مؤتمر النقد السينمائي: آفاق التجربة السينمائية بين الإطار والصوت
افتتحت هيئة الأفلام الدورة الثانية من مؤتمر النقد السينمائي الدولي، الذي يستمر حتى 10 نوفمبر، ويجتمع فيه نخبة من النقاد والمخرجين والمهتمين من داخل المملكة وخارجها. يحمل المؤتمر هذا العام عنوان “الصوت في السينما”، ويهدف إلى استكشاف الجوانب الفنية والفكرية المرتبطة بتوظيف الصوت داخل الفيلم، من موسيقى تصويرية إلى مؤثرات صوتية، مع التطرق لدور هذه العناصر الصوتية في تشكيل تجربة المشاهد. يأتي التركيز على الصوت كمحاولة للفت انتباه الفاعلين في السينما السعودية، من مشاهدين وصنّاع ونقّاد إلى أبعاد سينمائية مختلفة، وتدفع للاستفادة من هذه العناصر وإيجاد بصمة فنية مميزة من خلالها.
الصوت كجسر بين الفكرة والشعور في السينما
جاء اختيار “الصوت في السينما” كموضوع رئيسي لنسخة هذا العام من مؤتمر النقد السينمائي ليعكس رؤية تتجاوز الجوانب التقنية؛ فالمنظمون يدركون أن الصوت، على غرار الصورة، يمكن أن يكون جسراً فعّالاً بين الفكرة والشعور، ليسهم في إيصال العمق النفسي والمعنى الروحي للعمل السينمائي. في هذا السياق، قد يُستحضر حديث المخرج الروسي أندريه تاركوفسكي من كتابه "النحت في الزمن": “يجب أن يصنع الصوت صدى في روح الإنسان، ليصبح أكثر من مجرد وسيلة، بل جزء من التجربة الحسية العميقة.” هنا، لا يكون الصوت عنصراً تقنياً بحتاً بل مساحة تتيح للمشاهد الغوص في تفاصيل العالم الداخلي للشخصيات والأحداث.
والسينما العالمية طوّرت على مدار عقود أساليب استثنائية في استخدام الصوت كأداة تعبيرية مستقلة، تشكّل جنباً إلى جنب مع الصورة بنية الفيلم. ومن هذا المنطلق، يركز المؤتمر على تحليل ونقد الحضور الصوتي في الأفلام، ويستعرض آفاق تطوير هذا الحضور ليخدم السرد القصصي ويضيف إلى طبقات المعنى، بحيث يصبح الصوت عنصراً يعزز من تفاعل الجمهور مع التجربة السينمائية ككل.
هيئة الأفلام ورؤية دعم النقد كركيزة لنهضة السينما السعودية
في افتتاح الدورة الثانية من مؤتمر النقد السينمائي الدولي، قدّم المهندس عبدالله بن ناصر القحطاني، الرئيس التنفيذي لهيئة الأفلام، كلمة الافتتاح التي أكد من خلالها التزام الهيئة بتطوير صناعة الأفلام في السعودية عبر دعم النقد السينمائي كأداة لا غنى عنها لتطوير الإنتاجات المحلية. وأشار القحطاني إلى أن تأسيس صناعة سينمائية مستدامة وقادرة على المنافسة يتطلب نهجاً شاملاً يتجاوز مجرد إنتاج الأفلام إلى بناء قاعدة ثقافية تقدر النقد باعتباره حجر الزاوية في رفع جودة الأعمال السينمائية.
تتماشى هذه الرؤية مع أهداف رؤية السعودية 2030، التي تسعى لإثراء المحتوى الثقافي والفني في المملكة، وإيجاد مساحة للمواهب السعودية للإبداع وتقديم قصص محلية بروح عالمية. ومن هذا المنطلق، ترى هيئة الأفلام أن دعم النقد السينمائي لا ينحصر في تحليل الأفلام بعد إنتاجها، بل هو وسيلة تساهم في تشكيل الوعي الفني للمبدعين، مما يساعدهم على اتخاذ قرارات فنية أكثر وعيّاً وتطوير أساليبهم السردية والبصرية والصوتية.
ويأتي تنظيم مؤتمر النقد السينمائي كخطوة استراتيجية من الهيئة لتعزيز فهم العناصر الفنية التي تميّز السينما كوسيلة فنية، من خلال ورش العمل والجلسات الحوارية التي تجمع النقاد والمبدعين، مما يخلق فرصة للتعاون وتبادل الأفكار. القحطاني أكّد في كلمته أن الهيئة تسعى لجعل النقد جزءاً من البنية الثقافية التي تحيط بصناعة الأفلام، قائلاً: “هيئة الأفلام تولي اهتماماً كبيراً بتأسيس وتطوير واستدامة قطاع أفلام قوي وحيوي”، مضيفاً أن النقد السينمائي يمكن أن يكون نافذة جديدة لصناع الأفلام تمكّنهم من فهم أعمق لتجاربهم الفنية وفتح آفاق أوسع لأعمالهم.
وبهذا، فإن الهيئة تأمل أن يساهم النقد في بناء وعي سينمائي لدى الجمهور والمبدعين على حدٍّ سواء، بحيث لا يقتصر دور النقد على تقييم العمل بعد اكتماله، بل يصبح جزءاً من العملية الإبداعية، مؤسّساً لثقافة سينمائية تقدر التحليل الفني كعامل مهم لتطوير صناعة سينما سعودية ذات طابع مميز وهويّة أصيلة.
كما قدّم المخرج السعودي عبدالله المحيسن رؤيته حول النقد ودوره في تطوير المخرجين، مؤكدًا على أهمية النقد الواعي في مساعدة صناع الأفلام على تجاوز الأخطاء وتعزيز نقاط القوة. يرى المحيسن أن النقد ليس مجرد تقويم للعمل، بل هو شريك أساسي في بناء الإنتاج السينمائي عبر مراجعة وتحليل كل عنصر من عناصر الفيلم، بما فيها الصوت. بعد كلمته، تم عرض فيلمه الوثائقي “اغتيال مدينة”، الذي قدّم للجمهور مثالاً عمليًا على كيفية توظيف الصوت في العمل الوثائقي لإيصال الرسائل، وتبع العرض جلسة حوارية لتبادل الأفكار حول الفيلم ودور النقد في تحسينه.
آفاق جديدة للسينما السعودية عبر النقد الصوتي
من خلال انطلاق الدورة الثانية لمؤتمر النقد السينمائي الدولي، تبرز أمام السينما السعودية فرص حقيقية للتحوّل والارتقاء عبر النظر في دور الصوت كعنصر أساسي في بنية الفيلم. وهو ما يفتح أمام صناع الأفلام أفقاً جديداً لتوظيف هذه الأداة الفنية في خلق أبعاد معبرة ودقيقة، ترتقي بتجربة المشاهد وتمنحه تفاعلاً أعمق مع العمل السينمائي. وبينما يواصل المؤتمر فعالياته، يصبح الصوت محطًا لأنظار نقاد السينما وصناعها على حدّ سواء، باعتباره ليس مجرد أداة تقنية، بل جزءًا من لغة السينما التي تمتد بين الصورة والفكرة.
الاهتمام الكبير من هيئة الأفلام بتعزيز النقد السينمائي في المملكة، باعتباره الركيزة التي تساهم في بناء صناعة سينما محلية قادرة على التأثير والتنافس على الساحة العالمية، يعكس رؤية استراتيجية وطموحة. لقد بدأت الهيئة بالفعل في تفعيل هذه الرؤية عبر الأنشطة والمؤتمرات التي تتيح تفاعل المبدعين والنقاد في بيئة تبادل معرفي فاعل، ما يساهم في بناء الجسور بين صناع الأفلام والجمهور، ويثري الفنون السينمائية في المملكة.
ليظل الصوت، كما هي الصورة، أحد مفاتيح التفاعل مع التجربة السينمائية، ونجاح المؤتمر في تسليط الضوء عليه يفتح أمام السينما السعودية خصوصاً والسينما العربية بصورة عامة آفاقاً جديدة نحو العالمية، دون التنازل عن أصالتها وهويتها الثقافية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش