عاش «إنغمار بيرغمان» حياة مليئة بالأزمات والعثرات، بل كان معذبًا منذ وُلد حتى شاب؛ كمنت له المعاناة والتعقيدات عند كل منعطف. وُلد بيرغمان في عام 1918 في حالة صحية سيئة. كان أقرب إلى الموت عن الحياة، فبعد أن ولدته أمه التي كانت مصابة بالإنفلونزا الإسبانية هي الأخرى، حملته جدته لتعتني به في دارها في دارالانا في رحلة تستغرق يومًا كاملًا. كان طعام الرضيع حينذاك كعكًا منقوعًا بالماء. كان على وشك الموت عندما وصلا إلى الدار، لكن جدته استطاعت أن تُدبر له ممرضة تعينها على الاعتناء به حتى تتحسن حالته، وبالفعل جرى ذلك، إلا أنه فيما بعد ظل يتعذب من أمراض يصعب تحديدها مثل التقيؤ باستمرار أو آلام المعدة التي لازمته طوال حياته تقريبًا.
كان في سن الرابعة عندما ولدت أمه شقيقته الصغرى. بيرغمان -الذي كان في عداء مع شقيقه الأكبر- تملكت منه الغيرة لاحتلال المولودة الجديدة مكانته عند أمه. قرر أن يحل السلام بينه وبين شقيقه ووضعا معًا خطة لقتلها، وكان عليه أن ينفّذ الخطة بنفسه. في ظهيرة يوم ما قرر التسلل إلى غرفة نوم والديه حيث كانت تمكث المولودة، سحب كرسيًا وصعد عليه، وبدلاً من أن ينفذ تعليمات أخيه الأكبر ويخنق شقيقتهما، أخذ يضغط على صدرها حتى استيقظت صارخة، فدفع بيده إلى فمها حتى احولّت عيناها. كاد أن ينال منها، إلا أنه فقد توازنه وسقط على الأرض. هنا لا أحاول فرض رؤية ما حول ما إذا كانت تلك هي فطرة إنغمار الطفل: الغيرة والحقد والأذى. ربما لا اعلم بالتحديد أسباب كراهيته لشقيقه الأكبر، ربما لأنه يكبره بأربع سنوات، أو لأنه يتمتع بمزايا لا يتمتع بها بيرغمان مثل السماح له بالخروج في المساء ومشاهدة أفلام سينما محظورة بالنسبة إلى الأطفال، أو لأنه كان يضربه حين يشاء، إلا أن كراهية بيرغمان لشقيقه وصلت حد القتل أيضًا. ذات يوم حمل إبريقا زجاجيًا ثقيلًا وصعد على كرسي ليختبئ وراء الباب في غرفة كانا يتقاسمانها معًا، وعندما فتح شقيقه الباب ألقى بالإبريق على رأسه فتحطم الإبريق وسقط شقيقه على الأرض والدم يسيل من شق رأسه، ليضربه شقيقه بعد شهر من ذلك الحادث، ويعاود بيرغمان الرد بوضع شمعة مشتعلة في سريره أثناء نومه، لكن النار تنطفئ وحدها، وأيضًا تتوقف الأعمال العدوانية بينهما بعد هذا الحادث.
أشياء عديدة من طفولته تُفسر بناء شخصيته وفلسفته التي برزت لاحقًا في أعماله التي كثيرًا ما تناولت تحديات وأفكار عن حتمية الموت ووجود الإله والوحدة المتأصلة في التجربة الإنسانية، فهو الآخر عاش في بيئة مرتبطة بمفاهيم الخطيئة والاعتراف والعقاب والغفران. تحت هذا النظام الكهنوتي، لم يعرف عن الحرية ولم يذق طعمها، ولهذا كان العقاب من بديهيات حياته. عندما كان يتبول في فراشه، وهو الأمر الذي يحدث بكثرة، وليس بجرم كبير، كان يُجبَر على ارتداء تنورة حمراء قصيرة لبقية اليوم، وهو العقاب الذي وصفه بـ«المؤذي والمضحك». أما بالنسبة إلى الجرائم الكبرى، يطول زمن عقابها وموعد الغفران أيضًا. بعد العَشاء يقام اجتماع في غرفة الأب للاستجواب والاعتراف، ثم يؤتى بالمضرب الخشبي وعلى المُخطئ تحديد عدد الضربات التي يستحقها. وبعد تحديد العدد يُنزع عنه البنطال والسروال الداخلي مع الانبطاح على الأرض، ويُمسك من العنق و تنهال الضربات. وبعد انتهاء الضربات، تُقبَّل يد الوالد الذي بدوره يعلن عن الغفران. تعددت طرائق العقاب في طفولته المرعبة: الحبس في الخزانة المظلمة، شد الشعر، الضرب على الرأس، الحرمان من الطعام.. وهكذا.
أما هو فلم يلتمس تحسن أحواله إلا عندما أصبح كاذبًا، عندما وجد شخصًا في داخله لا يشترك مع حقيقته إلا بالشيء القليل، حتى لم يعد يستطيع الفصل بين ذاته وبين هذا الشخص. كان يعلم هذا جيدًا وظن أن ذلك الأمر تسبب في ترك أضرارٍ لاحقة على حياته وإبداعه في مرحلة النضج، إلا أنني أظن أن هذا الأمر بالتحديد هو الدافع الخفي خلف استكشافه لازدواجية الطبيعة البشرية، وهي الفكرة التي لطالما تكررت في أفلامه، حيث يتعمق في مسألة الانقسام بين النور والظلام، الخير والشر، العقل والجنون. غالبًا ما تنتقل شخصياته في الحدود غير الواضحة بين هذه القوى المتعارضة، مما يؤدي إلى طمس أي إمكانية للتمييز بين البطل والشرير. من خلال ذلك، يؤكد بيرغمان على التعقيد والتناقضات المتأصلة داخل كل فرد بطريقة تُبرز قدرةَ كلٍ من الجمال والظلام على التعايش داخلنا جميعًا.
ما عاناه بيرغمان في سنواته المبكرة كان كافيًا لتدمير أي آمال حول سنواته اللاحقة، إلا أنه قرر المراوغة والتحايل على حياته تلك، حتى إنه حين يعود وينظر إلى سنواته المبكرة ينظر إليها -كما يصف- بكثير من البهجة والفضول، بل لا يذكر وجود لحظات باهتة في طفولته. تنفجر في مخيلته الأيام والساعات باكتشافات ورؤى غير متوقعة ولحظات سحرية. يستعيد الأضواء والروائح واللحظات والهمسات وكل ذكرياته التي تشبه فيلمًا سينمائيًا مُصورًا بشكل عشوائي. وربما عند تلك النقطة، يتأكد الافتراض حول خداعه لذاته دون إنكار أو تزييف، إذ يمكننا مطابقة معاناة طفولته على أبرز أفكار أعماله، نشأته في منزل لوثري متدين مثالًا، فهو دائمًا ما يُصور أزمة الإيمان الوجودية والصراع حول ماهية وجود إله ودور الروحانية في الحياة، من خلال تأملاته العميقة وحواراته الفلسفية التي دائمًا ما تحث على التفكير في المعتقدات وطبيعة الألوهية.
يتجلى تأثير الرابط العائلي الهش في طفولة بيرغمان على أعماله وحياته أيضًا، حتى بعد بداية لمعان اسمه وتوهج مسيرته الإخراجية. برزت هشاشة علاقته بالعائلة في مشهد من حياته عام 1965 عندما هاتفته أمه لزيارة والده في المستشفى بعد استئصال ورم خبيث من حنجرته، ولكنه أجابها بأنه لا يملك الوقت ولا الرغبة لفعل ذلك، وأنه لا يشعر تجاه أبيه بأي شعور غير اللامبالاة. طلبت أمه وهي تبكي أن يفعل ذلك، إلا أنه قال لها: «إن الدموع لم تكن لتحدث أي تأثير عليّ» وأغلق سماعة الهاتف بعنف.
شقت الأم طريقها إلى المسرح في تلك الليلة على الرغم من حدوث عاصفة ثلجية. كانت تلتقط أنفاسها بصعوبة حين وصلت، إلا أنها لم تأت للجلوس مع ابنها. كان الغرض من زيارتها أن يعيد على مسامعها كلماته القاسية التي قالها في المكالمة؛ كانت تريد أن ترى كيف يبدو وهو يعوق والديه ويهينهم. حاول أن يعانقها لكنها دفعته وصفعته. انتابه الضحك، أما هي فانفجرت في البكاء.
جلس إلى جانبها وأكد لها أنه سيزوره وأنه أيضًا نادم على ما قال، وطلب منها الصفح.
حدث هذا يوم الثلاثاء، وفي يوم الأحد الذي تلاه تُوفيت الأم قبل دقائق من وصوله بعد أن اتصلت به إحدى القريبات لتخبره عن حالة أمه الخطيرة، إلا أنه دُهش فيما بعد لتذكره بكائه بصوت عالٍ من دون السيطرة على نفسه. بعد ظُهر اليوم ذاته، ذهب لرؤية والده في المستشفى بعد أن نجا من العملية. أخبره بخبر وفاة أمه، فنظر والده إليه بتأمل، وأومأ برأسه، وطلب منه أن يدعه وحيدًا.
حياة مليئة بالروابط والعلاقات البشرية الهشة والمعقد، تمامًا كما يستكشف ويفحص طبيعة العلاقات في أعماله التي تضمنت عديدًا من أوجه الحب والخيانة وانهيار التواصل والتفكير في أهمية الروابط الحقيقية.
في عام 1944، عمل بيرغمان مخرجًا في مسرح هلسينغبورغ، وقبل ذلك عمل لوقت طويل كاتبَ سيناريو في شركة «سڤنسك»، وكان قد كتب سيناريو فيلم «النوبة» من إخراج «آلف سيوبرغ» وعلى الرغم من النجاح الذي حققه الفيلم حينذاك، فإنه لم يتلقَّ سوى اتصال واحد من أحد المنتجين الذي أخبره أنه بإمكانه أن يجعل منه مخرجًا سينمائيًا جيدًا، إلا أنه قرر الاستمرار في العمل في سڤنسك مع «كارل آندرس دايملنغ» الذي كان يعامله بشيء من العطف.
ذات يوم، وجد بيرغمان نص مسرحية بعنوان "الأم" -لكاتب دانماركي مغمور- على مكتبه. اقترح دايملنغ أن يعمل بيرغمان على كتابة سيناريو مقتبس من المسرحية، وإذا كان جيدًا فإنها ستكون فرصته الأولى للإخراج. قرأ بيرغمان المسرحية ووجدها مرعبة، إلا أنه كان متلهفًا للإخراج. كتب السيناريو في خلال أسبوعين وتمت الموافقة عليه. كان من المقرر تصوير فيلم «أزمة» عام 1945. بدت الأمور له جيدة جدًا؛ كان مجنونًا بفرحه ومفعمًا بالثقة والفخر، حتى أنه اتصل بزوجته التي كانت تقيم في هلسينغبورغ ليخبرها بأنه على المخرجين أمثال «سيوبرغ» و«مولاندر» أن يتقاعدوا فورًا، فإنغمار بيرغمان قادم في طريقه. لاحقًا نعلم بأنه كان على حق، لكن وقتها وبينما كان منشغلًا بالتباهي ظهرت له التعقيدات من جديد، فالأيام الأولى من تصوير فيلم «أزمة» كانت عبارة عن كوابيس حقيقية لأسباب عديدة، منها الممثلة «داغني ليند» التي اختلف بشأن حصولها على الدور الرئيس إذ لم تكن ممثلة سينمائية وكانت تفتقد الخبرة، فضلًا عن النتائج المزرية التي نتجت عن أعطال في الكاميرا ومشاهد مغطاة بغشاوة ومشوشة الصوت، مما تسبب في صعوبة فهم الحوارات بين الممثلين.
الفيلم كان على وشك الإلغاء أو استبدال الطاقم وبيرغمان نفسه، إلا أنه تلقى رسالة من كارل آندرس دايملنغ والذي كان في إجازة، مفادها بأن المادة المصوَّرة واعدة، على الرغم من أنها ليست جيدة، واقترح على بيرغمان البدأ من جديد. التقى بيرغمان بالمخرج «ڤيكتور سيوستروم» في الاستوديو، وخرجا للتمشية سويًا خارج الاستوديو ليقدم له ڤيكتور عدة نصائح بدت لبيرغمان بسيطة ومفهومة، منها أن يصور مشاهده بطريقة أبسط، وألا يستمر في الشجار مع الآخرين، وألا يعالج الأمور بشكل بدائي، وأن يتعامل مع التفاصيل الصغيرة على أنها صغيرة. اختار بيرغمان مدينة هيدمورا بدلًا من أي مكان آخر للتصوير، اختيار من دون أي أسباب مقنعة، أو رُبما لاستعارض نفسه أمام والديه اللذين كانا يقضيان الصيف على بُعد بضعة أميال في ڤارموس. تحرك والطاقم إلى هيدمورا لينزلوا في أحد فنادق البلدية.
لكن تتعقد الأمور أكثر من ذي قبل، إذ ينقلب الطقس طوال الوقت وتمطر السماء بلا توقف فلا يستطيعون تصوير أي شيء إلا عندما يتوقف المطر وتظهر الشمس من جديد، وكان عندما ينجح في تصوير أي لقطة ناجحة يتصرف مثل المجنون، فينطلق يصرخ ويسب العامة ويسب المدينة نفسها. لم يقتصر هذا الجنون على كواليس التصوير فحسب، بل تجلى حتى في الأمسيات، ففي الفندق هددهم المدير بالطرد بعد أن وقفت «ماريان لوفغرن» على إحدى الطاولات ورقصت الكانكان بمهارة، ثم سقطت على الأرض مُحطِّمة الأرضية الخشبية. بعد ثلاثة أسابيع لم يحتمل وجهاء المدينة جنون بيرغمان وطاقمه، فاتصلوا بشركة سڤنسك يتوسلون الإدارة لكي تبعدهم عن المدينة. وبالفعل تلقوا أوامر بالعودة بعد تصوير أربعة مشاهد فقط من أصل عشرين. استدعاه دايملنغ ووبّخه، إلا أن سيوستروم تدخل لصالحه مرة أخرى.
جرت الأمور بشكل جيد فيما يخص عملية بناء الديكور اللازم لإتمام مشهد من مشاهد السيناريو، لكن سرعان ما ظهرت المشقات عند التصوير. بدأ التصوير في إحدى ليالي الخريف بعد حلول الليل. كان من المفترض تصوير مشهد من لقطة واحدة باستخدام كاميرا مثبتة على حامل ارتفاعه تسعة أقدام. في المشهد «جاك» يطلق الرصاص على رأسه، «ماريان» تصرخ وهي تنكب على جسده، تصل سيارة الإسعاف، والدُمى تُحدّق عبر الزجاج. في التصوير كان بيرغمان مستندًا إلى حامل الكاميرا متأملًا وفخورًا بما يُبدعه ويخلقه، وعلى الجانب الآخر أحد مساعديه يستند هو الآخر إلى الحامل، فسقطت الكاميرا على رأس الأخير، فهوى على الأرض والكاميرا فوقه.
سيارة الإسعاف الموجودة في التصوير نقلت المساعد المصاب إلى مستشفى كارولينسكا، وأصر طاقم العمل على وقف التصوير لأن زميلهم لابد وأنه تُوفي أو بالفعل يحتضر. أصابت بيرغمان حالة من الذعر ورفض اقتراحهم بتوقف التصوير وصرخ قائلًا إن الرجل كان ثملًا، وأنهم جميعًا كانوا ثملين تلك الليلة (الأمر الذي أكده بيرغمان في مذكراته فيما بعد) وأخبرهم بأن التصوير سيستمر إلى أن يأتيه خبر من المستشفى بأن الرجل قد تُوفي، واتهمهم جميعًا بالكسل واللامبالاة. تابعوا التصوير وأنجزوا المشهد، إلا أنه لم يكن يشعر بالرضا أو أنه حقق أي من الصورة في خياله. انسحب بعيدًا وشرع يبكي من خيبة الأمل. أما المُساعد فقد نجا من الحادث، فإصابته لم تكن خطيرة، إضافة إلى أنه لم يكن ثملًا كما ادعى بيرغمان.
مضى بيرغمان في تصوير الفيلم محاولًا كعادته أن يراوغ المعوقات والتعقيدات التي لم يعنه أحد من طاقم العمل على تخطيها عدا المونتير «أوسكار روزاندر» الذي كان له تأثير كبير في أسلوب بيرغمان السينمائي فيما بعد، فهو الذي أطلعه على أسرار المونتاج وعلى حقيقة عمل بها بيرغمان دائمًا، وهي أن المونتاج يحدث في التصوير نفسه، وأن الإيقاع يولد في السيناريو. وعلى الرغم من تمسك عديد من المخرجين بوجهات نظر معاكسة تمامًا، فإن تعليمات روزاندر فيما يتعلق بالمونتاج كانت أساسية وحاضرة طوال مسيرة بيرغمان، فهو يحدد الإيقاع في أفلامه من خلال النص، الذي يولد ويكتمل فيما بعد أمام الكاميرا. لا يحب الارتجال أو أن يُجبر على اتخاذ قرار سريع. التصوير بالنسبة إليه كان بمثابة وهم مُكون من تفاصيل، انعكاس للواقع الذي كلما عاشه لمدة أطول بدا له وهميًا أكثر فأكثر.
بالنسبة إلى بيرغمان أيضًا كان الفيلم ما لم يكن وثائقيًا فهو حلم، ولهذا يقر بأن «تاركوفسكي» هو الأعظم على الإطلاق، فهو يتحرك بحرية مطلقة في عوالم الأحلام دون أن يقدم شروحات، حتى إنه لا يجب عليه أن يشرح شيئًا. يستطيع أن يُخرج رؤيته بطرائق غير شائعة لكنها في متناول جميع الناس. ولذلك أيضًا يقر بيرغمان بأنه أمضى مسيرته كلها يدُق أبواب الغرف التي كان تاركوفسكي يتحرك داخلها. أحيانًا يستطيع الولوج إلى الداخل، وأحيانًا ينتهي الأمر إلى إخفاق محرج -كما ذكر بنفسه- في أفلام «بيضة الثعبان» و «اللمسة» و «وجهًا لوجه» وغيرها. يرى أيضًا «فيلليني» و«كورساوا» و«بونويل» قادرين على الحركة في عالم الأحلام بسلاسة شديدة. أما «أنطونيوني» فكان يرى أنه في طريقه إلى أن يصبح مثلهم لكنه انتهى وتعقد نتيجة ملله الذاتي. أما عن «ميليس» فقال إنه كان حاضرًا هناك على الدوام، فهو ساحر بمهنته.
ومع ارتباط مفهوم الفيلم لدى بيرغمان بالحلم، أو بالموسيقى، كان عندما يمرر لقطات الفيلم على طاولة المونتاج ينتابه إحساس السحر كما في طفولته، في ظلام خزانة الثياب عندما يُعاقب حينما كان يدير ببطء لقطة وراء لقطة ليرصد تغيرات الأحداث، وما إن يدير الآلة بسرعة حتى يرى الحركة. هكذا كان يُدوّن في مذكراته غير مُدركًا -أو ربما مدركًا- أن بتلك الطريقة كان يتحايل على مأساته ليصبح المُبدع الذي طالما أراد أن يكون. أتقصى وأُشدد على لحظات بيرغمان الصعبة والحزينة، ليس لأنه أَولى اهتمامه الأكبر لها في تدوين مذكراته فحسب، بل لأن تلك اللحظات والأحداث هي ما تكشف طبيعة وحقيقة إنسان ومُخرج مهم نتناول هوامش من سيرته، فما أكثر الكتابات المتناثرة حول نجاحاته السينمائية والأعمال ذائعة الصيت، ولا أذكر أن هناك من اهتم بتوثيق تلك المآسي. رُبما يرجع ذلك إلى الطبيعة الغريبة في التعامل مع الفنان -تحديدًا بعد موته- على أنه قائمة من الأعمال، لا إنسان يحمل سيرة طويلة من الممكن أن تكون أكثر ملحمية عن جميع أعماله.
عام 1986 وبعد أن كان قد اعتزل السينما، شرع بيرغمان في إخراج مسرحية سترندبرغ «لعبة حلم» للمرة الرابعة. لم يكن يشعر بالرضا عما قدمه من حلول إخراجية في الثلاث نسخ الأخرى، منها نسخة صورها التلفزيون السويدي وصفها بالمُحزنة لوجود كوارث تقنية وعدم إمكانية عمل مونتاج على الأشرطة حينذاك، أما العرض الثاني فلم ينجح نظرًا لضيق المسرح على الرغم من توفر ممثلين ممتازين، أما تجربته في إخراجها للألمان فشلت فشلاً ذريعًا. وفي التجربة الرابعة قرر أن يقدم المسرحية تمامًا كما كتبها سترندبرغ، دون أي تعديلات أو حذف. عمل على إيجاد حلول تقنية وجمالية لبعض المشاهد صعبة التنفيذ ليُشعر الجمهور بالجو القذر في مكتب المحامي، وبجمال منطقة فيغرفيك الريفية العريقة، والضباب الجهنمي لجحيم سكامسوند، والأزهار الساحرة في محيط قلعة ريسنغ. ما زاد الأمر صعوبة هو أن خشبة مسرح دراماتن كانت غير عملية بالمرة؛ كانت قاعة للعرض السينمائي ومن ثم حُوّلت إلى مسرح من دون إصلاحات منذ عام 1940 حتى منتصف الثمانينيات، وعليه قرر إزالة أربعة صفوف من الكراسي الأمامية للحضور لكسب أمتار إضافية وتوسيع خشبة المسرح.
تبدأ الصعوبات الحقيقية في النصف الثاني من المسرحية، تحديدًا مشاهد فاغرڤيك. يتعثر الإلهام عند بيرغمان الذي لم يستطع أن يختصر، فمن شأن هذا الاختصار أن يقتل المَشاهد، ولم يستطع أيضًا تقديمها كاملة، فسوف يُرهق الجمهور إذا فعل. كان الأمر يتطلب هدوءًا تامًا ومحاولةً للبحث عن إيقاع مفقود، إلا أنها لم تكن بالمهمة الصعبة، فكان الأمر ممكنًا على أي حال، فالنص لا يزال قويًا ومسليًا وشاعريًا، ولم تعد المسرحية مجرد لعبة حلم، بل أصبحت عرضًا موضوعيًا ذا نوعية مشكوك بها.
ومع ذلك، بقيت لديه كثير من المشاكل المُعقدة، ففي النص المسرحي يكتشف سترندبرغ أن الدراما تتبلور لتتحول إلى بانوراما حياة إنسانية يشرف عليها رب مشغول البال، ويشعر أنه مدعو لأن يعبر بالكلمات عن الحد الفاصل الذي كان يستعرضه سابقًا بطريقة غير متماسكة.
تأتي ابنة «إندرا» وتمسك بيد الكاتب، لتأخذه بعيدًا ويقرآن أشعارًا هزيلة بلا قيمة. ولكن كيف يمكن المراوغة بصدد نحيب الكاتب الطويل والموجه إلى إندرا والذي يتألف أساسًا من الشكوى واللوم؟ كيف يمكن خلق عاصفة وتحطيم سفن؟ وكيف يمكن عرض المسيح وهو يسير على الماء؟
قدم بيرغمان الحل من خلال وضع عرض صغير بداخل العرض الأساسي، حيث ينظم الكاتب مكانًا للتمثيل يحتوي على شاشة وكرسي وغرامافون، ويغطي ابنة إندرا بشال شرقي، ويتوج نفسه أمام المرآة، ويعطي لصديقه الممثل بضع صفحات من النص الأساسي، ثم يتدرجون من اللهو إلى الجد، من المحاكاة الساخرة إلى الهزل، ومن ثم عودة إلى الجد مرة أخرى. مسرح عظيم وهارمونية نقية وبسيطة كما وصف. المشاهد التالية التي تدور في كواليس المسرح كانت مشاهد باهتة ولا تقول أو تضيف شيئًا، إلا أنه لم يكن من الممكن إلغاؤها. ومع ذلك، فإن المشهد الختامي عند المذبح يبدو رائعًا: تعلن ابنة إندرا عن حل لسر الحياة وغموضها. ووفقًا لاطلاع بيرغمان على يوميات سترندبرغ، فقد كان يقرأ في تلك المرحلة كتبًا حول الميثولوجيا والفلسفة الهندية، ومزج ثمار كتابته بحبكة هذا المشهد. لكن من وجهة نظر بيرغمان، فإن تلك الثمار لم تتجمع في أسفل الصحن ولم تعطه أي طعم، وبقيت قطعة من القصص الهندية من دون مكان في النص.
كانت تلك المسرحية أكثر ما كلّف بيرغمان الجهد والزمن فيما يتعلق باتخاذ القرارات المتعلقة بالحلول الجيدة وملاءمة المفاهيم الجديدة في حياته كلها. مهمة شاقة في بداية مسيرته السينمائية مع فيلم «أزمة»، وحملة عسكرية متعبة في محاولة إخضاع أو إخراج مسرحية «لعبة حلم»، ولأول مره في حياته شعر بعجزه أمام التقدم في العمر، فالصور لا تظهر إلا بصعوبة بالغة، واتخاذ القرار أصبح بمثابة صراع. كان على وشك الاستسلام، وهو الأمر النادر بالنسبة إليه. قبل شهر من بدء البروفات، تخلت الممثلة «لينا أولين» عن دور ابنة إندرا نظرًا لظروف حملها، فاستحالت إمكانية تأديتها للدور لأنه لم يعد من الممكن تأجيل العروض.
بدأت البروفات يوم الخميس، 4 شباط. شدد بيرغمان في البروفة الأولى على ضرورة حفظ النص في أسرع وقت ممكن، فالدوران في المكان ووضع الأنف في الكتاب مع تجميد إحدى الذراعين أصبح شيئًا من الماضي. في يوم الجمعة، 14 شباط، راقب العرض كاملًا دون انقطاع أو إعادة. كتب في يومياته: «العرض يشعرني بالإحباط. جلست أتابعه محدقًا، ساكنًا. ولكن هناك متسع من الوقت». كان الافتتاح مقررًا في 17 نيسان، الذي كان يصادف مرور تسعة وسبعين عامًا على يوم العرض العالمي الأول للمسرحية. في ليلة الاثنين ارتفعت حرارته، وبدأ يعرق ويرتجف؛ كانت تجربة غير عادية بالنسبة إليه. لم يمرض على هذا النحو قط. كان يمرض أحيانًا لكنه لم يتوقف قط خلال المرض عن البروڤات أو التصوير. بقيت حرارته مرتفعة لعشرة أيام أمضاها نائمًا في سريره لا يقدر حتى على القراءة. كان يفقد توازنه إذا نهض عن السرير، ينعس فينام، ثم يستيقظ، يسعل ويستنشق. كانت فرصته أو اللحظة المناسبة إذا قرر أن يتخلى عن عرض «لعبة حلم». كان العرض التجريبي مصورًا على الفيديو، شاهده مرات عديدة واستطاع أن يلاحظ نقاط الضعف والإخفاقات، فشجعته إمكانية تجاوزها على النهوض وإتمام العمل.
في يوم الأربعاء 9 نيسان، بعد أن أنهى العمل في البروفات، كتب في يومياته: «تحقق التفاهم وقويت دعائمه، يجب أن أتابع بقوة. أنا حزين ولكني لست محطمًا». في الصباح التالي لاغتيال رئيس الوزراء السويدي «أولف بالمه» اجتمع بطاقم العمل في قاعة الانتظار بالمسرح لمحاولة معرفة ما يجب أن يحدث: هل تُلغى البروفات؟ هل يُلغى العرض المسائي؟ هل يتخلون عن «لعبة حلم» للأبد؟ وفجأة قالت ممثلة من الممثلات الشابات: «ربما أكون مخطئة، لكنني أعتقد بأننا يجب أن نتمرن. يجب أن نستمر. إن الذي قتل "بالمه" كان يريد إحداث فوضى، وإذا تركنا المسرحية فإننا نشارك في هذه الفوضى وندع انفعالاتنا تسيطر علينا. إن الأمر يتجاوز مشاعر خاصة طارئة. يجب ألا تسود الفوضى» وشيئًا فشيئًا أصبحت «لعبة حلم» عرضًا جاهزًا. قاموا ببعض البروفات أمام الجمهور، تارة كانوا يقظين ومتحمسين، وتارة كانوا متأملين وصامتين. بدأ تفاؤل حذِر يُلوّن وجنات طاقم العمل، مع تعاطف الزملاء وتلقيهم رسائل تشجيع وتأييد.
في الأمسية التي سبقت الافتتاح، اجتمع بيرغمان والطاقم في إحدى غرف البروفات، وكان الجو مفرحًا وكئيبًا في آنٍ واحد كما ذكر بيرغمان. ذكر أيضًا أنه من الصعب دائمًا الافتراق عن مجموعة أشخاص ارتبط الإنسان بهم لفترة طويلة وبشكل قريب. انتابه إحساس بالحب العاجز تجاه هؤلاء الناس. انقطع الحبل السري لكن جسده كان يتألم. تحدثوا عن فيلم أندريه فايدا «المايسترو» حيث يقول إنه لا يمكن تأليف موسيقى من دون حب، وأثناء التفاعل مع تلك اللحظة، اتفقوا على أنه يمكن صنع مسرح من دون حب، كما أنه يمكن عيش تجربة مسرح رائع، ينمو ويخرج من الكراهية والعربدة، لكن الكراهية هي طريقة للتواصل، والحب قد يكون خطيرًا مثل الكراهية. تأملوا في تلك الأفكار ووجدوا أمثلة لها.
قبل الرحيل، تعانقوا جميعًا وتبادلوا القبل وكأنهم لن يلتقوا بعد هذه اللحظة أبدًا. علق بيرغمان: «لكننا بحق المسيح سوف نلتقي غدًا صباحًا». قال ذلك فضحكوا، وكان الافتتاح في اليوم التالي.
ولأول مرة في حياته المهنية يشعر بيرغمان بالحزن نتيجة الفشل لمدة تزيد عن يومين. قال إن الإنسان يستطيع أن يواسي نفسه أحيانًا بالقاعة المكتظة بالجمهور. لم يكن عدد الحضور سيئًا أثناء أربعين عرضًا، لكنه بالنسبة إليه لم يكن كافيًا أيضًا. كل جهده وتعبه وقلقه وأمله، كل هذا ضاع هباء. كانت «لعبة حلم» التحدي الذي وضع حدود لبيرغمان طوال ما بقي من حياته، وعلى الرغم من أنه لم يستسلم أو يتراجع عن إتمام المسرحية، فإنه لم يعد كما كان قبلها قط.
دائمًا ما كان يراوغ بيرغمان مآساة حياته المبكرة في تعليقاته أو حتى عند استرجاع بعض الذكريات الخاصة بتلك الأوقات التي يصفها دائمًا باللحظات الساحرة المُبهجة، على الرغم من أنها كانت على النقيض تمامًا، وعلى الرغم من ذلك عاش مُعذَّبًا وأحيانًا تائهًا بين حقيقة حياته وبين ما تخيله لنفسه وعاش إلى جانبه. يبرز ذلك التناقض دائمًا في مواقفه تجاه والدته التي كان يحبها حبًا شديدًا على الرغم من ضعف الرابط العائلي وصعوبة الحياة في بيتهم، إذ يصف حياة عائلته في لقاء كئيب مع والدته بأنهم أخذوا أقنعة عوضًا عن الوجوه، وهيستيريا عوضًا عن المشاعر، والخجل والإحساس بالذنب عوضًا عن الحب والتسامح. وعلى الرغم من ذلك يُعبر عن اشتياقه لها ولنظرتها إليه وعن تخيّله لوجودها إلى جانبه في مكتبه «بفارو»، ويلوم نفسه على استحياء على إثر جلسة اتهامه لها وتحميلها مسؤولية ما عاشه هو وإخوته من سنوات مُروّعة، إذ يقول إنه لم يكن يجب أن يكون اللقاء بتلك الكآبة، وإنها كشفت بصيرتها عن كارثة حياتها، وكانت قوية لتحمل اللوم حتى وإن لم تكن مشارِكة بما يستحق اللوم.
يختم مذكراته بكلمات من يوميات أمه كتبتها بعد مولده في شهر تموز عام 1918: «كنت مُتعَبة خلال الأسابيع الماضية ولم أستطع أن أكتب. لقد أصيب إريك بالإنفلونزا الإسبانية للمرة الثانية، ووُلد ابننا في صباح الأحد 14 تموز، وعُدي بحرارة مرتفعة وإسهال قوي. إنه يبدو مثل هيكل عظمي وله أنف أحمر كبير، ويرفض بعناد أن يفتح عينيه، وبعد أيام من ولادته نفد حليبي بسبب المرض وعمدناه في المستشفى بحالة طارئة، اسمه انغمار. وقد أخذته أمي إلى ڤارموس لترعاه ممرضة مختصة. إن أمي قاسية جدًا تجاه عجز إيريك عن معالجة بعض شؤوننا العملية، وهو بالمقابل يرفض تدخلها في حياتنا الخاصة. أرقد الآن ضعيفة وبائسة، وأحيانًا عندما أكون وحيدة أبكي. إذا مات الرضيع فسوف تطلب أمي أن تأخذ داغ وأن أعود إلى عملي ثانية. تريدني أن أنفصل عن إيريك في أسرع وقت ممكن قبل أن تدفعه كراهيته الجنونية لشيء خطير. لا أعتقد أنني أملك الحق بالتخلي عن إيريك. لقد أمضى الربيع الأخير مجهدًا و قلقًا، وأمي تقول إنه يدّعي كل ذلك، لكنني لا أصدقها. أدعو إلى الله دون إيمان. يجب على المرء أن يتدبر شؤونه وحده وبأفضل ما يستطيع».
يتذكر بيرغمان في طفولته حين كان يتعمد البكاء أمام أمه فتعاقبه، ليتوقف بعدها عن البكاء. لم يعرف كيفية البكاء حقًا، لكنه كان يشعر بصوت البكاء في أعماقه وكان صداه يصله ويضربه دون تحذير. وأن الطفل الذي يبكي بشكل مكبوح يبقى سجينًا إلى الأبد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش
1. ڤارموس: كلمة تعني باللهجة السويدية المحلية «الشئ الخاص بنا» إشارة إلى البيت الصيفي في دارالانا
2. لمصباح السحري - انغمار بيرغمان.
3. Ingmar Bergman - peter cowie
4. Ingmar Bergman a life in the theater - Fredrick j marker