يُعَدّ تنميط الشخصيات ذات النزعة الشريرة، ووضعها في قالب الشر المحض الذي يستحيل معه التقاطع مع فعل الخير والقيام بسلوك إيجابي، من الأخطاء الشائعة في الواقع المجتمعي، وانعكست هذه القولبة على فهم وتفسير تلك الشخصيات، حيث لم يعد هناك قبول بأنها شخصيات طبيعية جدًا، وأن ارتكابها للظلم وإيقاع الشر على الآخرين أمر لا يتنافى مع وجود جوانب خيرَّة فيها. وليس في ذلك دفاع عن هذا النوع من الشخصيات، بل بالعكس تمامًا، إذ إن الهدف هو وضعها في قالبها الإنساني الحقيقي، ما يسمح بمحاكمتها، بالمعنى القانوني والأخلاقي معًا، وفق ذات المعايير التي تُطبَّق على صنوف البشر كافة، دون أي تبرير أو تمييز.
يأتي فيلم «منطقة الاهتمام» - (2023) The Zone of Interest، ليضعنا أمام نموذج غير سائد في العرف السينمائي، فنحن لسنا أمام شخصية ذات نزعة شريرة، بل أمام مشهد مُربك لمنزل مكون من أسرة اعتاد أفرادها التعايش مع مَشاهد القتل وأصوات التعذيب وتنفيذ جرائم الإعدام، وفي الوقت نفسه يتسابقون على ملذات الحياة، وتبرز منهم مواقف تفيض بالرحمة والمودة تجاه بعضهم. هذا التناقض جعل منه حالة استثنائية تستحق تسليط الضوء عليها، وبخاصة مع ما نعيشه حاليًا من حالة انهيار للقيم والمبادئ في ظل الدماء الجارية على مرأى ومسمع العالم في قطاع غزة.
الشرير الخيَّر
في أولى مشاهد فيلم «البريء» (1985) يظهر الممثل محمود عبد العزيز وهو يُوقف سيارته أمام أحد محال الألعاب، ويطلب من ابنته التي ترافقه بأن تأذن له باختيار هدية عيد ميلاد صديقتها، وفي المحل يرفض أن يشتري لعبة العسكر والحرامية، بناء على توصية البائعة، بل يفضّل أن يشتري جيتارًا للطفلة، ويشترط أن يكون بإمكانها العزف عليه. وفور خروجه يجد رجلَ مرور يحرر عليه مخالفة لوقوفه الخاطئ، فيقف بكل احترام وتقدير ويطلب من رجل المرور التكرم بعدم تحرير المخالفة، وعندما يُقابَل بالرفض، وبشيء من الغلظة، يبتسم ويدعو الله لرجل المرور -بصوت رخيم- أن يعينه على ما يقوم به. وحالما يصل إلى منزل صديقة ابنته ويرى الهدوء يعم المكان، يبادر بتنفيذ مجموعة من حيل خفة اليد، بهدف نشر البهجة والسرور بين الصغار المحتفلين. بعد هذا المشهد يظهر العقيد توفيق، وهو اسم الشخصية، يتوسط مجموعة من العساكر، ويمسك بعصاه من فوق حصانة ويبدأ في إهانة وتعذيب السجناء في المعتقل، والذي يضم الساذج والمثقف والطبيب وصاحب الرأي.. إلخ.
نلاحظ في هذه الشخصية كيف أنها طبيعية في نمط سلوكها، فهي لطيفة ودود ترحم من تحب، وفي ذات الوقت هي ذات نزعة شريرة وترغب في إيذاء الآخرين، وإن كانوا أبرياء وغير مدانين، إلا أن هذه النزعة نابعة من إيمان بأنه عمل خالص لا تخالطه الشكوك حول صوابه وسمو دوافعه. إن ما يجب أخذه بالاعتبار حيال هذه الشخصيات، أنها تمارس الشر ليس لرغبة شريرة محضة، ولكن لما يقف خلف تلك الممارسات من تكييف وتبرير، ما يجعل الفعل حسنًا، وفاعله يُقدَّر، بل يُؤجر ويثاب عليه.
إن الداعي لاستحضار هذه الشخصية من فيلم «البريء» الذي أُنتج عام 1985 وأخرجه عاطف الطيب، هو مطابقتها لبطل فيلم «منطقة الاهتمام» الذي أُنتج في العام الماضي، حيث نجد في افتتاحية الفيلم أن المحتفى بعيد ميلاده هنا هو الأب (البطل)، في اتكاء مماثل على رمزية عيد الميلاد لما يمثله من بداية جديدة في حياة الإنسان، وترافقها مظاهر الفرح والسعادة، بالإضافة إلى الشعور بالاستقرار والأمان. ما يُستنتج من ذلك هو أن الظالم على هذا المستوى -المقصود به المستوى السلطوي- هو في المحصلة كبقية البشر، ويحمل في ذاته تناقضات وتركيبة معقدة لا تختلف عن غيرها. وحتى يسهل علينا تشريحه وتفسير دوافعه يجب أن نقر بأنه لا يصنف أفعاله بحسب التصنيف السائد عنها، إذ يراها أفعالَ شرف وبطولة، كونه يحارب الأعداء ويحمي المجتمع من الأخطار، أي أن ما هو سائد في العرف العام بأنه ظلم وإيذاء، يكون في نظره عدالة وإنصافًا. لذلك نستنتج أن ما يظهر من الفئة السلطوية تحديدًا من لطف وبر ومساندة للضعاف والفقراء، لا يمنعهم بطريقة معاكسة من اقتراف الموبقات وإيقاع الظلم باسم المصلحة العامة ونشر الخير والسلام.
السائد والمفارقة
فنيًا، لا يمكن أن يحدث شيء في العمل الإبداعي دون أن يكون له تبرير، سواء كان مقنعًا أو كان غير مقبول للمتلقي، إلا أنه بالمحصلة تبرير يخص صاحبه وفق منظوره ورؤيته الخاصة. تأتي تلك الملاحظة بعد اختيار الكاتب والمخرج البريطاني جوناثان غليزر أن يبدأ فيلمه «منطقة الاهتمام» بشاشة سوداء تمتد إلى أربع دقائق، ما سيضعك في حالة من التوتر والغموض، حيث ستترقب المشهد التالي لتعرف سبب هذه البداية غير المفهومة، إلا أن تلك المشاعر سرعان ما تتلاشى بعد أن يظهر مشهد الطبيعة الخلابة، وعلى ضفاف النهر يجلس أب وأسرته في سرور وبهجة، وفي نهاية تلك الرحلة تعود الأسرة آمنة إلى منزلها. إذن، ما الرابط بين هذا السواد القاتم والاستقرار والسعادة التي عبَّرت عنها المَشاهد الأولى؟ أراد المخرج منذ البداية أن يضع المُشاهد على حافة الضجر والملل، وفي الوقت نفسه ينقلب الأمر بعد ذلك بلحظات عبر مَشاهد تبعث على الراحة والطمأنينة، وعلى ذلك يستمر سرد الوقائع ضمن ثنائيتَي: السائد الممل والمفارقة المفجعة.
يظهر السائد في الفيلم عبر تصوير حياة مثالية ورتيبة تجمع رادولف هوس وزوجته هيدوج وهما يؤسسان لحياة أسرية اعتيادية مثالية، عبر تربية الأبناء والاعتناء بهم نفسيًا وجسديًا، ووضع خطط مستقبلية للاهتمام بالصحة الشخصية والسياحة واستضافة أفراد الأسرة في المنزل، بالإضافة إلى زراعة الفناء الخارجي بأفضل المحاصيل الزراعية والجمالية، مع الحرص على تنمية العلاقات الاجتماعية مع الأصدقاء والجيران وزملاء العمل. أما المفارقة المفجعة فهي تسري في شريان الفيلم كدبيب الأفعى، وذلك عبر أصوات الصراخ والتعذيب غير المرئي، والأسوار المريبة التي تطل على فناء المنزل دون استئذان، والعبارات الهاربة بين أسطر الحوار الدائر بين أبطال الفيلم، عن المقتنيات المصادَرة من معتقلي المعسكر باعتبارها غنيمة حرب. وتتوقف حالة التوازي بين ثنائية السائد الممل والمفارقة المفجعة أمام أربعة مَشاهد تترك أبعادًا مختلفة فيما بينها، وهي: إبلاغ الزوجة برغبة القيادة النازية في نقل زوجها إلى مدينة أخرى، الاجتماع التحضيري لمناقشة بناء أفران الغاز لحرق المعتقلين اليهود، مغادرة الجدة المنزل وعدم قدرتها على تحمل ما يجري من حوله، الفتاة التي تهرول في جنح الظلام وتنثر التفاح على نحو عشوائي حول أسوار المعسكر.
المشهد الأول يضع حدًّا لرتابة المنزل النموذجي، حيث يدب الخلاف وترتفع الأصوات بين الزوجين، بسبب رفض الزوجة مغادرة منزلها، ما يضطر الزوج إلى مصارحة الأبناء بخبر الابتعاد عنهم، وحتى تُكتب نهاية المنزل السعيد في أسوأ حالاتها، يظهر الأب في مكتبه وهو يخون زوجته. المشهد الثاني يكشف حقيقة كل ما كانت تلتقطه الآذان من صراخ وعويل، وهو التعذيب الذي يقع على القابعين خلف أسوار معسكر أوشفيتس الملاصق لمنزل قائده. وفي ملمح يدل على التمكن من فنيات الصنعة السينمائية باحترافية، يجر ذلك المشهد كثيرًا من التغيرات على هذا المستوى، حيث تأخذ الأصوات في الارتفاع شيئًا فشيئًا، وبعضها يُسمع بوضوح، ومنها ما يستمع إليه الطفل الصغير في المنزل -أثناء اللعب مع الدمى البلاستيكية- عن تعذيب أحدهم، فتكون ردة فعل الطفل بأن يُغلق الستارة ويستمر في اللعب، مع لوم الدمية على ما لحق بها من أذية بسبب خرقها للنظام.
