النقد

مايكل أنجلو أنطونيوني: خسوف الإنسان في عصر الحداثة

لا أزال أتذكر بنصوعٍ المرة الأولى التي سمعت فيها اسم «أنطونيوني» في أحد لقاءات محمد خان. ما جعل الاسم يعلق في ذهني هو طريقة نطق خان الطريفة له، بالإضافة إلى الحماسة التي تحدث بها عنه وعن مدى تأثيره فيه، وهو الأمر الذي يؤكده خان في كتابه «مخرج على الطريق»، حيثُ قال إن فيلم المغامرة لأنطونيوني هو الفيلم الذي جعله يفكر فيما خلف الكاميرا بعدما كان كل طموحه أن يصبح ممثلاً؛ أي إنه ربما لولا أنطونيوني والمغامرة لما حظينا بمحمد خان مخرجًا. وللتشابه العجيب بين المخرجين أن خان ذهب إلى لندن أول الأمر لدراسة الهندسة المعمارية قبل أن يحوِّل الدفّة لدراسة السينما، مثله مثل أنطونيوني الذي صرح في أكثر من مناسبة أنه لو لم يصبح مخرجًا، لأصبح مهندسًا معماريًّا. إلا أنني لست في معرض الحديث عن أوجه التشابه والتأثر بين أنطونيوني وخان، إنما أحاول أن أقرأ وأنظر في الأسباب التي كرسَّت أنطونيوني مخرجًا بهذا الحجم والتأثير.
في مطلع ستينيات القرن الماضي دشَّن أنطونيوني بفيلمه «المغامرة» (1960) ومعه فيلليني بفيلمه «الحياة الحلوة» (1960) عصرًا جديدًا للسينما الإيطالية بعد السنوات الذهبية للواقعية الجديدة. فيلمان يتشابهان للغاية في الجوهر: هجاء لخواء الحياة في عالم الحداثة، لكن يختلفان أقصى اختلاف في الأسلوب؛ فيلليني بأسلوبه المعروف في المبالغة والتهكم والحركة السيّالة المتدفقة، وأنطونيوني بأسلوبه الزاهد الاقتصاديّ حيث كل شيء محسوب بعناية فائقة. في العامين التاليين أتمَّ أنطونيوني ثلاثيته الهجائية للحداثة بفيلمي: «الليل» (1961) و«الخسوف» (1962). في هذه الثلاثية التي يروق لي تسميتها ثلاثية «الاغتراب»، يعيد أنطونيوني تعريف ماهية السرد السينمائي عن طريق تطويع الصورة بطابع حداثيّ يكسوه التجريد، مبتعدًا عن قالب السرد النمطي المعتمد على الحبكة والصراعات، وعن الواقعية الاجتماعية التي طغت على السينما الإيطالية في ذلك الوقت. سعى أنطونيوني حثيثًا خلال هذه الثلاثية إلى ضخّ مفردات إبداعية جديدة في معجم السينما، وحاول أن يخلق أسلوبًا يستطيع عبره إدراك تحديات عصره، دون أن يجحد الإرث السابق عليه، ولكن أيضًا دون أن يتقيد بتقاليده الشكلانية والموضوعية.

ثلاثية «الاغتراب»:

قد يتفق معظم النقاد أن الاغتراب هو الحالة الوجودية المهيمنة، والمحدد الاستطيقي1 الأبرز الذي تبناه أنطونيوني للتعبير عن شخصياته في عالم الحداثة وما بعد الحداثة. أن تكون مغتربًا بالنسبة إلى أنطونيوني يعني أن تعيش في عالم صناعيّ («الصحراء الحمراء»)، يطغى عليه الركض الجنوني وراء المال («الخسوف»)، ويفشل هذا العالم في توفير بيئة خصبة يمكن أن تنمو فيها مشاعرك. يُعرِّف عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر الاغتراب بأنه حالة تصيب النفس عندما يحبطها العالم الذي لا يشبع رغباتها ولا يوفر لها ملاذًا روحيًّا آمنًا، فتنغلق النفس على نفسها، وتنسحب إلى حالة تأملية محاوِلةً أن تنظر في تغيراتها الداخلية التي طرأت إثر تغيرات العالم الخارجي، حتى تظلَّ متسقة مع نفسها وتعيد ترتيب أولوياتها. ولكن لماذا الاغتراب تحديدًا؟
أعتقد أن قراءات أنطونيوني المبكرة لفلسفات التاريخ المختلفة عند هيغل وماركس، كوّنت لديه وعيًا بأن التغيير في العالم الخارجي يجب أن يلازمه تغيير في النفس. ينطلق أنطونيوني من فرضية أن الذات تاريخية، لذلك هي تتأثر بالتحولات التاريخية، في مقاربة تشبه المادية الجدلية. وانطلاقًا من هذه الفرضية بالذات يمكن فك طلاسم أسلوبه الذي يراه كثيرون رتيبًا وشاقًا. رأى أنطونيوني أن السينما لم تتعامل كما يجب مع هذه التغيرات التي طرأت على البنية النفسية لنا -نحن البشر- إثر التغيرات الضخمة والقفزات السريعة التي طرأت على العالم الخارجي، ولذلك أتى أسلوبه متأملاً يحاول أن يدقق عن كثب ليكشف عن هذه التغيرات ويسجلها على الشاشة، ولذلك أيضًا كانت شخصياته مغتربة وحيدة منعزلة ليكونوا دليلنا في هذه الرحلة الاستقصائية عما طرأ وتغير في أنفسنا البشرية، ويكونوا دليلاً على هذه التغيرات في آنٍ.
اعتبر الفيلسوف الألماني هيغل أن للاغتراب وجهين: وجه سلبي وآخر إيجابي. الوجه السلبي يؤدي إلى العزلة غير البنّاءة، والوجه الإيجابي يؤدي إلى الإبداع والتمرد. في أفلام الثلاثية نلحظ نمطًا معينًا حيث تبدأ الأفلام الثلاثة بمشهد محاولة للتنصل من براثن المألوف: في فيلم «المغامرة» تحاول آنا الهروب من سلطة والدها، في فيلم «الليل» تحاول ليديا الابتعاد عن زوجها بعد فتور علاقتهما، وفي فيلم «الخسوف» تقرر فيتوريا الطلاق من زوجها. يتحقق الاغتراب السلبي في فيلمَي «المغامرة» و«الليل» حيث احتضان المألوف وجموده بنهايات باردة، في حين يتحقق الاغتراب الإيجابي في فيلم «الخسوف» إذ لا تذعن فيتوريا إلى إغراءات العودة إلى المألوف وتتمرد عليه، ولهذا ربما أسماها أنطونيوني فيتوريا، والذي يعني الانتصار.

الحسّ الروائي:

تنبثق من أفلام أنطونيوني معضلة حداثية، إذ تقف شخصياته على البرزخ ما بين الامتثال لجمود المألوف، واحتمالات المستقبل الغامض. يقول أنطونيوني -في كلمة ألقاها في مهرجان «كان»- إن العالم منقسم ما بين علم يتقدم وتقاليد رجعيّة، وإن الإنسان مُعلَّق ما بين النوستالجيا المُكبّلة والرغبة في مستقبل مختلف. ولذلك على السينما أن تشفق على مشاهديها من الميلودراما، وأن تتعامل مع الدراما بطريقة علمية عبر المقاربة ما بين الموضوع الرئيس للبحث العلمي: الطبيعة، والموضوع الأساسي للبحث الأخلاقي: الطبيعة البشرية. وفقًا لهذه الرؤية يمكن -مجازًا- التعامل مع سينما أنطونيوني بأنها علم تجريبي يحاول أن يرصد تغيراتٍ دقيقة، وأن كاميراه هي مجهره في هذا البحث الاستقصائي.
أفلام أنطونيوني تسأل الأسئلة الوجودية المعاصرة بحسٍّ روائي لا مسرحي، حيثُ الهدف ليس القصة أو الحبكة، بل سبر أغوار الشخصيات، وحيثُ بنية العمل الروائي ونبرته مكافئة للحوارات في إيصال المشاعر. ولا أجد شاهدًا ليعبر عن هذا الحس الروائي الذي أقصده، أفضل من ذلك التتابع الذي تهيم فيه ليديا من فيلم «الليل» في ضواحي مدينة ميلان بعد أن هربت من حفل التوقيع الخاص بزوجها. تمشي ليديا في الشوارع بلا وجهة محددة، أو على الأقل لا نعرف وجهتها. قد يتبادر إلى أذهاننا أنها ربما في طريقها إلى لقاء حبيب جديد، أو ربما قد تتورط في حادثة ما. في طريقها تمر ليديا بسائق حافلة يأكل بشراهة وتتعجب من شهيته النهمة، تمر برَجلين يضحكان على نكتةٍ ما لم تسمعها ولكن تشاركهما الضحك على أية حال، تمر بطفل يبكي ولا تنجح في طمأنته، تشاهد قتالاً عنيفًا بين شابين تنجح في إيقافه، ثم تشاهد مجموعة من الأطفال يطلقون الصواريخ.
إذا طبقنا القواعد الأكاديمية للدراما على هذا التتابع، لن نمسك بأي بناء دراميّ تصاعدي، ولكن إن نظرنا إلى هذا التتابع على أنه تجسيد مصغر للحياة واحتمالاتها، لرأينا ليديا ترنو إلى أن تعيش مثل هؤلاء الناس، تروم أن تحيا حياتها على نحو طبيعي؛ تأكل وتضحك وتبكي وتتقاتل. نثر مرئيّ قد نتوهم أننا نرى خلاله لا شيء، بيد أننا في الواقع نرى كل شيء. أو كما قال تاركوفسكي: «لا توجد هناك حركة في أفلام أنطونيوني، وهذا هو معنى الحركة في أفلام أنطونيوني». لا يعلِّق أنطونيوني على ما نراه، وبذلك بالذات هو يعلِّق على ما نراه.

المعماري الذي لم يكن:

تلعب المناظر الطبيعية والمواقع دورًا محوريًّا في عالم أنطونيوني، فقد قال هو نفسه بأن أفلامه تنطلق من مكانٍ ما يود أن يستكشفه، فنرى مثلاً الجزيرة المهجورة في فيلم «المغامرة»، ضواحي مدينة ميلان في فيلم «الليل»، المدينة الصناعية في فيلم «الصحراء الحمراء»، والصحراء في فيلم «المسافر». نلاحظ التناقض في هذه المواقع ما بين مناظر طبيعية ومواقع بناها الإنسان، وفي الجدليّة ما بين هذين النقيضين تكتسب أفلامه عمقًا وثراءً قلَّما تجود علينا السينما بمثلهما، بل ويضيف لهذه الجدلية عنصرًا ثالثًا ألا وهو الطبيعة من صنع الإنسان، مثل ما فعله عندما اختار أن تكون المناظر الطبيعية مرسومة في فيلم «الصحراء الحمراء» لتخدم الجو النفسي للفيلم، ومثل هذه الصورة من فيلم «الليل» التي نرى فيها الجميلة مونيكا فيتي أمام جدارية مرسومة لمنظر طبيعيّ.
كما يطل علينا أنطونيوني المعماريّ من خلال لغته البصرية المتفردة عبر تأطيره المحكم للصورة وتكويناته الهندسية المدروسة بعناية، حيث الحركة اقتصادية وكل إيماءة لها معنى وكل نظرة لها مغزى. ويسطع إتقان أنطونيوني المحكم للتأطير في استخدامه للنوافذ والأبواب والشرفات في تأطير شخصياته، ربما بوصفها نقاط تفاعل بين الداخلي والخارجي، أو نقاط تقاطع بين الحضور والغياب، بين التواصل والاغتراب، وأحيانًا حتى نقاط التقاء بين الوجود والعدم.

قال الممثل جاك نيكلسون ذات مرة: «بينما تحتفي السينما عمومًا بالطريقة التي نتواصل بها مع بعضنا الآخر، ترثي سينما أنطونيوني انعدام وفشل هذا التواصل». يأتي إذن استخدام أنطونيوني لهذه الهياكل الهندسية الحدّيّة والخطوط الرأسية الواضحة في تكويناته لعزل الشخصيات عن بعضها داخل الصورة، بوصفها حواجز مادية تعكس العوائق النفسية التي تقف حائلاً في طريق التواصل.

هل اجتازت أفلام أنطونيوني اختبار الزمن ولا تزال تتحدث إلينا؟

حتى الآن وبعد ستين عامًا على صدورها، لا تزال تمتاز هذه الأفلام بالطزاجة الفنية والموضوعية، لا تزال لغتها البصرية يانعة، تخاطبنا ببلاغة عن وضع الإنسان في العالم الحالي وعن غربته الميتافيزيقية عما حوله. لا يزال أسلوب أنطونيوني مرجعًا للدرس والتحليل، ولا تزال تأملاته ناصعة وصالحة حتى يومنا هذا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

1.علم الجمال أو الاستطيقا هو دراسة فلسفية للخصائص التى تبحث فى جماليات الأشياء أو عن طبيعة القيم الجمالية و الأحكام المتعلقة بها
أ. محمد مصطفى
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا