يتسرب في نقاشاتنا الفكرية مؤخرًا ما أصاب النقاش المجتمعي في أمريكا من شلل، إذ لا يُقدر لأحد الحديث في أي نقاش ثنائي سوى المعذبين، ولا يصح الحديث إلا من زاويتهم فقط، أما أصحاب الامتيازات فعليهم أن يستمعوا بإذعان ووجل وخشوع حتى لا تغدو امتيازاتهم لعنة عليهم، كما أنه على مَن كَسَته الحياة بالرماد في المنتصف أن يستمع أيضًا بصمت حتى ينتهي المعذب من حكاية آلامه وجذورها وحلولها، وفور ما ينتهي هذا المضطهَد، يُسمح للبقية أن يهزوا رأسهم سمعًا وطاعة، في أسلوب لا أرى فيه أي تقدم للأمام، ولا يسمح لنا حقًا باكتشاف جذور مشكلاتنا، ومع ذلك كنت أفهم التشنج في طرحه، بل ولا أقف مضادًا له على الجملة، إنما أرى وجاهة في أن هناك مرحلة لا تستطيع معها استيعاب عذابات الآخرين، ومن الأفضل لك ألّا تحتل أنت النصيب الأكبر من المحادثة حتى تعي ما يجري حقًا، ومع ذلك فإنني دائمًا ما استثنيت السينما من هذه المعادلة، فكيف ترى نفسك مُخرجًا إن لم تستطع تجسيد حياة غيرك في كادرات كاملة متسلسلة؟
لكن الرجل يبهرك أحيانًا بحدود ما قد يفعله في تجسيد المرأة ومعاناتها مجتمعيًا وسياسيًا في فيلمه، إذ تستطيع دائمًا تمييز شخصيات النساء اللواتي يرسمها الرجال في أعمالهم، فإما تجدها رمزًا للتمرد وإما رمزًا للخضوع، وإما رمزًا للشر، وإما رمزًا للخير، لا أنصافَ حلول في دوافعها ولا تعقيدَ في تركيبتها، وحواراتها مباشرة لا تختصر فيها أبدًا.
وفي ظل هذه المعضلة الثابتة التي تراها بادية في كل حين في أفلام المخرجين الذين نذروا عدساتهم لتجسيد رسائلهم التقدمية، يطل علينا المخرج الأردني الشاب أكرم الرشيد بأولى تجاربه الروائية الطويلة في فيلم «إن شاء الله ولد» (2023)، حاملاً في طياته قصة جميلة ومفارقة لافتة تدور عن سيدة تسعى للإنجاب بعد أن أطالت الانتظار بعد خلفتها البكرية، وتَعُدّ أيام التبويض عدًا لزيادة فرص النجاح وسط تجاهل وتكاسل من زوجها، الذي تُفاجأ في الصباح التالي أنه قد تُوفي على فراشه فجأة، وتبدأ الزوجة في ميتمه مغامرة لحماية نفسها وابنتها وحقوقهما من عبث زوجها الذي كانت تظن أنها تعرفه من جهة، وطمع أخيه «رفقي» الذي تحاصره الدنيا بأزماتها المادية من جهة أخرى.
هذا الكرب الذي ألمّ بأم نورة يتكشف لنا شيئًا فشيئًا بأسلوب سردي لطيف، يبدأ أولاً بزيارة رفقي عزاءً لهما، وإعلانًا بأنه السند الذي تحتاجه نورة وأمها فيما تبقى لهما من حياة، وفي حديث هادئ لحق المواساة والعزاء، يحكي رفقي عن أن المرحوم قد تأخر عن سداد الدفعات الأخيرة من قسط السيارة التي اشتراها منه لكون المرحوم لم يأخذ شيئًا من رواتبه في الشركة في الأشهر الخمسة الماضية، وبعد برهة يتجدد النقاش ليشمل أيضًا نصيب رفقي من الميراث لكونه عاصبًا ونورة وحيدة بلا أخ يحجب تعصيبه، فتقول له أم نورة أن لها نصيبًا في هذا البيت قد اشترته من زوجها بما ساهمت هي به من مالها الخاص، فيطلب منها رفقي ورقة تثبت ذلك، وما إن تبحث عنها حتى تُفاجأ بعد أن وجدتها أن زوجها لم يوقّع، مما يجعلها لا محالة بلا مأوى، وما لها منجاة عن ذلك إلا أن يكون لها ولد يحجب عصبة رفقي.
ونوال أو أم نورة في ظل ذلك كله وقبله حتى، تعمل ممرضةً لدى عائلة أردنية مسيحية تقيم عندهم النهار كله فيما تعود ابنتها إلى جارتهما لرعايتها حتى انتهاء الوردية، ومن هذه الزاوية نكشف دوائر أخرى للفيلم هي الأضعف مع الأسف، فنجد ابنة العائلة في حنق من زواجها الذي لا يمكنها إنهاءه، ونرى اختصاصي العلاج الطبيعي حسن المغرم بنوال والذي يحاول التقرب إليها، وبين هاتين الشخصيتين تقترب نوال من حقيقة عالمها بعد أن أحاطت نفسها بفقاعات تحجب عنها الرؤية، فتُصادمها لورين -بكل مباشرة في الحوار مع الأسف- بمشكلات الزواج العميقة التي لم تكن نوال تعلمها، ومع التنقيب في ماضي زوجها تبدو لها هذه المشكلات فاقعة بلا أي حجاب، في حين يظهر حسن بمحاولات حثيثة بلا أي ملل ليبدي لها مشاعره وكأنه فارس نبيل لطالما أساءت هي فهمه في مرات كثيرة.
والحقيقة أن الفيلم حاول أن يحقق -بإقحام هذه الدوائر- أهدافًا نوعية مثل طرح مقاربة تشخص مشكلة المرأة في مجتمعنا، العابرة للدين والخاضعة لهيكل أكبر، وكذلك دفع الشخصية الرئيسة للتحرك إلى الأمام قليلاً لكونها شخصية سلبية وضعيفة الكتابة، لا تجد في داخلها ما يحركها، وذلك على الرغم من إحاطة الشخصية بماضٍ متردد وجبان وواقع وحاضر متردد وجبان كذلك، والذي قد لا يتسق مع ما تواجه به الشخصية واقعَها، إذ تجد نفسها مصرة على حماية نصيبها العادل من الميراث، حتى لو اضطُرت إلى خداع الجهات القضائية وتضليلها، وذلك من دون أي تردد أو خوف من العواقب، في مسار غير تطوري بالمرة.
وفي عز محاولاتها تزييف حملها وجولاتها الشرسة في المحاكم مع رفقي، تتوطد علاقتها بحسن بعد محاولات طويلة (ومريبة) من الأخير، والتي تُثبت بشكل أو بآخر أن هناك قصدًا مريبًا خلف تلك الشخصية، فلم أرَ إعجابًا بقدر ما رأيت تحرشًا، وعلى كل فإن هذه التحركات المريبة، واكتشاف نوال خيانةَ زوجها لها، ينشأ بينهما رابط قصير أثناء تعليم حسن لنوال القيادة في الصحراء، وما إن تنتهي تلك الحصة بملاطفات (مريبة) من حسن تبعث نوال على الندم، يعيد حسن نوال إلى منطقتها، الأمر الذي يكشف لرفقي منحىً يتّهمها فيه، غير أن هذا المنحى الذي دوخ نوال على ابنتها لم يُجدِ، ولو لم ترَه لَما غيّر شيئًا في الفيلم، ليثبت لنا سير الأحداث مرة أخرى أن دوائر البيت المسيحي لم تكن مهمة حقًا، فلا لورين قد نجحت في تغيير شيء من مسار القصة، ولا حسن نجح في دفع شيء إلى الأمام، مما يجعلك تتساءل حقًا، ما هي لازمة هذا الضعف الذي أصاب المخرج عمله به؟
في رأيي أن هذا الضعف أُضيف بإلحاح للفيلم لكون الشخصية الرئيسة نفسها فارغة وبلا أي تعقيد، وكأن المخرج لم يكتب وصفًا لها، ولا معالجةً ترسمها وتنعكس على مسارها، إنما وجودًا ضعيفًا ورحيلاً ضعيفًا، وهذا عكس ما صنعه المخرج تمامًا مع رفقي، الذي كانت شخصيته المركبة واضحة، وكان تطورها ملحوظًا ومتناغمًا ومتسقًا مع تصرفاتها.
وقد انتهى الفيلم نهاية سعيدة وحالمة، حاولت أن تجُبّ ما وقع في نفسك من نقاط الضعف التي اجتاحت الفيلم لتحبه، وأظن أن أكرم نجح في ذلك، لينتهي فيلم «إن شاء الله ولد» واعدًا بمخرج قادم، وبفيلم يُضاف إلى مكتبة أفلام عذابات المرأة التقليدية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش