مقالات

«أن تقتل حصانًا منغوليًّا»: آخر الرجال الواقفين

تستحضر المخرجة المنغولية «تشاوشوان يانغ»، في الفيلم المشارك في مسابقة مهرجان البحر الأحمر السينمائي ضمن فئة الأفلام الروائية الطويلة «أن تقتل حصانا منغوليا - To Kill a Mongolian Horse»، رمز ودلالة الحصان وما يعنيه للثقافة المنغولية بالتحديد، وما يمثله بشكل عامٍ من دلالة للحرية والاستقلال والانطلاق والبداوة. إذ تقدم قصتها من خلال شخصية «ساينا» الذي كان في السابق متسابقا بالخيول، لينتقل بعدها إلى أداء الحركات الاستعراضية في العروض الفروسية الخاصة بالسياح. مُحاولا بصعوبة كسب بعض المال الذي يعينه على سداد ديون والده بسبب القمار، وكذلك مساعدة طليقته وابنه الوحيد. إلا أن الظروف الصعبة والتغيرات الخاصة، التي يمر بها من تقدم به السن، وبعض الإصابات، تجبره على السعي لإيجاد مصدرٍ رزق آخر من خلال التنقل بين عدة وظائف، إلى أن يستقر بعدها في وظيفة مرشد سياحي، يساعد الزوار على ركوب الخيل والسير بهم لمسافات معينة.
من المهم جداً التوقف قليلاً عند العلاقة «المنغولية -الصينية» ومعرفة الخلفية التاريخية التي استندت عليها المخرجة والكاتبة «تشاوشوان» في تقديم فيلم يدور حول صراع اللغة والهوية والثقافة الأم وانسحاقها أمام ثقافة مغايرة إن صح التعبير. فالدولة المنغولية تحدها دولتان هما روسيا والصين، ولأسباب كثيرة، لا مجال لذكرها هنا، قُسّمت منغوليا إلى جزئين، جزء جنوبي يسمى منغوليا الداخلية (والتي ولدت فيها المخرجة تشاوشوان) وشمالي يسمى منغوليا الخارجية. تختلف منغوليا الداخلية عن الخارجية في كونها تابعة للصين، ولكنها تمتلك حكما ذاتيا، وهي بذلك تعتبر أول منطقة حكم ذاتي بالصين، على عكس منغوليا الخارجية فهي دولة مستقلة تسمى الجمهورية المنغولية.
معرفتنا بالخلفية التاريخية للعلاقة ما بين الدولتين تقود لفهم مصدر التشاؤم والخوف الذي يتجلّى في الفيلم، فمنغوليا الداخلية هي أكثر المناطق تأثراً بالثقافة المغايرة والمختلفة، وخاصة إذا ما كانت هذه الثقافة قادمة من مصدر قوة يتمتع بإمكانيات كبيرة. فبالرغم من عدم وجود اختلاف كبير بين الثقافتين إلا أن هناك تمايزًا بينهم، سواءٌ على مستوى الموسيقى أو الملابس أو العادات والأهم من ذلك اللغة، التي تعتبر البُنيان الأساسي الذي يَدَّخِرُ في غُرفه إرث الثقافة والهوية والحضارة لأي دولة كانت، إذ أن غياب اللغة يعني موت هذه الدولة واضمحلال مكانتها وتواجدها. وهذه النقطة  تقودنا لفهم الدلالات التي تزرعها المخرجة في مفاصل الفيلم، معتمدة في ذلك على تقديم عدة مستويات، منها علاقة مُربي الخيول وراعي الأغنام بثلاثة أجيال هما جيل الأب المقامر والمدمن على الكحول، وجيل الابن الذي يحاول أن يصلح أخطاء والده بتسديد دينه والحفاظ على القطيع مقارنة بوالده الذي بدأ يتخفف من القطيع بالتخلي عنه وبيعه والاستفادة من ماله في المقامرة ومعاقرة الخمر. وجيل ابن البطل الصغير، هذه العلاقة التي يتضح من خلالها محاولة البطل الأب ملاحقة الحداثة عبر تعليم ابنه اللغة الصينية والإنجليزية ورغبته في محافظة ابنه على لغته الأصلية المنغولية، التي لن يتعلّمها في المدرسة ولكنه سيكتسبها من خلال تواصل الأم معه عبرها. إلى جانب محاولته تعليم ابنه ركوب الخيل، الذي سرعان ما يقابل ذلك بالرفض بسبب خوفه. والمفارقة هنا أن البطل الأب نفسه لم يتعلم ركوب الخيل من والده ولكنه استطاع أن يفعلها بنفسه دون الحاجة إليه، وكأنها مقارنة بين جيلٍ ما زالت الهوية المنغولية متأصلة داخله، وبين جيلٍ بدأ يفقد الكثير مما يميزه، وجيل سابق يوشك أن يفقد إيمانه في كل شيء. ونرى، إلى جانب ذلك، سعي المخرجة إلى تسليط الضوء على علاقة الابن ببني جيله من الأصدقاء، الذين بدأ واحد منهم في التخلي عن كل شيء يخصه من الأرض ونشاط الرعي للعمل في المدينة. وفي مستوى ثاني، نرى علاقة الابن بنفسه ومقدرته على التحمل والتحلي بالقوة خاصة بعد كبر سنه وإصابة كتفه، وكذلك مدى قابليته لمواكبة العصر الحديث والجديد. ففي مشهد في الفيلم، خلال ذهابه لمقابلة عمل بوظيفة مُربي خيول بالمدينة، وبالرغم من خبرته الطويلة مع الخيول كمتسابق ومربي واستعراضي، يتم رفض طلبه على هذه الوظيفة بحجة أن طريقة التربية عندهم اختلفت تماماً عن الطريقة المنغولية، وبأنهم استعاضوا عنها بالطريقة الأجنبية، والأرستقراطية، لذا فالمتاح له -في حالته هو- للعمل عندهم هي وظيفة عامل إسطبل، مثل كثير من المنغوليين المتواجدين عندهم. وفي مستوى آخر مؤلم، نرى عملية بيع للخيول لأجل الذبح، بعد فقدها القدرة على المسابقة والاستعراض، بسعر منخفض إذا كانت منغولية، ومرتفع إذا كانت خيولا أصيلة. وأخيرا، يطرح الفيلم علاقة البطل بمطلقته، التي تأتي كحالة مقابلة لما يعانيه هو، في ظل ظروف وأوضاع استغلالية صعبة تجبرهم على التنازل والتخلي عن الكثير مما يؤمنان به ويريدانه. ففي جزئية عمل المطلقة، نراها تُجبر على حضور الاجتماعات وتقديم المشروبات للضيوف والغناء لهم مرغمة من قبل مديرها، بالرغم من كونها تعمل كمذيعة في الراديو، لتكون بذلك استعراضية ودمية كما هو حال البطل.  
كل هذه الأفكار والمستويات التي تحاول من خلالها المخرجة تقديم صورةٍ عن بلدها الأم، وعن ذوبان ما يُميزه من موروث داخل فيضان ثقافي مختلف عنه يبتلع كل ما يواجهه في طريقه، إذ تحضر الصورة الشاعرية والهادئة والنابضة بالألوان المعبرة بحيويتها التعبيرية لتُمتّع العين الفاحصة والمتأملة، من خلال استخدامها للألوان وتبايناتها، وخلق تكوينات بصرية تستخدم الفراغ، وزوايا الكاميرا، وتأطير الشخصيات في مساحات معينة. إلا أن ذلك جاء بنَفسٍ سردي بطيء دون أن يحمل أي جديد سوى الاستمرار بعرض الحالة الشعورية التي تتملّك البطل، إذ جاءت الكثير من المشاهد كصور مكررة لا تقدم إضافة للسرد داخل الفيلم، رغم كونها مذهلة بصرياً. وهذا البطء والتكرار للحالة نفسها، رغم تقديم الفيلم لعناصره وأفكاره ضمن مستويات كثيرة، إلا أنها كانت تحمل نفس الرسالة. مما يجعل المشاهد في النهاية يُفلت من سطوة السرد الممتلئ والبطيء، ويجعل من الصعب عليه الاستمرار في متابعة العمل كاملا.
وقبل أن أختم، أتوقف قليلاً عند المشهد الأخير من الفيلم، حيث نشاهد البطل، على نحو مُعبّر، وهو يجلس على الحصان مترنحاً يحمل في يده الخمر،  يسير في مجابهة سيل السيارات القادم من أمامه وخلفه، مُحاولاً أن يكمل طريقه وحيداً، حتى وهو مترنح، مُعلنا رفضه وعدم استسلامه، مقاوماً أن يطمسه الآخرون بثقافتهم ولغتهم وحضارتهم،  ليعيد بمحاولته هذه، تجسيد محاولة سيزيف في الأسطورة المشهورة، الذي يُجبر على دفع صخرة إلى قمة الجبل مراراً وتكراراً ليثبت إرادته مع كل محاولة جديدة. وبأن ما يعانيه البطل في ثقافته المنغولية هو ذاته ما يعاني منه الجميع ممن يلمسون ويشاهدون بأنفسهم أثر حضور الثقافة المغايرة والمختلفة، محاولة أن تلبس كل أصيل، لنستحيل في النهاية إلى نسخ منها، مستسلمين أمامها، معلنين عندها قتل آخر حصان صامد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

أحمد بن حمضة
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا