مقالات

نقض رواية «الجريمة والعقاب» في مسلسل «أنت»

في مونولوج داخلي، يبرز كل من شخصية راسكولنيكوف في رواية دوستويفسكي «الجريمة والعقاب» وشخصية «جو» في مسلسل «أنت» You، موضحين ملامح الشخصية الانعزالية التي تميل إلى الحوار مع نفسها. راسكولنيكوف يُجري حوارات داخلية مكثفة، ولا يُظهر ميلًا للتواصل مع الآخرين. من ناحية أخرى، يُقدَّم «جو» في الحلقات الأولى من المسلسل برفقة صديق وحيد، طفل لم يتجاوز السابعة من العمر، مسلطًا الضوء على العزلة بوصفها محورًا رئيسًا في مسلسل «أنت».

العزلة تتجلى في الطفل، و«بيك»، و«جو»، وكذلك في «الجريمة والعقاب»، بدءًا من راسكولنيكوف، والسكّير الذي يلتقي به، وحتى مؤجرة البيت. هذه العزلة المسيطرة، التي يُعبَّر عنها عبر المونولوج في سرد الأحداث، تجذب المتابع إلى استكشاف العوالم الداخلية المعقدة للشخصيات وتنافرها مع المجتمع، مما يجعل السرد، سواء في السينما أو الرواية، بمثابة كاميرا تركز على شرخ عميق في النسيج الاجتماعي.

يؤذي هذا الشرخ المجتمعَ في كل من المسلسل والرواية، لكن المجتمع نفسه هو أحد مسببات هذا الشرخ، فإن «جو» قد عاش طفولة قاسية ومعنّفة نسبيًا، وراسكولنيكوف لم يستطع سداد الإيجار أو التكفل بحياته، لكن المسلسل لم يشأ -رغم هذه الصفات المشتركة- مجاراة الفضاء السردي لدوستويفسكي، فهو يتشارك معه في الجريمة لكنه يختلف معه في العقاب، ولو قُدِّر للمسلسل أن يحمل عنوانًا على غرار رواية دوستويفسكي لكان «الجريمة دون عقاب» باعتبار أن الضمير هو العقاب الشخصي لمرتكبي جرائم القتل، كما هو واضح في الرواية. 

لكن الرواية حين أُصدرت في ستينيات القرن التاسع عشر لم يكن يُلقى بما يُعرف الآن بعلم الإجرام العصبي أي اهتمام، وهو حقل يتصور -حسب دراسات علمية- أن الدماغ هو أحد المشاركين في جريمة القتل، وقد يسبب هذا الرضى التام عند القاتل، ويظهر ذلك واضحًا في جرائم الاغتصاب والقتل التي يمارسها القتلة المتسلسلون، فالقاتل «جو» لا يعذبه ضميره إطلاقًا بعد قتله لحبيب «بيك»، بل على العكس، فإنه يمارس حياته بكل هدوء وحماس للتودد إلى «بيك»، كأن جريمة القتل مسألة عادية جدًا، كأنه أراد القول لراسكولنيكوف: «أنا لست من المجرمين الذين تتحدث عنهم» عندما قال هذا الآخر وهو يُحدّث نفسه: «فجميع المجرمين إنما يشعرون لحظة تنفيذهم جريمتهم بنوع من انهيار الإرادة وفقدان الرأي السديد (...) في الوقت الذي يكون فيه المرء أحوج إلى العقل والحكمة والحذر»، فـ«جو» لا يحتاج إلى الحكمة والحذر لأنه أصلاً لم يُعانِ من أي انهيار نفسي، وساهمت معه بذلك الطبيعة الصوَرية للمشهد السينمائي، حيث بدا أن المشهد لم يبالِ بتلك الجريمة على اعتبار أنه امتدادًا للصوت الداخلي لـ«جو»، فبرزت مظاهر الحياة الطبيعية بألوانها الزاهية والمُشرقة، على عكس «الجريمة والعقاب»، فالمشهد السردي هناك معتم وبائس؛ الغرفة قذرة، الشخصيات رثة، الظلام في كل مكان، وكان هذا تبعًا لحالة الشخصية الانطوائية والقلقة.

بدا واضحًا أن راسكولنيكوف يستمد تشريع القتل من مصادر كثيرة ومُقنِعة برزت في المقاطع الأولى من الرواية، وهي أولاً بؤسه الشديد وفقره، ثم عجزه عن مساعدة أمه في حين يتلقى منها المساعدة المالية مع اعتذار يجعله أكثر عجزًا، وصولاً إلى الشاب الذي يتحدث أمامه بأنه من العدالة قتل عجوز تمتلك مالاً وهي بالتأكيد على مشارف الموت، لإنقاذ أرواح شابة أخرى، وأن «هذه الآراء تنبت في ذهنه هو»، أيْ راسكولنيكوف. 

والأمر على النقيض تمامًا في «أنت»، فليس هناك أي مسببات اجتماعية. إن «جو» يَقتُل لأسباب باردة، لا يمكن لها إقناع المُشاهد كما هو الحال عند راسكولنيكوف، فأغلب قُرَّاء هذه الرواية يُجمعون على تعاطفهم مع القاتل لسببين، الأول أنه صادف أن كانت الدوافع خارجة عن إرادته، والثاني ضميره الذي عذّبه بقسوة وهوى به إلى أعماق العذاب النفسي. وصحيح أن الأسباب لا تبدو منطقية مع «جو»، لكن يمكن تفهمها في سياق طبيعة نفسيته، كما لو كانت مُهمَّة أشبه بالتخلص من القمامة أو مشاجرة ضرورية مع أحدهم، لنستنتج أنه ليس بالضرورة أن يكون الضمير حصيلة كلية للتنشئة الثقافية، فـ«جو» ينشأ في إحدى مدن الولايات المتحدة في القرن الواحد والعشرين، وهو مكان يتسم ضمنيًا بمعاداته الكلية لجرائم القتل، حتى تحت أشد المبررات إقناعًا، ولكن هذا لا يجدي نفعًا، فحسب إيريك فروم، ‏فالإنسان ليس صحيفة بيضاء من الورق يمكن للثقافة أن تكتب عليها نصّها، بل إنّه كيان مشحون بالطاقة ومبنيّ بطرائق معينة. 

وإذا كانت رواية مثل «الجريمة والعقاب» تُرى أحيانًا على أنها دراسة مُفصَّلة لدوافع القتل، خصوصًا أنها كُتبت من قِبَل أهم الروائيين الذي قرأوا نفسية الإنسان، فإن مسلسل «أنت»، يرى نموذجًا آخر لدوافع القتل، إذ يجب الإشارة إلى أن كلاً من المسلسل والرواية لم يقرآ الإنسان القاتل من زاوية شذوذه عن القاعدة، ففي الرواية تحضر عديد من الأصوات التي لها مبرراتها لجريمة القتل، وفي المسلسل تظهر إحدى عشيقات «جو» لمشاركته جرائم القتل الباردة، لذا يمكن القول بأن المسلسل أراد تسليط الضوء على دافع اعتبره رئيسًا في جريمة مثل القتل، وهو الخلل الدماغي، ليس باعتباره حالة نادرة، إنما أحد المسببات التي لا يمكن إغفالها. 

ولكن، على نحو مُفصّل، لا يفتقر «جو» إلى العاطفة، فهو يشفق على صديقه الطفل، ويحب «بيك» إلى درجة كبيرة ويحاول الدفاع عنها أمام حبيبها الذي قتله، وكذلك راسكولنيكوف يدافع عن فتاة ثملة وممزقة الملابس في الشارع، ويعطيها من ماله رغم امتلاكه لقليل منه، وبمواقف أخرى تبرز طبيعته العاطفية، فما أراد المسلسل والرواية قوله هو أن القَتَلة لا يمكن أن يكونوا غير عاطفيين، لكنهما ما زالا مختلفَين على المسبب الرئيس للجريمة، فـ«جو» يناقض تمامًا راسكولنيكوف، إذ يحظى بحياة جيدة ويدير مكتبة ولديه شقته الخاصة التي لا يقلق من دفع إيجارها، ويعاني في طفولته معاناة ليست بتلك التي يمكن أن تصبح مبررًا للتحول الغريب في نفسيته، حيث أراد المسلسل إبراز سطوة الدماغ أو العامل المادي البيولوجي على أي حالة أخرى، فـ«جو»، رغم حياة طفولته القاسية، يقرأ ويمتلك معرفة كبيرة، لكن المعرفة والثقافة في حالة مثل حالة «جو» لا يمكنها إلا أن تصير مصدرًا معرفيًا لكيفية تحليل جثة الشخص الذي قتله، وكذلك تحليل شخصية «بيك» بوسائل غير أخلاقية، فهو إذن لا يستمد مشروعية القتل من أي ظروف قاسية أو مصدر ثقافي، إذ كان يمكن أن يكون جنديًا تابعًا لإحدى الجهات المتعصبة، أو معتنقًا لأي طائفة متطرفة، لكن الدافع يصنعه قليلٌ من طفولته القاسية وكثيرٌ من داخله المتمثل في طبيعته البيولوجية.

وهكذا إذن اشتركت الرواية والمسلسل في ثيمة العزلة، ولكنهما لم يشتركا في وجود الضمير باعتباره عقابًا، وكذلك في المسبب والدافع لجريمة القتل، ولم يرغب المسلسل في تصوير «جو» بوصفه حالة شاذة، وأرادت «الجريمة والعقاب» توضيح أن بؤس الحياة هو دافع مشترك بين شخصيات عديدة لتبرير جرائم القتل، كما أن المسلسل أغفل تأثير البؤس على حثّه لجريمة القتل، وأغفلت الرواية دور البيولوجيا في تشكيل تصوُّر القاتل عن جريمة القتل، لتبدو الرواية والمسلسل طرفي نقاش عميق موضوعه واحد، هو جريمة القتل، وتصوُّرهما حوله يتفقان فيه مرة ويختلفان أكثر من مرة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

عبده تاج
April 29, 2024
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا