبسيطة، حيث تركضُ صباحًا إلى المسرح. ذات يومٍ تصادفُ في إحدى الساحات في مدينتها الباردة "أوسو" فتاةً سائحةً تركب الباص، وتلتقط صورًا للسيَّاح والعابرين بشغف. كان مشهدُ التأمَّل الأكثر تأثيرًا هو عندما تنظرُ إلى شخصٍ عاديٍّ بمشاعرَ فضوليَّة، حيثُ تراقب دون أن تعرف لماذا انجذبت لتلك الفتاة الفرنسية التي تشبهها إلى حدٍّ كبير، وكأنها رأت روحَها في شخصٍ آخر من عالمٍ مغايرٍ وبشغفٍ مختلف.
من ثمَّ تصلُ اللحظةُ الأخيرة من الحياة، حيث يتجلى فيها معنى الوجود في مشهدٍ ميلودراميٍ يلمسُ القلوب. تنبعثُ موسيقى حزينة تتناغمُ مع صوت فيرونيك الجذاب وهي تتألق على المسرحِ أمام حشدٍ من الجمهور، بفستانِها الأسود الفاخر وتسريحتها الأنثويَّة الرقيقة، مع لمسةٍ من أحمرِ الشفاه الزاهي، تغنِّي تهويدةَ الموت الكئيبة. في تلك اللحظة، يبدو كلُّ شيءٍ كأنَّه يفيضُ بجمالٍ فردوسي. تسقطُ فيرونيك ميتةً على خشبة المسرح، وكأنَّما المسرح هو مسرح الحياة ذاتها، بينما يقف الجمهور في صمتٍ مُرعب أمام جثَّتها الساكنة. يتداخل المشهد ليجسِّد مراسم دفن فيرونيك في رحلتها الأخيرة، ثمَّ يطير الحزن كرمادٍ متطايرٍ من مدينة أوسلو نحو باريس، لينسلَّ إلى قلب شبيهتها كما ينسلُّ الحبر في الماء. وداخل غرفةٍ شبه مظلمة، تستفيق شبيهتها بروحٍ حزينة، شاعرةً بأنَّها ستظلُّ وحيدةً عبر الأزمان.

رحلة الذاكرة

تبدأ الذاكرة في استيعاب لعبة البقاءِ في حياةٍ شبيهةٍ بالحياة الفرنسية، حيث تسيرُ الحياة على نحوٍ رتيبٍ وممل، وقد فقدت روحها المستقرة ولا تدركُ طبيعة ذلك الشعور المتجذر بداخلها. تدخل في تجربة الديجافو Déjà vu، وتعيش حالةً من اجترار التخيُّلات التي تعتقدُ أنَّها مرَّت بها في عالمٍ آخر وفي جسدٍ آخر. لم تكن مشاهد كيشلوفسكي مجرَّد مشاهد غرائبية، بل إنَّها تعكس اندماج روح الإنسان مع حياةِ إنسان آخر، مما يدفعنا للتأمُّل أثناء انغماسنا في إعجابنا بحياةِ شخصٍ آخر أو حتى في شعورٍ مفاجئ. لم أشاهد تجربةً فنيَّةً تُجسّد حالة الاندماج الإنساني كما فعلت عدسة كيشلوفسكي.

المشهد الاخير الزوال هو كل شيء في نهاية الأمر

تشكل الذاكرة جوهر الحياة، إذ تمكِّننا من عيشِ تجربةٍ كاملةٍ متكاملة، حيث تتشكَّل حياتُنا من خلال الحكايات والذكريات التي نحتفظُ بها. في المقابل، يُعتبر الزوال حقيقةً واضحةً في الحياة، كما يتجلَّى ذلك في صورةِ العجوز ذات الظهر المنحني، المرتدية ملابس بالية والممسكةِ بعصا خشبيَّة مهترئة، تسيرُ نحو طريقٍ خالٍ تغطيه الثلوج، بينما يُسمعُ صوت موسيقى جنائزية من وراء نافذةِ غرفةِ تعليم الموسيقى للأطفال. تتأمل العجوز، التي تشبه فيرونيك، بملامح باردةٍ قبل أن تندمج في فراغٍ لا نهاية له.

مخرج الجنون واللعانات الصامتة

عند مناقشة فلسفة كيشلوفسكي، نجد أنَّها تخلو تمامًا من فانتازيا الفرح، حيث يظهرُ البولندي بروحٍ نضاليَّةٍ وفلسفيَّةٍ خالصةٍ تتَّسم بالعدمية. تجوبُ أفلامه في أعماق النفسِ البشريَّة المحطَّمة، مستلهمةً من رحلة بلادِه المجنونة بهدوء. من خلال خلق شخصيَّاتٍ روائية، ينتقلُ المشاهدُ إلى عالمٍ يشبه قراءةَ روايةٍ محبوكة، حيث تتجسَّد المشاهد والصور في ذهنه وتُترجم على الشاشة الكبيرة. يتعمَّق كيشلوفسكي في الروح البشرية، مستخلصًا منها حالةً من التكيُّف مع الواقع كما عكسها في فيلم «كاميرا بوف»، و«ثلاثية الألوان» (أزرق، أبيض، أحمر)، وفيلم «فرصة عمياء» وغيرها من تجارب الحياة المؤلمة. تأخذنا عدسات كيشلوفسكي في رحلةٍ تعكسُ حالَ الإنسانِ المعاصر في متحف حياته المفتوح المرتبط ارتباطًا وثيقًا بتاريخ أجداده، في مواجهة الكوارث والحروب والأزمات الاجتماعية والسياسية عبر العصور، كما ورد في إحدى خطبه الإنسانية.
«يمرُّ كلُّ إنسان بتجاربِ التاريخ من خلال شخصيَّته وأخلاقِه ومشاعِره، حيث يعيشُ الأزمات والمحطات والمعارك. في داخل كلِّ فرد، يوجد متحفٌ يشملُ جميع مراحل التاريخ ونواقصِه، فالتاريخُ يتدفق في عروق الجميع عبر الزمن. هل هناك من يستطيع التحرُّر من تأثيرِ التاريخ؟ يحملُ الناس في حياتهم العديد من العقد والمشاعر التاريخيَّة المؤلمة التي تؤثِّر على أفكارهم ومشاعرهم، مما يجعلُ تصرُّفاتهم تبدو كأنَّها تعبيرٌ عن مشاعرِ الخوف والألم والحقد والغيرة من الآخرين».
توفي كيشلوفسكي في عام 1996، مخلفًا وراءه إرثًا عظيمًا من الأفلام التي تعكسُ رؤيته للحياة والعالم. من بين تلك الأعمال، تبرز قصَّة فيرونيك المزدوجة التي تركت بصمةً سينمائيَّةً لا تُنسى. بعد مشاهدة هذا الفيلم، ستتغيَّر نظرتنا إلى الحياة، بحيث ستصبحُ أكثر شاعريَّة، متأثرين بتجربة فيرونيك في عيش حياتين، تمامًا كما نعيش نحن بين الفنِّ وتراث العظماء، بينما تستمر حياتنا في مواجهة التحديَّات التقليدية والمخاطر التي تجرنا نحو واقعيَّةٍ مؤلمة.
موسيقى الفيلم من المشهد الاخير

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

نوف العوفي
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا