جاء من ضمن عروض مهرجان البحر الأحمر الفيلم الإيراني «السادسة صباحًا» للمخرج مهران موديري، والذي يحكي قصةً بسيطة، إلا أنها تأخذنا إلى مناطق بعيدة من حيث توجهاتنا الفكرية والإيديولوجية وأثرها على الواقع. إن الإيديولوجيا، بوصفها نسقًا من الأفكار الشاملة والكلية عن العالم والحياة والعيش، يمتد أثرها على الفرد والمجتمع والإنسان الكوني. بل أكثر من ذلك، يمتد هذا الأثر على الطبيعة التي نعيش فيها، كما نشهد ذلك من خلال قضايا تغير المناخ والتلوث البيئي، بل وحتى قضايا حقوقية مثل حقوق الحيوان والتربة والأشجار وغير ذلك. لا شك بأن لفظ الإيديولوجيا استهلك كثيرًا حتى يصعب ضبطه، فالمعنى المتداول يشير إلى معنى معين ومحدد بدقة؛ أي بوصفها الأفكار الدوغمائية والشاملة لكل قضايا الحياة وما بعد الحياة أيضًا. لقد تطور هذا اللفظ مع الفلسفات الماركسية كما في كتاب ماركس وانجلز الشهير «الايديولوجيا الألمانية» ولو دقّقنا -في هذا السياق- دَلالَةَ هذه المفردة، لوجدناها تعني أمرين، وتحديدًا من بعد ظهور «مدرسة فرانكفورت» مع أدورنو ودوركهايم، بما صار يسمى النظرية النقدية مقابل النظرية التقليدية. إن المعنيين اللذين يضبطان دلالة هذه المفردة نوعًا ما هما «التاريخانية» و«الفعل» أو «البراكسيس»، بمعنى آخر لم يعد من الممكن التحدث عن أفكارٍ عابرة للزمن أو ما فوق الزمكان، أي بتعبير آخر أفكارًا أزلية.
فالحفلة التي تُقام لسارة من أجل سفرها لكندا للدراسة لمدة ثلاث سنوات، تقع أحداثها في منزل صديقتها. عبّر المخرج هنا بطريقة مُبالغٍ فيها، من خلال الديكور والأزياء، عن صراع الأجيال، حيث نرى لوحات معلقة «لمايكل أنجلو» و«فان غوخ» والصورة الشهيرة «لمارلين مونرو» وهي تبتسم نحو الأفق. نعم، هذه الحفلة العصرية الطبيعية ستتحول إلى كارثة وإلى مأساة وإلى سحقٍ كلّي لكرامة الإنسان! إن هذا الصراع بين التقدم والرجعية، هو صراع بين الإيديولوجيا والتحديث المستمر، أو بعبارة فلسفية صراعٌ بين التزمّن والأبدية. حفلة أصدقاء يُعبّرون بكل وضوحٍ من خلال ثقافتهم عن ضعف القيم القديمة وعدم جدواها وأن الزمن ببساطة قد تغير واختلف. سارة، يأتيها القبول للدراسة في الخارج، فتُقام حفلة من أجل توديعها، إلا أنها لم تكن تدري بأن رصاصة الإيديولوجيا ستدمر هذا الحلم تمامًا، فقط لأن مجموعة من البشر يعتقدون بأنك على خطأ وأنهم يملكون تدبير مستقبلك وعيشك وهُويتك! إذن، الأفكار لها «زَمَكانٌ» لا تخرج عنه، وتعميمُ ذلك هو ضربٌ من العنف والقهر. أما الجزء الآخر فهو الفعل أو البراكسيس، بمعنى أن الأفكار التي لا تنعكس على الفعل والتطبيق لا تستحق أن يُنظر فيها؛ فما فائدة منظومة أفكارٍ لا تزيدك إلا قهرًا وتعاسة وظلمًا للآخرين والكون الذي تعيش فيه؟ كما عبّر ماركس بوضوح: «الفلاسفة يفسرون العالم ونحن نريد أن نغير العالم»، فلا يكفي أن نعتقد بأن هذا حقٌ وذاك باطلٌ فحسب، بل هل تنسجم هذه الأفكار مع الحياة وتزيدنا كرامةً وغبطة؟
حين تصير الفكرة طلقة مسدس:
من الطريف أننا -بوصفنا مشاهدين- تعودنا منذ هيمنة السينما الهوليودية على نوعٍ محددٍ من أفلام الرعب التي لها جمهورها الواسع ولا تقل حرفةً وجمالاً عن غيرها، إلا أن الرعب -رغم ذلك- يأتي بأشكالٍ عدة فإما أن يكون ثمة قاتلٌ شرس، أو «زومبي» أو «دراكولا» أو فايروس ينتشر في المدينة أو حتى مسخٍ عجيب، هذا هو الرعب المألوف. لكن المعادلة مع فيلم «السادسة صباحًا» تختلف تمامًا، فالرعب هنا يأتي من شرطة الآداب!
يحتفل الأصدقاء بسفر سارة، فيُغنّون ويتسامرون، هذا المشهد الطبيعي سرعان ما يتحول إلى جريمة وإلى كارثة، ومن ثم إلى موت حلم سارة. دون مبالاة، تقتحم شرطة الآداب الحفلة بمشهد بشع، وكأنهم يملكون صلاحية تحديد قيمة الخير والشر ومفاتيح الجحيم والنعيم. يتم القبض على الجميع بتهمة الاختلاط وشرب الخمر وتُحبس سارة داخل حفرة التكييف! حتى لا يموت حلمها بسبب مظهر من مظاهر التعبير الطبيعي؛ الاحتفال لأجل توديع صديق. إلا أن الشرطة تُغلق مدخل الشقة ببابٍ من حديد، مما يعني أن سارة ستبقى عالقةً داخل الشقة ولن تلحق طائرتها. فتتصل بأخيها لينقذها، وهنا تتصاعد الأمور، حين يرفض عامل المفاتيح فكّ الباب، ويتدخل الجيران ويتصلون بالشرطة. ما حدث بعد ذلك هو قهرٌ مضاعف لكرامة الأخ وهو يشاهد أخته تتوسل الشرطي جاثيةٍ على ركبتيها من أجل اللحاق بالطائرة. إنه موقف صعب يقود المرء للجنون، وهذا ما فعله الأخ حينما سحب المسدس من الشرطي وهدّد بالقتل ما لم يطلقوا سراح أخته لتحقق حلمها البسيط. هذا الفيلم هو اختبارٌ حقيقي للإيديولوجيا عندما يضعها المخرج على محكِّ الفعل والسلوك. فما نراه هنا هو تداعيات الاعتقادات الجازمة بأننا وحدنا من نملك الحق، بينما من يختلف عنا فهو الباطل بالضرورة. وفي مشهدٍ بديع يقف الأخ ليُسلِّم المسدس بعد مفاوضات عدة، تأتي العدسة لتصور لنا لوحة مايكل آنجلو «يد الرب» وهي تمتد لآدم. يضع المسدس على راحة يده ويقدمه ببطء، ثم تأتي طلقة القناص من النافذة الجانبية لتخترق جمجمة أخيها. إلا أن هذا لم يحدث فعلًا، بل هو ما تخيّلَته سارة في ذهنها، وهذه اللفتة الإخراجية تُعبّر بوضوح عن رمزية الأيديولوجيا بوصفها «رصاصةً» تخترق كل الأحلام وتطرحها أرضًا. هنا وادي الأحلام الميتة، وصرخة مُدوّية تأتي من جيلٍ ضائعٍ ومفقود، أو بلُغة فوكو ثمة جيل يُؤرخ له من خلال الصمت، فقد جُرّد من كل شيء، وما بقي إلا أن ينتظر الرصاصة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش