لينش أعرَفُ من أن يُعرّفَ، إلا أن هذه استعادة لتثبيت الصورة الأكبر. إنه رجل الغرابة والعوالم الباطنية بامتياز. الواقع، بالنسبة إليه في أعماله، ليس أكثر من تعلّة للغور عميقًا. مخرج لا يترك منطقة وسطى لمُشاهديه، فإما أن يُعجبوا بما يقوم به أو يطرحوه جنبًا باستسخاف. من هنا نفهم تأكيده الدائم في حواراته على أن الفيلم هو بالدرجة الأساس مشاعر، أحاسيس، حسيّة مجردة تتذرّع بالصورة والحركة. المخرج عنده هو موسيقيُّ صور، مجرِّدُ ألوان في سبيل الإيحاء بظلالٍ لِمَعانٍ بعينها أو تتويهًا للمتلقي من أجل وصوله هو إلى معناه الخاص. هذا الأسلوب في التعامل مع العمل الفني، في أيٍّ من حقوله، دومًا ما يثير الجدل والارتباك بإزائه. منذ بدايات السريالية، بل وحتى -تاريخيًّا- منذ لوحات هرمنيوس بوش، وإلى تطورات العمل الفني في تجريده وشطحاته، ظلَّ هذا المنهج محل شك وأسئلة، خصوصًا عند قوم -مثلنا- أقلَّ ترفًا فكريًّا، ذوي هموم يومية -وغير يومية مما هو معلوم عند الناس جميعًا دون الدخول في التفاصيل- وصولاً إلى المشكلات المجردة في التفكير والاشتباك مع التراث. لعله من الأوْلى، إذن، بل والأجدى، أن يتم التعامل مع العمل الفني بشكل مباشر يعبّر عما يعتمل في الواقع، أو في الأقل بطريقة رمزية تحايلاً على الرقابة أو كسبيل -غير مضمون العواقب- لتثوير طريقة التفكير والتلقي؛ هوذا محل أسئلة العربي الأقل ترفًا فكريًّا أو ما يقارب ذلك. إلا أن الأسئلة والشكوك تختلف لدى المترفين فكريًّا -واقتصاديًّا؛ وهذا بذاك، طبعًا، إن وددنا قول هذا بنبرة ماركسية- فهم متجاوزون لسؤال الجدوى الكبير إلى أسئلة مفككة -دريدا مُرسملاً!- من قبيل:
هل هذا عمل فني بالفعل أم هو مجرّد تهويم؟
هل ما يقوم به الفنّان في عمله نضجٌ فني أم مراهقة فكرية؟
ماذا عن مراجعهِ التاريخية؟
كيف كانت طفولته؟
ما ميولاته الجنسانية؟
هل يعاني من حكة تحت إبطه الأيسر؟.. إلخ إلخ إلخ.
عقِبَ كل عمل من أعمال ديفيد لينش تتصدّر أسئلة من هذا القبيل، بل حتى إنها في أحيان تُطرح في أثناء العمل نفسه بين المتابعين. هذا التحفّزُ الدائم بإزاء أعمال لينش احتدَّ في فيلمه الصادر عام 1999 «قصة مباشرة» Straight Story. والغريبُ أن مبعث حدة التحفز لم يكن بسبب غرائبيات لينش الدائمة ولا روابطه السريالية بين الأحداث والشخصيات، إنما لأن القصة، بكل بساطة، «قصة مباشرة»، اسمٌ على مسمّى! لقد أربك الفيلم النقاد بعد عرضه الأول في مهرجان «كان» في دورته الثانية والخمسين، فبعدما انتهى الفيلم وخفُت التحفّز النقدي -أو المحنّك- واتضح أن الفيلم بالفعل مجرد قصة بسيطة لا تعقيد فيها البتة، انبرم النقاد في تأويل اختيار المخرج لصناعة هكذا نوعية من الأفلام التي هي أبعد ما تكون عنه في تاريخه السينمائي. مال قسم منهم إلى القول، في ما معناه، بأن ديفيد لينش أعلن استسلامه السينمائي من السريالية برغبة واضحة منه لمصالحة الجمهور، خصوصًا بعد فيلمه السابق -آنذاك- «لوست هايوي» (1997) Lost Highway، والذي فشل على الصعيد التجاري بسبب تعقيداته السردية. لقد اختار لينش الطريقة الأسهل للمصالحة بتقديم قصة بسيطة تتسم بكمّ كبير من المشاعر لحلب تعاطف المشاهدين، وبسردية خطية مبسطة، وفقًا لوجهة نظرهم. ويتضح هنا كمّ العجرفة النقدية في التعامل الضمني مع الجمهور بوصفه مجرد كومة من ذوي الجفاف العاطفي في انتظار استدرار مشاعرهم لا أكثر. أما القسم الآخر من النقاد، وهم الأكثر تعقُّلاً أو هكذا يُفترض، فقد حكموا على المخرج بأنه، وأخيرًا، قد نضج فكريًّا وسنمائيًّا، في نظرة ترى إلى اهتمامات ديفيد وطرائقه في السرد وولعه بثيمة الحلم بوصفها أمورًا لا تتجاوز المراهقة الفنيّة. وعلى النقدين، بالنسبة إلينا، نقد ليس هنا مكانه الأنسب، بل هو مكان «ستريت» وقصته.
يحكي الفيلم قصّة «إلفين ستريت» الرجل العجوز البالغ الثالثة والسبعين من عمره، والذي بلغه أن أخاه الوحيد «لايل» يعاني من مرض شديد يبدو أنه مرضه الأخير قبل رحيله النهائي، فيريد أن يذهب إليه، برغم المسافات الطويلة وقلّة الحيلة والصحة المتضعضة. المشكلة أن الأخويْنِ متقاطعان منذ زمن طويل بسبب خلاف عائلي وإلفين يريد إصلاح ما أفسدته الدنيا بينه وبين أخيه الأكبر. القصة في حالتها هذه طبيعية وبسيطة وتتابع سير رحلة الأخ إلى أخيه، حكاية تعوّض عن فداحة ما حصل للبشرية جرّاء العداوة بين الأخوين هابيل وقابيل، إلا أن الأمر لا يقتصر على ذلك وحسب. إن العجوز إلفين لا يمتلك أي وسيلة للمواصلات كالسيارة أو ما شابه، إلا أنه يمتلك جزّازة عشب لحديقة بيته الصغيرة، وبها يقرر الخوض في رحلته إلى أخيه. رحلة بمسافة تقترب من الثلاثمئة ميل يقطعها عجوز يعاني من مرض في القلب والرئة لفرط التدخين ونظرٍ ضعيف، رحلة على جزّازة عشب لا تتجاوز سرعتها الخمسة أميال في الساعة، هذا عدا أنها غير مهيئة لذلك أصلاً، رحلة ينجح فيها العجوز العنيد في الوصول إلى أخيه بعد ستة أسابيع من المعاناة في الطرقات السريعة مواجهًا ضروبًا شتّى من العراقيل، وكأننا بإزاء نسخة بريّة من «العجوز والبحر» لهمنغوي.
«ثمة عديد من النقاد الذين قالوا بأن "قصة مباشرة" هو أكثر أفلامك نضوجًا. فلمَ ذلك برأيك؟» سُئل لينش، فرد: «لا أدري. "ذا إيلفنت مان" [The Elephant Man, 1980] كان مشابهًا لهذا الفيلم بدرجة كبيرة، رغم أنه فيلمي الثاني في مسيرتي. في العموم، لا أظن لذلك كبير أهمية، فمتى ما اندمجت مع قصة ما وشعرت بها، فلا يهم كم تبلغ من العمر»1. يرد لينش هنا على مضمون النقاد أكثر مما على السؤال ذاته، النقاد الذين ربطوا «نضج» الفيلم بتقدّم مخرجه في السن، ناسين أن «ذا إيلفنت مان» كان عملاً من أعمال الشباب. إذن، فليس الأمر أمر نضوج من عدمه، بل هي جوانب عديدة للشخص الواحد. إن جادّة لينش ذات الخطوط المتشابكة والسرديات الملتوية يوازيها مسار جانبي رائق وبسيط جدًا للحد الذي بوسعك أن تقود فيه جزّازة عشب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش
1. Lynch on Lynch- Edited by Chris Rodley- FARRAR, STRAUS AND GIROUX- 2005.