على الرغم من ندرةِ التفاعل بين الأدب والسينما في المشهد الثَّقافي العربي، تظلُّ العلاقةُ بين هذين الفنَّين مثارَ جدلٍ ومقارباتٍ مختلفة. ويمثل فيلم "فوق الرمال العربية" (2008) للمخرج الإماراتي مجيد عبد الرزاق حالةً خاصَّةً من هذه العلاقة، حيث يُظهر تأثير الانتماءِ الأجناسي للنصِّ الأدبي والتحوُّلات العميقة التي فرضها الوسيطُ السينمائي أو خصائص العصر أو طبيعة المتلقي.
في حالتنا هذه، لم يصدر الاقتباسُ عن عملٍ روائيٍّ صرف، بل من كتاب ويلفريد ثيسيجر (Wilfred Thesiger) الذي يوثِّق وقائع رحلته بين سنتي 1945 و1949 في الصحراء العربيَّة. فقد عبر الربع الخالي مرتين من الجنوب الغربي كي يستكشف مَواطن تفريخِ الجراد ضمن بعثةٍ علميَّةٍ بريطانية. وجعل رحلته هذه فرصةً ليصف الصحراء الأكثر قسوة في العالم. يحاول الفيلم، الذي يحمل العنوان نفسه، محاكاة هذه الرحلة الأدبية إلى حدٍّ بعيدٍ وتجسيد ما حفَّ بها من المغامرات عبر عدسة الكاميرا ضمن سياقٍ روائي، منبهرًا بالتلقائيَّة والبساطة اللتين يمنحهما العيش في الصحراء للمرء وواصفًا حياة البدو وقيمهم. فكانت لخصوصيَّة انتماء النصِّ الأدبي لجنس الرحلة تبعات جمَّة على مستوى تشكيلِ النص السينمائي. وعلى الرغم من أهميَّة العمل الفيلمي، من جهة ريادته على الأقل، لم يُدرَس بشكلٍ جاد للبحثِ في خصائصه الجمالية والدلاليَّة واستكشاف أبعادهما.
1- "فوق الرمال العربية" أو الكتابة ضمن شروط أدب الرحلة.
يبدأ ويلفريد ثيسيجر كتابه "فوق الرمال العربية" بتسليط الضوء على حياته في القرن الإفريقي في الفصل الأول "طفولةٌ وشباب بين الحبشة والسودان"، حيث يُظهر ميله للعيش ببساطة بعيدًا عن زيف الحضارة. قد يكون لمولده في منزل طيني في أديس أبابا عام 1910، حيث كان والده وزيرًا مفوضًا، أو لتجواله الاستكشافي في تلك المنطقة تأثير كبير في هذا الاتجاه. ينتقل بعد ذلك إلى سعيه للانضمام إلى قسم مكافحة الجراد في الشرق الأوسط، بحثًا عن استكشاف جانب مختلف من الصحراء لم يختبره في السودان، وجوانب جديدة من حياة البداوة لم يعرفها في القرن الإفريقي، وذلك في الفصل الثاني المعنون "من ظفار تبدأ الرحلة". ويصف انخراطه في حياة البداوة مع أفراد قبائل (المشقاص) جنوب الصحراء العربية، التي تضم بدو المناصير وبني كثير والرواشد، حيث ارتدى ملابسهم، وتناول طعامهم، وتحدث لغتهم.
كالمعتاد في كتب الرحلات، يعتمد الكاتب أسلوبًا قصصيًا يركز على الوصف لتوثيق مشاهداته. ورغم التزامه بعرضِ الحياة الصحراويَّة البدويَّة بالقدر الأوفى من الأمانة، لم تخلُ كتابته من نبرةٍ ذاتيَّةٍ لا تحضرُ في ضميرِ المتكلِّم الذي يعتمده في نقل الأحداث فحسب، ولا في عرض وجهةِ نظره الشخصيَّة فقط، وإنَّما في كتابته التي لا تخلو من أسلوبِ عاشقٍ متأمِّلٍ نحو قوله "تتجمَّع سحابة ويتساقطُ المطر، فيعيشُ الناس وتتبدَّد الغيوم بلا مطر، فيموتُ أناسٌ وحيوانات. ففي صحاري جنوب الجزيرة العربيَّة لا يوجد نظامٌ للفصول. فلا صعود ولا هبوط في النسغ، بل قفار خالية حيث تشيرُ الحرارة المتغيِّرة وحدها إلى مرور السنين". يعبر الكاتب عن إعجابه بالقيم البدوية مثل النبل والشجاعة والكرم، ويستعرض إنجازاتهم التي تشهد على ذلك. بشكل عام، يقوم المؤلف بتوثيق الخصائص الاقتصادية والدينية والأخلاقية لحياة البدو. فقد جمع بين الجوانب الأدبية الجمالية والتاريخية الاجتماعية، إضافة إلى رؤيته الشخصية التي تُقارن بين وجهة نظر الحضارة الغربية في الحياة بكافة تجلياتها والرؤية البدوية الإسلامية. وبالتالي، كان وفيًا لخصائص أدب الرحلة.
2- العبور من العمل الأدبي إلى السينما: الاقتباس الصّعب
فيلم "فوق الرمال العربية" يكشف عن شجاعةٍ فنيَّةٍ في مواجهة تحدِّيات نوعٍ أدبيٍّ صعب، حيث يتتبَّع رحلةَ الكاتب في الصحراءِ القاسية. هذه الميزة تعزِّزُ قدرةَ الفيلم على جذبِ انتباه المشاهدين أثناء متابعتهم لمغامرةِ ويلفريد ثيسيجر. ومع ذلك، لم يكن الانتقال من العمل الأدبيِّ إلى السينما سلسًا بشكلٍ كامل، إذ برزت قضايا حقيقيَّة تتعلَّق بطبيعةِ العمل الأدبي من الناحيتين الفنيَّة والتوثيقيَّة، فضلًا عن الجانب الوجداني. يؤدي الاختلاف في الوسائل بين العملين وغياب نوعٍ مشابهٍ لأدب الرحلةِ في السينما إلى استخدامِ المخرج لأسلوب الوثائقي - الروائي، وهو نوعٌ هجينٌ يجمعُ بين ميزات الفيلم الوثائقي والفيلم الروائي. فيبدأ الفيلم من أحداثِ رحلة المستكشف ويلفريد في الصحراء العربية (على غرار التحضيرات للرحيل والتحديَّات التي واجهها)، ويضيف لمسةً من الخيال، مُعيدًا تشكيلَ المشاهد وتصميمَ الأماكن مُعتمدًا على ممثِّلين يقومون بتجسيد أدوار الأفراد الذين شاركوا في هذه الرحلة. وأثناء تناوله الأحداث، يدمجُ بعض عناصر الخيال ليثري قصَّة الرحلة في الصحراء العربية، بالإضافة إلى القصصِ الفرعيَّة المرتبطة بها، مثل الحدث الرئيسي (بعثة الدكتور أفروف لاستكشاف أماكن تفريخِ الجراد)، مع التركيز على المكان (الصحراء العربية، خاصة الربع الخالي) والزمان (السنوات الخمس الأخيرة من منتصف القرن الماضي).
لم يكن الفيلم وثائقيًا صرفًا، رغم نزعته إلى دراسة الحياة الصحراويَّة وعرض عديدِ الوثائق كتلكَ الفيديوهات التي تعرضُ عملية الصيدِ بالاعتماد على الطيورِ الجارحة أو الصور التي جمعته بالشيخ زايد، ولا روائيًا تمامًا. ولم يعتمد على السيناريو التقليدي حيث تتطوَّر الأحداث من خلال تقديمِ عناصر القصَّةِ الأساسيَّة وتوفيرِ المعلومات اللازمة للجمهور لفهم الشخصياتِ وتأويل معاني الحكاية. كما أنَّ الصراع بين القوى المتنافسة أو بين التوجهات المتنوعة داخل الشخصيَّةِ نفسها لا يتصاعدُ بشكلٍ ملحوظ، وينتهي الفيلم بطريقةٍ تحدِّدها رؤية المخرجِ دون حلٍّ نهائي للصراع. كما لم تصل القصة إلى مستوى السرد المعتمد، حيث كانت القصص الصغيرة غير مترابطة بشكلٍ سببي، ولم يكن للأحداث السابقة تأثيرٌ على الأحداثِ اللاحقة أو توجيهها. لذا جاءت الأحداث مسطَّحةً تغلب عليها العلاقات الانضمامية التي تقومُ على الجوار وتكتفي بملاحقة المستكشف ورفاقه من مكان إلى آخر دون حبكةٍ تؤجِّج التشويقَ أو تحبسُ الأنفاس.
الجديرُ بالذكر أيضًا أنَّ الشخصية الفيلمية افتقدت عناصرَ أساسية مثل تاريخها، وعمقها النفسي، وأهدافها من هذه الرحلة، بالإضافة إلى العقبات التي تواجهها. فحاولت مشاهد الفيلم أن تعرض بصريًا ما أوردَ الكتاب من الوقائع. وكثيرًا ما كان الفيلم يقفزُ على مجموعة من المقاطع السرديَّة الهامشيَّة ذات البعدِ التوثيقي أكثرَ ممَّا هي ضروريةٌ لبناء الحكاية الكبرى، كأن تختزلَ صفات الشيخ سالم الطمطائم، المذكورة في النص الأدبي، بالتركيز على تقدمه في العمر، وحيويَّته، وزواجه من امرأة جديدة، ومهارته في الصيد... قد نستنتج، بشكل قد يكون تعسفيًّا، أنَّ الفيلمَ يميلُ إلى الطابع الوثائقي مع لمسةٍ من الخيال، فهو يعكس استجابةً لنوع من الذوق التلفزيوني أكثر من كونه بحثًا جماليًا بصريًا.
3- أكثر من نصف قرن بين العملين: أيُّ وقعٍ لزمنِ التلقي
يختلف زمن إنشاء العملين اختلافًا عميقًا. فقد ألَّف ويلفريد ثيسيجر كتابَه ومنطقةُ الخليج العربي ما زالت تحتفظُ بفطرتها الأولى قبل ظهورِ الطفرةِ النفطيَّة. نظر إلى الصحراء بعينِ الغربيِّ المسيحيِّ المتأثِّرِ بالمدنيَّة، حيث اكتشفَ قيمة العيشِ بصفاءٍ وفطرةٍ في بيئة الصحراء. بالتالي جاء المؤلَّف مدحًا للبداوة لا يخلو من مقاربة سوسيولوجيَّةٍ ذات عمق أنتروبولوجي، فيصوِّرها باعتبارها أسلوبًا في الحياةِ ومنظومةً من القيم يُعليان من البساطةِ والتلقائيَّة اللتين تحفظان إنسانيَّة الإنسان وهو يصارع الفضاء المعادي لضمانِ البقاء.
يهدف النص إلى إدخال القارئ الغربي في عالمٍ مفعمٍ بتجربةٍ وجوديَّةٍ فريدة، مستندًا إلى الأساليب البديعة التي يتَّبعها أهلُ الصحراءِ في التأقلم مع قسوة بيئتهم. كذلك يُبرز النص المهارات المتنوعة التي اكتسبها هؤلاء لضمان استمرار حياتهم، مثل الصيد والقيافة والترحال بحثًا عن الماء، مما يعكس خصائصَ الحياة البدوية الاقتصادية التي ترتكز أساسًا على الزراعة والرعي. لمواجهة الظروف القاسية، طور سكان الصحراء مفهومًا يعرف حاليًا في علم الاجتماع البدوي بـ "كفاية الحاجة"، حيث كانوا يكتفون بما يلبي احتياجاتهم الأساسيَّة من الطعام والملابس ورفاهية الحياة بشكلٍ عام، دون الحاجة للمزيد. وحاول أن يفسِّر عدم اعتناء سكانها كثيرًا ببناءِ المدن أو تطويرِ عمرانها. فالحياة المدنية تناسبُ حياة الاستقرار والثبات في مكانٍ ما، أما هم فجوَّالون يقتفون أثر الماء والكلأ وحيث وُجدا كان الوطن.
لم يجرِ الانتقالُ إلى الصيغة الفيلمية إلا بعد مرور أكثر من خمسين عامًا على ظهور العمل الأدبي. خلال هذه الفترة شهدت منطقة الخليج العديد من التغيرات، فقد اجتاحت مظاهرُ التحضُّرِ والمدنيَّةُ المنطقة، ممَّا أدى إلى تراجعِ البداوة واحتجازها حتى كادت تختفي. ولا شكَّ أن للسياق الحضاري وقعه. لذلك بدا المخرج مهووسًا بفكرةِ توثيق حياة البدو وتصوُّراتهم وقيمهم باعتبارها جزءًا من الذّاكرة وعمل على حفظها. كما بدا مأخوذًا بصورةِ هذا المستكشف الذي يتركُ طيبَ العيش في الغرب ونعومته ويضرب عصا الترحال في الرمال العربية الفظَّة ويبذلُ في ذلك شطرًا من حياته يعدُّه الأكثر هدوءًا وسكينةً، مادحًا القيم البدوية من زهدٍ وصبرٍ على مكاره الطبيعة وكرم وحسن الضيافة، منتبهًا إلى أنَّ هذا التضامن بين الأهالي يعكس إيمانًا عميقًا بأنَّ الخلاص في هذه الظروف القاسية لا يمكن إلا أن يكون جماعيًّا.
4- المعالجة الفيلمية والفرصة الضائعة
لا شكَّ أنَّ عبورَ الربع الخالي وحده كفيلٌ بجذبِ المتلقِّي وانتزاع فضولِه ليتابع مشاهدة الفيلم بحماسةٍ وانبهار. ولا ننكرُ من هذه الناحية الجاذبيَّة الخاصَّة للفيلم. لكنَّ هذه السمة وحدها لا تكفي لترتقي بعملِ مجيد عبد الرزاق إلى مستوى الإبداع السينمائيِّ المتميِّز. فقد كان السيناريو مفتقرًا إلى الإحكام الذي يتحرَّر من فكرة الأمانة للنصّ الأدب، فلا يتعقبه آليًّا بقدر ما يبحثُ عن الحبكةِ الناجعة والمؤثِّرات الدراميَّة الملائِمة، كأن يعمل على خلق عقباتٍ يواجهها عابرو الصحراء ويجعلنا نعيشها معهم فنتطلَّع إلى تخطِّيها كما يتطلَّعون. ومن شأن هذه الإضافات التي تتماشى مع الفنِّ السينمائي أن تستدرج المتفرِّج ليتماهى مع الشخصيات. وعوض أن تخبره بسحرِ الحياة في الصحراء اللانهائية، تجعله يغوص معها في تلك التجربة الروحية ليكتشفها في ذاته كما اكتشفها ويلفريد ثيسيجر. وقديمًا قال العرب: "ليس الخبر كالعيان".
لم تولِ المعالجة الإخراجية الأخيرة أي اهتمام لجمالية الصحراء، حيث لم تسعَ إلى انتزاع لوحات فنية رائعة كما فعل فيلم "المريض الإنجليزي" لأنطوني مينغولا Anthony Minghella، الذي تم تصويره في الصحراء التونسية عام 1996 على سبيل المثال. بل ولم تلتفت أيضًا إلى قدرتها الفائقة في تجسيد دلالاتها وتحويلها إلى رموز، كما تجلّى في أعمال الناصر خمير. فتأخذ معنى الشقاء في رائعته "الهائمون" حين يتوه الرجال في ربوعها بعد أن فرَّطوا في الأندلس، حيث الماضي السعيد والفردوس المفقود. ويتغيّر معناها في "بابا عزيز" فتأخذ معنى الاتساع والامتداد والانفتاح والرؤيا واتساع الأفق. وتكون الرحلة فيها بحثا عن الكمال الذي هو الله كما في الاستعمال الصوفي عامة.
ولا تدرك هذه المعالجة بجلاءٍ أنَّ النصَّ الأدبي كان يعمل باستمرارٍ على خلقِ مؤثِّري الدهشة والانبهار في نفس القارئ، وعلى دفعهِ إلى التأمُّل لينتهي إلى ضآلة الإنسان أمام امتدادِ الكون وعظمته. وهكذا لم تستغل فعاليَّة اللقطة الكبيرة التي تكشفُ عن المشاعرِ من خلال تعابير الوجه، ولا فعاليَّة اللقطة العامة التي تعرضُ اتساع الكون، ممَّا يدفعُ المُشاهد للتفكير في علاقة الإنسان بمكانته في هذا الكون. يحدثُ كلُّ ذلك في سياق الصراع بين العزيمة والصبر والإيمان بالبقاء، في مواجهة الطبيعة القاسية والموت الذي يحيط به حيث تفتقرُ الحياةُ إلى أسبابها.
5- فوق الرمال العربية وبعد؟
تشهد السينما الخليجية اليوم حراكًا معتبرًا وتحاول أن تتداركَ الزمنَ الضائعَ بعد أن تأخَّرت عن نظيراتها العربية طويلًا. ولكن في غمرة الحماسة للراهن، لا بدَّ من العودة إلى الوراء بغية التأمُّل في منجزِ الماضي بعينٍ ناقدة. وضمن هذا الأفق ساءلنا فيلم "فوق الرمال العربية" الذي يمثِّل جزءًا من الذاكرة السينمائيَّة الإماراتية وحاولنا البحث في خصائصِه الإنشائية، بعيدًا عن الأحكام الانطباعيَّة أو القراءاتِ المُجاملة. وباعتباره حجرًا في صرح هذه السينما، لا بدَّ لأفلامِ اليوم أن تأخذ منه حسناته وتعمل على تجاوزِ هناته.
تشير هذه المعالجة إلى أهميَّة فصلِ الاقتباس السينمائيِّ عن الأدب من ثنائية الأمانة والخيانة. فقد بدا المخرج مقيَّدًا ببناء العملِ الأدبيِّ وخطِّية أحداثه. ومع ذلك لم يُفلح في خلقِ صيغةٍ سينمائيَّةٍ مُطابقةٍ للعمل الأدبي. فكلُّ ما انتهى إليه هو أن حوَّل جنسَ الرحلةِ في النصِّ الأدبي إلى فيلمٍ وثائقيٍّ-روائي دون أن يرمي إلى ذلك. كيف يمكنه أن ينجح، واللغة السينمائية وقوانين تكوينها تختلف اختلافًا أساسيًا عن تلكَ الموجودة في اللغة الأدبية؟ لذلك، يصبح من الصعب جدًا إجراء اقتباسٍ "أمين" يشبهُ ترجمةَ النصوص أو تحويل الأموال من عملةٍ إلى أخرى بعد عمليَّةِ حسابٍ آلي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش