إن مطمحنا في سلسلة المقالات التي نحاولها لم يكن سوى تتبع البدايات والأوائل، أو المداورة حولها. ولعل مبعث ذلك هوس شخصي بالبدايات، فثمة إحساس باطني دائم بأن كل خطوة وإن كانت في منتصف ما، هي بداية. حتى ولو كانت الخطوة تمضي نحو نهاية ما، فتلك النهاية بذاتها بدايةٌ من جهة أخرى. ما دامت الخطوة في السير، فإن السير ليس خطّيًا إلا كضرب من التطمين للنفس، بل هو غالبًا دائرة: «سرتُ دهرًا ولم أزل في مكاني/ أتُراني أسيرُ في دورَانِ»، كما قال الصافي النجفي. قد يكون هذا الإحساس التراجيدي بالمراوحة الدائرية في نقطة ما بعينها هو الأصل، ولعل «كامو»، في نهاية المطاف، مُحقٌّ بخصوص سعادة «سيزيف». هذا من جانب شخصي، لا يعني الكثير كوزن، ولا الكثيرين كعدد. إنما هو إضاءة لجانب أظنه واجبًا تجاه القارئ. أما لو ذهبنا إلى ناحية موضوعية (كما تسمّى) فإن الرأي ينحو إلى أن البدايات هي كل شيء وما بعدها ليس إلا تنويعات. فإن قلنا بأن المسير كله دائري فليس ما بعد البداية إلا توسيعًا لهذه الدائرة، لا خروجًا عنها، إلا فيما ندر، لئلا نكون دوغمائيين والعياذ بالله!
أعيد التذكير بهذا لنيتي بالعودة إلى ما تعنيه السينما في مفهومها البكر، الأوليِّ، مجرّدة من كل طبقات (أدران؟) التسويق وعدد المشاهدات وشبابيك التذاكر وجذب الجماهير.. إلخ إلخ. لست أعارض هذا، فليكن العالم كما هو، غير مجدٍ في مِلّتي -معتذرًا للمعري- محاولة تغييره. اللهم أن الفكرة الأساس هي المحاولة في العودة إلى بداية الفكرة، ما قبل الخطوة الأولى حتى. إن الفن لمجرد الفن، وبرغم كونه مفهومًا حديثًا، بالقياس إلى تاريخ الفن العريق، يظل البذرة الأولى. كل فنان، في المحصلة، يريد التعبير عن نفسه، إنها الأزمة الكبرى. كيفية التعبير، وماهية تلقيها من الطرف المُعبّر له، وما بينهما من مشكلات الوسيط الفني (سينما، كتابة، صوت.. إلخ). إذن، فقد صدق «بيسووا» عندما قال ساخرًا: «الفن من أجل الفن؟ لا.. إنه الفن من أجل الفنان». صحيح تمامًا، ولربما من هنا يأتي التشابه ما بين النبي والفنان، على اختلاف الطريقة والهدف الأخير.
الفنان، في لبنته الأولى، ليس إلا حالمًا والسلام. وما يجعل الحالم فنّانًا هو تحويله لتهويماته وأحلامه إلى عمل محسوس. طيب.. ألا يقترب هذا من المفهوم البدائي للسينما؟ أنها حلُمٌ مصوّر. لو اتفقنا على هذا، فسنوغل أكثر وأبعد -حتى لو لم نتفق؛ آسف!- في المفهوم ناظرين إلى كامل تاريخ السينما بوصفه معجمًا ضخمًا للأحلام، حتى في أشد تمثلاتها ابتعادًا عن الحلمية والتجريد كما في السينما الواقعية، فلو قلبنا الفيلم الواقعي على وجهه فسوف نرى عمودَه الفقري خيطًا من الأحلام. ألم يكن الواقعي طريقة لقول واقع آخر ليس الذي في الشارع؟ هل الواقع الواقعي يحتوي على مشاهد وتتابعات وقص ولصق وموسيقى؟ ثم إن الأهم من كل التفاصيل التقنية، في قلب المضمون، أليس الفيلم الواقعي صرخةً في وجه الواقع المُعاش.. قولًا لما لم يُقَل.. فضحًا لظلامه وظلمه.. وقفة اعتراض؟ وماذا يعني كل هذا؟ مطالبة بواقع آخر، أي: حلم.
لقد ابتدأ تعريف السينما، أو في الأقل النظر إليها، بصفتها تأطيرًا لما يراه النائم. وبين النائم والمُشاهد علاقة وثيقة في أن كليهما هارب من واقعه (هذا عدا النوم في حضرة فيلم ممل) فالداخل إلى النوم يوقن بأن ما سيراه ليس حقيقيًّا، مثله مثل الداخل إلى السينما، غير أن الحقيقي الواقعي ضاغط، وكما أن في النوم مستراح ففي السينما كذلك. من هنا، ربما، تأخذ السينما أفضليةً عن بقية الوسائط الفنية، فمتى اقترب الوسيط الفني أكثر من الحلم والتجريد كان أكثر اقترابًا لما يعتمل في داخل النفس. في بعض الآراء يُرى إلى الموسيقى على أنها أعلى الوسائط الفنية مقامًا وذلك عائد إلى تجريدها التام: إنها، في النهاية، مجرد مجموعة من الأصوات، لكنها بتناغمها في وحدة لحنية تقول ما لا يستطيع الكلام قوله. والفيلم متخذٌ الطريق نفسه بطريقة مغايرة: مجموعة من الصور، إنما بمَنتجتها في وحدة صورية تُريك ما لا يريك إياه الواقع. بهذه الكيفية نقترب أكثر من فهمنا للشعر، في أعاليه، فهو ليس ترتيبًا للكلمات -ذلك نظمٌ- ولا قولًا واعظًا -تلك حكمةٌ- وما هو بالتناغم الكلامي -هذا نشيدٌ- إنه، وإن اشتمل على كل هذا وغيره، أمرٌ أبعد، لعله ليس من مجانبة الصواب القول عنه بأنه: كلامُ ناس مسرنمين.. ومن هم المسرنمون؟
إنهم السائرون نيامًا، عابرو الأحلام. ومن يعبر الحلم، أو الرؤيا، هو من يفسرها ويعطيها التأويل. إلا أننا نتحدث عن قوم يقلبون المعنى رأسًا على عقب ويقصدون إلى ذلك قصدًا حثيثًا، فهم لا يفسرون، بل يصنعون الحلم، يعيدون تشكيله ضمن وسيط الصورة (في سياقنا هذا)، يهبون ما لا يقبل التفسير، العصيَّ على التأويل. يعنيهم مما يقدّمون أن ينفروا عن الواقع، متعتهم في ألّا تفهم وتستهدي بالمنطق، بل أن تشعر، أن تُحِسّ (وثمة فارق بين الاثنين ذو شرح يطول) وكأنهم يتعاملون مع المتلقي لا بوصفه عقلًا وتفكيرًا، بل شبكةً من الأعصاب العارية يصبّون عليها ماءً لتتكهرب أكثر. ينتعظون من اللقاء الذي حدث، بمحض الصدفة، بين ماكنة الخياطة والمظلة، على طاولة التشريح!
نعم.. إنهم السورياليون، الفوق-واقعيون إن أردنا الالتصاق الحرفي بالمصطلح الأصل. وللسوريالية تاريخ طويل، يهمنا منه فرعه السينمائي -وإن كان لا يمكن فصله تمام الفصل نقديًا- على أن نتناول، فيما يلي من مقالات، أبرز محطاته، محاولين العودة للسير معه من بداياته، لا تفضيلًا له على سواه، بل لمزيته الأساس في اقترابه الأشد من بدايات مفهوم السينما، ووفائه الدائم للحُلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش
إشارة إلى سطر شعري شهير كتبه الشاعر الفرنسي-الأرجنتيني لوتريامون، يرى إليه السورياليون على أنه آية عالية في خطابهم الفني.1