المشهد الثالث يتمثل في زيارة الجدة للمنزل والإقامة به مدة غير معلومة، إلا أنها وبعد عدة أيام تقف مطولاً وتنظر عبر النافذة إلى أسوار المعسكر، وفي الصباح تحزم حقائبها وتغادر المكان، وتترك لابنتها رسالة، إلا أن الأخيرة لا تستعرضها أمام الشاشة، بل ترميها دون مبالاة في أحد الأدراج. ويُرجح أن المخرج -بناء على الأحداث التي بدأت تظهر على السطح عما يجري في المعسكر ويُسمع صداه في المنزل- أراد إبراز أن الوضع لا يطاق، ومن الصعب تحمله على من يَفِد عليه جديدًا، لذلك تغادره الجدة وتوضح ذلك في رسالة مكتوبة، إلا أن ابنتها لا ترى في أسباب المغادرة ما يستحق الاهتمام والتفاعل معه. وتمهيدًا لظهور المشهد الرابع المحوري في الفيلم، يستوقفنا صوت عويل معتقل قُبض عليه لحيازته تفاحة في أحد مواقع البناء التي ينفذون فيها أعمالهم الشاقة، وذلك فيما تتنقل الكاميرا بين بساتين الزهور الجميلة في فناء المنزل، حتى تتوقف على إحداها وتغرق في لون أحمر داكن يملأ الشاشة كاملة!
المشهد الرابع جاء مخالفًا على الأصعدة كافة، فهو لم يتبع نمط تصوير الفيلم، بل نُفِّذَ بتقنية التصوير الحراري، وفيه اختفت ملامح الشخصية التي تخرج ليلاً وتخاطر بنفسها من أجل وضع التفاح في مواقع البناء المحاذية للمعسكر، وأخيرًا، يرافق مغامرة تلك الفتاة صوت الأب وهو مستلقٍ بجوار ابنته الصغيرة يحكي لها قصة ما قبل النوم، فتكون عن الساحرة التي تُعاقَب جزاء ما اقترفته، عبر وضعها في الفرن كي تموت مُتفحمة. هذا المشهد يعبّر عن الأمل من نافذة السواد الذي يحيط بزوايا الفيلم كافة، فهذه الفتاة المجهولة ترمز للغد الذي سيشرق لا محالة، كما أن اختيار التفاح له دلالات رمزية متعددة، إحداها الفردوس والنعيم الذي ينتظر المظلوم في نهاية المطاف.
مجرد أرقام
تُلخص أحداث الفيلم ما يقترفه العالم من ممارسة الصمت وإشاحة الوجوه عن الإبادة التي تمارَس ضد المدنيين الآن في غزة، ففي الوقت الذي يقضي فيه أبطال الفيلم يومهم بكل ما فيه من صغائر وتوافه الأمور، يُقتل الناس على مقربة منهم وتُرتكب بحقهم صنوف العذاب، بل يعاقَبون بسبب حبة تفاحة، ويصل صوتهم إلى عمق دارهم، ومع ذلك هم لا يكترثون، كل ذلك لكونهم اعتادوا المنظر حتى لم يعد يحرك ضمائرهم ويستدعي منهم اتخاذ أي موقف. إن غياب الموسيقى التصويرية عن الفيلم، واستبدال أصوات سحق الإنسان وتصفيته بها، هو تجسيد حقيقي لما يجري الآن، حيث يعيش الناس حياتهم باعتيادية، وفي الوقت نفسه تسمع -وترى أيضًا!- صراخ الألم والوجع، ونداءات الاستغاثة التي يطلقها الأطفال قبل الكبار عن حاجتهم إلى الطعام، فضلاً عن آلاف الشهداء والمصابين والجرحى، ومع ذلك يتم الاستعاضة عن الحدث الفعلي بوضع الكاميرا على وردة جميلة، أو ما يوازيها، حتى تبهج النفس وتساهم في تزييف الحقيقة.
لقد أصاب الفيلم كبد الوجع في قدرة الإنسان على الاعتياد والانصراف عن المأساة كأنها لا تحدث على مقربة منه، فكيف ونحن في زمن كل ما يحدث فيه متوفر بين أيدينا بضغطة زر؟ كما أنه من اللافت بالفيلم تضمينه التحضير لبناء أفران الغاز لحرق المعتقلين اليهود، إحدى جرائم الرجل الأبيض المعروفة، ما يستحضر معها إبادة شعب عربي الآن لا علاقة له بتلك الجريمة، وهذه المرة بِيَد أحفاد مَن عاصروا المأساة ولم يعتبروا أن حياة البشر، أيًا تكن ألوانهم أو خلفياتهم الثقافية أو مواقعهم الجغرافية، ليست مجرد أرقام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش