النقد

«نادي القتال».. اللكمة التي لا نمل منها

عندما سألت صديقتي ماري: «هل شاهدتِ فيلم "نادي القتال"؟» قالت: «القاعدة الأولى ألا تخبر أحدًا عن نادي القتال». إن هذا الفيلم يحمل سرًا حقيقيًا بخلاف قاعدته الأولى.  بالرغم من صدوره في شهر أكتوبر عام  1999، فإن المقالات والأحاديث عنه لا تنتهي، بعد قرابة 23 عامًا من عرضه الأول. والسؤال الحقيقي هو: ما الذي يجعل نادي القتال صالحًا للمشاهدة حتى اليوم، وإعادة قراءته بشكل جديد ولأكثر من مرة؟ 

أول مرة شاهدتُ فيها الفيلم كانت في عام 2002. كنت طالبًا في المرحلة الإعدادية، ولم يشغلني من الفيلم سوى سؤال: «كيف أتغلب على مخاوفي من قتال زملائي في المدرسة؟». ظننت هنا أن علاقتي بالفيلم انتهت، فقد أصبحتُ أعلم حبكته، ولا يوجد به شيءٌ مثير يدفعني لإعادة المشاهدة.

لكن في عام 2016 طلب مني صديق محب للسينما مشاهدة "نادي القتال". أخبرته بأنني شاهدته، فسألني عن رأيي، فقلت إنه فيلم لطيف، فرد: «متى شاهدته؟». قلت: «في 2002»، فقال لي: «عليك مشاهدته الآن؛ ستفهمه بشكل مختلف. يستحيل أن تكتفي بمشاهدة واحدة لفيلم مثل هذا، فضلًا عن أنك كنت طفلًا».

شاهدت الفيلم بالفعل، وشعرت وكأنها المرة الأولى. إنه نوع نادر من الأفلام يتجاوز آلية السرد والحبكة؛ هناك معانٍ عميقة وقضايا كبرى ومشاعر وجودية دفينة خلف كل كادر يمر أمام الشاشة. إنه فيلم ملعون بامتياز، يكمن الشيطان في كل تفاصيله.

يعاني بطل الفيلم "إدوارد نورتون" من الأرق، بسبب حالة الخواء التي تخلفها وظيفته، بالإضافة إلى ارتداء القمصان البيضاء، والجلوس بالمكتب، وشراء كل المقتنيات المنزلية التي يمكن شراؤها، وهو ما يُعبَّر عنه بوضوح على لسان "تايلر دردن" (براد بيت)، فيقول: «نعمل في وظائف لا نحبها، لنشتري أشياء لا نحتاجها».

الأرق والسأم، أحد متاعب وسمات الحياة التي نعيشها اليوم، ووفقًا للفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، فإن الإنسان في العصر الحديث كالطفل والكلب في الحدائق العامة، يرغب في الركض واللهو واحتضان الطبيعة، إلا أنه بدلاً من ذلك يلتزم بوظيفة لا إرادة له فيها، ويمارس الجدية بعيدًا عن اللهو، لأنه تركه خلف ظهره بعد أن تجاوز مرحلة الطفولة.

جاك (وهو الاسم الجماهيري الذي يشتهر به بطل الفيلم، والذي لا يُذكر اسمه)، يعتقد -بناءً على نصيحة طبيبه النفسي- أن جلسات الدعم النفسي، مع مجموعات مصابين بالأمراض العضوية على وشك الموت، هي حل لمشكلاته مع النوم، وبالقطع ينام كالأطفال إلى أن يشعر بالتهديد، مع وجود "مارلا سينغر"، وذلك بسبب تشابهها معه، فكلاهما كاذب، ولا أحد منهما مصاب بسرطان الخصية، أو مرض آخر يتجمع المصابون به في مجموعة دعم. لا يشعر بالراحة في وجودها، لأنها تعري حقيقته، ويطلب منها تقاسم أيام حضورهما، حتى لا يلتقيا مرة ثانية.

ولا تبدأ عقدته بالانفراج إلا حين التقائه بـ"تايلر دردن"، الذي يطلب منه أن يلكمه، ويتحرر من قيود الحياة في المدينة وقواعد الحضارة. تتطور التجربة لتصبح ناديًا من الرجال، يلتقون ويتبادلون اللكمات، لا فائز ولا خاسر. كل ما في الأمر هو صرخة ذكورية من رجال مكبّلين بقيودهم.

يحمل الفيلم دعوة لاستيقاظ الرجال وعدم الاستسلام للضيق والكبت الاجتماعي، بل والتحرر من الديون الناتجة عن ثقافة العصر الاستهلاكية، فكلنا عبيد لهذه الثقافة التي تدفعنا لشراء منتجات كثيرة لا نحتاج إليها عن طريق الأقساط، ثم نعمل ونعيش من أجل تسديد هذه الديون. وعليه، فهدف دردن هو تفجير شركات الائتمان، وتحرير الجميع من ديونهم.

عقب اللقاء مع دردن في البار، يتجلى عالم نادي القتال أمام الشاشة، بداية من الإضاءة الخافتة، إلى زجاجة البيرة فوق كابينة الهاتف، والسيارة القديمة، بينما أكوام القمامة متراصة يمينًا داخل صندوق كبير، عليه لافتة تحذيرية من إلقاء القمامة بشكل غير قانوني، ويسارًا مجموعة براميل صغيرة، وأكياس قمامة سوداء كبيرة مربوطة أمامها وبجوارها وأعلاها. 

اعتمد الفيلم على الإضاءة الخافتة داخل ساحة القتال الصغيرة ومنزل دردن المهجور الخرب، والإضاءة الطبيعية في المشاهد الخارجية النهارية القليلة، وفي بعض المشاهد الداخلية. مع مارلا، سُمح بمرور الضوء الطبيعي من النافذة، وعند التركيز معها نجد لها مجموعة من الكادرات الرائعة. أعتقد -بما أنها المرأة الوحيدة في عالم الفيلم- أنها كانت تستحق ذلك جدًا.

تَشَكّل عالم الفيلم من خلال صورٍ تحرص على تجسيد العشوائية والقذارة والخراب، ومع هذا تبدو شديدة الجمال، في محاولة لإعادة تصوير القبح، وقلب مفهوم الجمال، كما لعبت المصابيح البيضاء الرخيصة دورًا أساسيًا في الإضاءة.

للمرآة حضور مميز في صناعة الصور، فعلى الرغم من كونها تحمل شقوقًا بارزة ومتسخة، فقد حضرت باعتبارها خلفية كادر محايدة، وأحيانًا كانت تعكس حوارات جاك ومارلا. تكوين الصور بالفيلم ممتلأ بالعلامات، مثل ظهور صورة القرد الضاحك في مكتب رجال الشرطة، مما يشير إلى أنهم ضمن مجموعة دردن التخريبية.

ويدور الفيلم حول مارلا، التي تُبعد جاك عن إدمانه (حلقات الدعم)، كأنها تخرجه من جنته المزيفة، وتايلر، الذي يكشف لجاك طريقه إلى الحرية، بالتخلي عن آماله، ومواجهة الألم، والكف عن محاولات السيطرة على أي شيء. 

وما يجعل الفيلم مفتوحًا للفهم والقراءة مع كل مشاهدة جديدة هو عمق رسالة دردن، فهي دعوة وجودية تسعى لتخليص الإنسان من أفكار الخطيئة والخلاص، في عالم غابت عنه الحروب الكبرى، فكل الحروب التي علينا خوضها هي حروب نفسية، والكساد الكبير هو حياتنا، في ظل ضبابية إجاباتنا حول أسئلة من قبيل: من نكون؟ وماذا نريد؟

ما بين عامي 1883 و1885، ألّف فريدريك نيتشه الأجزاء الأربعة لكتابه "هكذا تحدّث زرادشت". لم يستطع نيتشه توزيع 40 نسخة طبعها من أمواله الخاصة، ولم يحقق الكتاب أي نجاح في حياة مؤلفه، وبعد موته بعدة سنوات، أصبح أحد أشهر كتب الفلسفة في العالم. هذه هي تقريبًا نفس قصة فشل "نادي القتال" في السينما، ثم نجاحه الكبير في الفيديو والتلفزيون، ليتحول إلى فيلم أيقوني.

وفي عام 2015 -أي بعد موت نيتشه بـ 115 سنة- أصدرت الباحثة التونسية وأستاذة الفلسفة فوزية ضيف الله كتاب "كلمات نيتشه الأساسية"، والذي تحاول فيه إعادة قراءة الفيلسوف الألماني، بعنوان جانبي هو "كيف نقرأ نيتشه اليوم؟" قاصدة بـ"اليوم" كل عملية قراءة تُنتج فهمًا، بمعنى أن نصوص الألماني فيها ما يجعلها صالحة لكل زمان. 

اعتمد نيتشه في كتابه على عدة أفكار رئيسة ضد القيم المجتمعية السائدة، وحاول في طريقة صياغته محاكاة طريقة كتابة الإنجيل بالألمانية، فخرج كتابه عبارة عن جمل شاعرية، مقتضبة ومكثفة، ولها معانٍ عديدة، على لسان شخصية دينية معروفة مثل زرادشت. 

أما "نادي القتال"، فهي رواية صدرت في عام 1996 لأديب أمريكي يكتب للرجال الذين لا يقرأون. إنه نوع من أنواع أدب الشوارع، يحفر بحثًا عن مظاهر البدائية وعالم ما قبل التحضر، معتمدًا على ثقافات العالم القديم، وبعض الأفكار الدينية القديمة، مثل انضمام الرجال إلى المعابد بعد رفضهم عدة مرات، وإصرارهم على الالتحاق بها. إنها فكرة كان معمولاً بها في المعابد البوذية، وكانت نفسها شرط انضمام الرجال لعصابة الفوضى بقيادة تايلر في الرواية.

يحكي الفيلسوف الفرنسي "جيل دولوز" أن قراءة شخصية زرادشت تمنح عقولنا فكرة حوله، إلا أن السينما تجعل من هذه الفكرة صورة مجسدة، يمكن أن نراها بدلاً من تخيلها، وهو ما حدث مع "بولانيك" مؤلف "نادي القتال" عندما جسدت السينما فكرته، إذ صرح بأن سيناريو الفيلم لفت انتباهه إلى أشياء لم تخطر في باله. 

أعتقد أن تايلر دردن شخصية دعوية مثل زرادشت (أو نيتشه)، فلا تختلف رسالة كل منهما في عمقها الروحي؛ رسالة زرادشت تنبيه للبشرية من خطر انحطاطها الروحي، ورسالة دردن صرخة غاضبة في وجه الرأسمالية من أجل الحرية. ومع أن الفيلم موجه بالأساس للجيل X، إلا أنه يعبر عني أنا وأبناء جيلي Y، وربما لا يبعد كثيرًا عن حال الجيل الأصغر Z.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

أ. محمد سميح
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا