المقدمة:
هل الشر تافه؟ عادةً ما نفهم التفاهة بوصفها ظاهرةً أخلاقيةً أو للدقة ظاهرة تعبر عن طبيعة سطحية كأن نقول فلانٌ تافه بمعنى أنه يتحدث ويسلك في الحياة طريقًا عشوائيًا يخلو من القيمة، أو نقول عصر التفاهة أو حفلة التفاهة، فالتافه يأتي بمعاني عدة تحقيرية في السياق العربي تحديدًا، لذلك عندما نطرح سؤال: هل الشر تافه؟ لن يُفهم كما فُهم في سياقه المسيحي كما كتبت عنه الفيلسوفة «حنة آرنت» في كتابها «إيخمان في القدس» وقد يُقال لك: كيف تجرؤ على وصف الشر بأنه تافه وهو لصيق الألم والمعاناة؟ حسنًا، كل هذا معقول إلا أنه في السياق المسيحي والفلسفي، بشكل عام، لا يُقصد بسؤالٍ كهذا: هل الشر تافه؟ بمعنى أنه يخلو من القيمة أو لا يستحق عناءَ البحث أو التحدث عنه بل الأمر مختلف تمامًا. عند وضع السؤال في نظامه المعرفي والدلالي الصحيح، يأتي سؤال: هل الشر تافه؟ كإعتراضٍ على سياق طويل من ترسيخ مفهوم الخطيئة الأولى لآدم لدى المسيحية، بمعنى أن الإنسان الأول مال للخطأ ومن ثم تأتي دلالة الخطيئة الأولى بوصفها التعبير الأصلي عن كون الشر وفعل الخطأ عميقٌ في الإنسان وأنه فعلٌ أصلي، كأن نقول السيارة من طبيعتها أنها تعمل على طاقة أو أن لها أربع عجلات، كذلك نقول الإنسان من طبيعته أنه شرير فهو ليس «حيوانًا ناطقًا» بل «حيوانٌ شرير»، هذا المفهوم -على بساطته- طرحته حنة آرنت كنقد جذري لتاريخ الأفكار غربًا وشرقًا يجعل العقل في مركز السيادة، ومن ثمّ يتخيّر الإنسان بين قيمتي الخير والشر بطريقةٍ مباشرة، لذلك تذكر آرنت ذلك التعريف الذي وضعه أفلاطون -في محاورة السفسطائي- للتفكير بوصفه حوار الذاتِ مع ذاتها، ومن ثم تقوم بنقده من جهة أن الشر لا يُفكَّر فيه، بل هو عمل أشبه ما يكون باللاواعي، فإيخمان الضابط الذي أمر بحرق الملايين كان يُردد في المحكمة «تلك أوامر القيادة العليا» فهل كان إيخمان يفكر بالشر الذي يقوم به؟ من هنا يأتي الفيلم التونسي «الذراري الحُمر» للمخرج لطفي عاشور والذي عُرض في مهرجان البحر الأحمر في دورته الرابعة يوم السابع من ديسمبر ليضع المتفرج أمام الشر بعينه. وقبل أن ألج القاعة كنتُ مترددًا بينه وبين فيلم «نابولي:نيويورك» إلا أنني حسمت أمري مباشرةً لحبي للسينما التونسية، بعد تجربة رائعة مع ثلاثية الصحراء للناصر خمير والفيلم التونسي الرائع «لو كان يطيحو لحيوط» لحكيم بلعباس، ولم أكن أدري أني على موعد غرامي مع الشر ذاته أو مع الجميل المفزع، فماذا يقول لنا الفيلم؟ سوف أنتقل نحو محورين: رحلة الرأس المقطوع، ومن ثم نحو اللاوعي السينمائي وجذرية الشر، دون الفصل بين الشكل والمضمون، أي الإخراج والنص، على أن ننتهي بثناءٍ على «الوسيط السينمائي» بوصفه لغةً قادرة على وضع الشر في منزلةٍ جذرية، وليس في السطح أو في مقام تفاهة الشر كما زعمت حنة آرنت.
رحلة الرأس المقطوع:
إن تجربة المشاهدة في صالات العرض السينمائية مختلفة تمامًا عن التجارب المعاصرة في المنزل على الشاشة أو اللاب توب أو غيرها. في الصالة السينمائية، تُختبر الانفعالات واقعيًا وبطريقة مباشرة وعنيفة، لذلك لا عجب عندما كان «هيتشكوك» يَطرَب من صوت الجماهير داخل صالات العرض. قرر المخرج لطفي عاشور أن يصدمنا منذ الدقائق الأولى من الفيلم، وقد وضع المعادلة بطريقة أخاذة، حيث نرتحِل مع الكاميرا في رحلة جميلة بين الجبال والرعي وشبان يصعدون الجبل ويضحكون فرحًا وسعادة، ثم تلك المناظر الساحرة للصخور البيضاء والينابيع الجميلة، كما أن الشخصية المحورية -الشاب أشرف- يملك تلك الابتسامة الفريدة بلون بشرته السمراء والتي تعطي انطباع الجبال والشمس. إن الهدوء الذي يسبق، لا أقول العاصفة، بل الحمم البركانية، هو معادلة جيدة للقبض على مشاعر الجمهور فبعد أن نسمع غنائهم اللطيف والبريء تنتقل العدسة بسرعة رهيبة ولقطات مُسّرعة لنرى وجه نزار يُهشّم على الصخرة البيضاء والدماء تتناثر، ثم نجد أنفسنا داخل رعبٍ مجهول: فما الذي حدث؟ سنرى أقدام القتلة من خلال عين أشرف الضبابية فالعالم والحياة ضباب في مثل هذه اللحظات حيث تولد تلك الأسئلة المربكة: ماذا فعلنا؟ وهل في الحياة عنف يبلغ هذا الحد من القسوة؟ نرى شاشة سوداء كرمشة عينٍ سريعة، ومن ثم وجه نزار مقطوعا وقد فُصل عن جسده تمامًا. هنا، صرخ الجمهور صرخةً مدوية، وشعرت بالألم وهو ينتشر في جسدي، لقد أعطانا المخرج كلمته وترك الأمر بين يدينا! أشرف لا يدري حتى الآن ما سبب كل ذلك، إلا أنه قد كُلّف بمهمة لم يحسب لها حسابا، وهي أن يكون رسولًا للرأس المقطوع! يركض أشرف نحو بيته دون وعي، جسده البدائي كان يتحرك من تلقاء نفسه، من هنا تأخذ الحبكة -بكل ما في الوسيط السينمائي من قدرة- رحلةً عجيبةً وعنيفة حيث نرى تلك الحقيبة التي يحملها أشرف وهو يشق الجبال والآراضي الوعرة وبداخلها رأس صديقه المقطوع وقد ملأ الحقيبة دمًا. ما يحدث بعد ذلك هو رهانٌ صعب، إلاّ أن لطفي عاشور لم يخُيب ظننا، لأنك عندما تُعطي المتفرج هذا القدر من الصدمة في الدقائق الأولى من الفيلم، فماذا بقي بعد ذلك؟ فعلها ماركيز من قبل في رواية «الموت في زمن الكوليرا» حين وضع كل الأحداث في الصفحتين الأُولَيين من الرواية، فلو سألت ماذا بقي؟ لكان الجواب هو قدرة الكاتب -في حال الرواية- أو قدرة المخرج -في حال الصناعة السينمائية- على الخروج من مركزية الأحداث الكبيرة والحوارات العميقة إلى لذة الوسيط ذاته؛ لذة الصورة والحركة في تناغم المونتاج، وكأن لطفي يقول لنا «دع الحكاية وشاهد كيف تُعبر السينما عن ذاتها». يدخل أشرف في مرحلة من الهروب عن الواقع من هول الحدث، لنعيش داخل مخيلته في لقطات متفرقة جميلة، وفيها الكثير من التعاطف من قبل الجمهور، نزار الذي يُغنّي في الجبل ويطرب الوديان قُطع رأسه من قبل جماعة إرهابية دون أي مبرر لهذه الوحشية. لفتتني كثيرًا سلاسة الانتقال بين المشاهد وجمالية الصورة والتكوين، إنها لقطات تعبر بقسوة عن قيمٍ ثلاث (العزلة، والعجز، والسأم) فراغٌ وسط الصحراء، بكاء أمهاتٍ غير مسموع، والجوال تقنية الرجاء الوحيدة، كان منير يرتجف باكيًا من الداخل والخارج يستنجد بصلاح، إلا أن العالم انقطع عنهم وتركهم في عزلة مع الموت والقهر والحزن. يأتي أشرف ويقدم رأس صديقه لأم نزار، بتفاصيل دقيقة نشاهد الأحداث، أي عنف بَلَغه هذا الفيلم؟ كل عناصر العنف والقسوة التي كانت في أوجها تم تقديمها جماليًا بلغة بصرية رائعة؛ رأس الابن يُقدّم داخل حقيبة مهترئة للأم! بينما جسد نزار راح ضحية للجبال والوحوش الضارية، هنا الرأس وهناك الجسد ولكن أين نزار؟ الدرس الإخراجي في فيلم «الذراري الحمر» هو استغلال «الوسيط السينمائي» حتى لا تُفقد دهشة المُشاهد، وهو ما واجهتُه في كثيرٍ من الأفلام الأخرى داخل المهرجان، ولعليّ أكتب عنها فيما بعد، بعد ذلك نُعيد طرح السؤال: هل الشر تافه؟ كما تقول حنة آرنت.
اللاوعي السينمائي وجذرية الشر:
تحدث فالتر بنيامين وهو أحد رواد مدرسة فرانكفورت عن مفهوم «اللاوعي البصري» وهو ما نُعمِّمُه هنا من خلال تسميته باللاوعي السينمائي، ببساطة يعني هذا المفهوم بأن للوسيط السينمائي قدرة على التقاط أشياء صغيرة تحدث في الواقع باستمرار دون أن نَعِيها، مثل صوت السكين في المطبخ عند سحبه، أو حتى صوت الرياح عندما نكون منغمسين في محادثة فلا يظهر لنا جليًا، ما وجدته من الناحية الإخراجية في فيلم «الذراري الحمر»، يمثل هذا المفهوم خير تمثيل، ومن خلال تطبيقه سنرى كيف أنه يمثل نقدًا لأطروحة آرنت تفاهة الشر.
إننا كمتفرجين كنا نركض بالمعنى الحرفي مع أشرف، والرأس المقطوع يهتز داخل حقيبته، لطفي عاشور فضّل تقديم الشر جليًا وإلا كان بإمكانه أن يعفينا من رحلة أشرف حتى وصوله لأم نزار، كأن يقطع المشهد ثم نرى الأم مباشرة، لكن الأمر أخذ منحى آخر وهو ما يجسد مفهوم اللاوعي السينمائي جيدًا، بينما يقفز أشرف بين الجبال ينفجر لُغم ويسقط الرأس وتذهب عنزة ضحيةً لهذا الانفجار، فالشر ليس على مستوى البشر فحسب بل عم حتى الحيوانات. عندما يصل أشرف يلتقي بأصحابه والرأس بحوزته حتى يصل للمنزل ويرى الأسرة تلعب بسعادة فهل يجرؤ على الدخول بينهم وتقديم رأس شابٍ مقطوع؟ إنه لن يفعل ذلك بل يتسلق شجرة ويعلق الحقيبة وهنا تأتي لقطة جمالية بديعة نزول الدم من الحقيبة ليملأ العدسة باللون الأحمر تدريجيًا وكأن العالم كله ملوّن بالدم والشر. لم تنته الرحلة بعد وعين المتفرج لم ترتح، فقد أُجبرنا على خوض الرحلة بتفاصيلها، فحين يسلم أشرف الرأس المقطوع «للشاب نزار» لأمه تقع باكية على الأرض وتدخل في صمتٍ مهيب، ليس ذلك فحسب، بل نرى مشهدًا عنيفًا حيث تقوم الأسرة بفتح الحقيبة عند الثلاجة ويضعون الرأس في كيسٍ صغير، وكأننا نرى مشهدًا من احتفالية بعيد الأضحى عندما يوضع رأس الخروف داخل الثلاجة! هكذا يضعنا المخرج في تفاصيل عادةً ما يحجبها العقل، حتى يستطيع أن يتحمّل الألم وهول الفاجعة، فما يحجبه العقل يُقدّم بوضوح من خلال الوسيط السينمائي. لم تنتهي الرحلة بعد، فثمة رحلة أخرى؛ أي البحث عن الجثة المفقودة بين الجبال. يرتحلون جميعهم بين الجبال للبحث عنها، وعندما يجدونها يعطينا المخرج لقطة قاسية وكأنها أحد لوحات كارافاجيو؛ منير وهو أخ نزار يحتضن الجثة برأسها المقطوع على هضبةٍ مرتفعة. يُكّرم نزار عند وصول الجثة بالاجتماع والاحتفال الذي يشبه العرس إنه يستحق ذلك جزاءً لكرامته بوصفه كائنًا بشريًا.
نعم الشر يبدو أنه تافه ويبدو أن هناك فرقًا بين الشر المباشر والشر غير المباشر، فهتلر رمز الشر المحض كان يأمر بالقتل والحرق ولم يكن ينزل مباشرةً للميدان ويفعل ذلك بنفسه وكذلك إيخمان، ولكن من خلال الفن ومن خلال السينما -في هذه الحالة- تنصهر تلك الحدود الصارمة بين الشر المباشر والشر غير المباشر. كجمهورٍ في المهرجان مُشاهدٍ «الذراري الحمر»، كنا مشاركين في الحدث وكأننا مسؤولين بشكل مباشر عن هذا الشر. تَحقَّق ذلك، لكن ليس بسهولة، بل عبر صناعة سينمائية تعرف جيدًا وضع المعادلات العميقة والتي تخترق الجهاز العصبي والنفسي للمتفرج، كذلك تَحقَّق من خلال جمالية اللقطة والمشهد، ومن خلال الاختيار الواعي للموسيقى وأصوات الطبيعة، كما أن عملية المونتاج لا يمكن أن تكون عبثية في مثل هذه الحالة. لقد بدأ المكان، حيث وقعت الحادثة، يهتز من خلال لقطاتٍ تُظهر الغيوم السوداء والصواعق وهي تزمجر. فيلم «الذراري الحمر» صرخة ونداء من عمق الطبيعة ذاتها، تُخبرنا بأن الشر ليس تافهًا بل عميقًا وهذه مآلاته، وفي نهاية المطاف أقول إن الفلسفة وخاصةً في سياقها الغربي، وبعضٍ من سياقات الشرق، تتحدث بلغة المفاهيم والمقولات، وتعتمد غالبًا على الاستنباط، والعلم يصف بدقة ما يتوصل إليه من خلال التجربة، وللفن عامةً أكثر من لغة بحسب الوسيط المستخدم. لذلك ما يبدو شرًا سطحيًا بعين الفلسفة يرتفع في مقام الفن إلى شرٍّ جذريٍ ومخيفٍ. ومن ثم، هي سيميائية ولغة محكومة بين دالٍ ومدلول وعلينا أن نفّرق دومًا بين أشكال اللغات ما بين مَحكي ومكتوب، وما بين رمزٍ واستعارة، وما بين صورةٍ وحركة كما في السينما. فهل الشر جذري؟ هذا لا يهمنا ومما لا يهم الفن أيضًا، ما يهم هو أن الشر مخيف ولاإنساني ومؤلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش