لطالما أرّقتني -في صباي- الكائنات الإسفنجية التي تمتص الجمال من القبح، وترى في قلب اللظى بَراد، وفي جوف البؤس ابتسام، وفي شؤم الفنون استبشار، حتى لامستُ بطرف تأملاتي مرحلة «التجربة الجمالية» وهي مرحلة متنامية -أو لنقل ازدهارية- قد تتصل بالتجربة العاطفية والنضج الفني أو حتى بسعة الاطلاع المتبنى منها والقسري الذي يحضر مدمجًا بفنٍ يعشقه المتلقي، كالأفلام مثلاً!
ولكن ما هي التجربة الجمالية؟
أهي رؤية بانورامية تتسع لما وراء العمل، أم هي تجربة أشبه بالتحوّل إلى «فوتون» والسفر عبر الزمن للتفاعل مع أصالة فنون عصر النهضة واكتشاف الاستلهامات لإعادة تقديمها أو دراستها بصورة أدق والنهل من الفنانين مثل «داڤينشي» و«مايكل آنجلو» و«برونليسكي» حدَّ الارتواء، وإدراك كل قصة مخفية من وراء كل منحوتة أو لوحة عظيمة ابتدعوها، على اعتبارها قصة قد تكون سعيدة أو تعيسة!
قد لا يدرك المرء هذه النظرة التأملية إلا بقراءة كتاب واحد على الأقل، ككتاب «قصة الفن» لإرنست غومرتش البديع، أو حتى كتاب «ما هو الفن؟» لتولستوي، أو حتى مشاهدة فيلم مناسب يتناول هذا الشأن، على اعتبار الفيلم مادة تعريفية سطحية لا يستند إليها تمامًا. ولشرح هذه الحالة التي قد نستبشر منها جمالاً فينتهي بنا الحال بتعاسة، لنفترض -وبشكلٍ مبسط- أنك قد التهمت مجسّمًا لشوكولاتة لذيذة نُحتت بصورة فنية، لتتفاجأ لاحقًا بمشروع استعباد الأطفال في المزارع الإفريقية التي اشترت منها الشركة المصنّعة لمجسم الكاكاو، بل وأن مشتقات الثمرة التي استطبتها مات قاطفها من شدة التعب. هنا نتجرع التجربة الجمالية بخلاصتها القبيحة وبعصارتها السامة، حيث تحوّلت اللذة بها إلى تقزّز، وهذه ربما إحدى خدع الفن حين يُصدَّر للعامة بصورة مستترة وأنيقة، ليحقق الإيهام والالتهام الكامل المرتكن إلى منافذ الجهل، حيث يجد المتأمل نفسه بمعزل عن الواقع الذي يتطلب منا شيئًا من المعرفة والتقصي، وهذا ما شرحه «أدورنو» حين قال: «التجربة الجمالية الحقيقية ليست تجربة ممتعة يعترف بها الشخص بنفسه، ولكنها تجربة تُشعر الذات بالصدمة أو تجعلها تعي ما تملكه من محدودية».
هذا ما حصل مع «فيرجيل» البائع بالمزادات الفنية، «فيرجيل» الغني الرزين الانضباطي، العاشق لإعادة ترميم اللوحات والأثريات المهمَلة والخربة في فيلم «أفضل عرض» للمخرج الإيطالي «جيوزبي تورنتوري» الصادر عام 2013م. كان «فيرجيل» يعشق جمع لوحات النساء في غرفة خاصة كتقديس جمالي فريد من نوعه، حتى إنه عبّرَ عن هذا الهوس الغريب في أحد المشاهد التي سُئل فيها عن سبب عدم اقترانه بزوجة على الرغم من هوايته المتناقضة، ليعلّق نفوره الواقعي بالاحترام الذي يكنّه للنساء، المساوي للخوف الذي يعانيه منهن، وكذلك الخشية من أن يفهمهن، وكأن الخوف كان بالنسبة إليه شعورًا صادقًا اكتسبه ثم تجاهله عندما عشق المحتالة المتواطئة مع العصابة «كلير»، الفتاة التي تغذّت على عاطفته وفضوله وحسّه الفني ورؤية الناس له كرجل طاعن أعزب، فمن هذا الضغط من محيطه نتلّمس سخرية أحد زملائه عندما عرف عن اقترانه في إحدى النمائم، فقال: «أخيرا أدرك فيرجيل أن أسوأ شذوذ جنسي هو العفة».
بل واستغلّت «كلير» أهم نقطة كان يتمتع بها «فيرجيل»، ألا وهي تجربته الجمالية الخالصة في إعادة ترميم اللوحات، عندما كانت تختبئ بأسقامها متعذرة برهاب الخروج مستجدية اهتمامه، ليتوهم إعادة ترميمها -نفسيًا- من خلال ابتياع المجوهرات والفساتين العصرية وإخراجها للعامة ليكسر لعنة عزلتها ورهابها، ليتوهم نفسه بطلًا ومنقذًا ومكتشفًا لأهم مقتنياته، كما لو كانت لوحة فاتنة ظلت حبيسة قبو منزلها، ولا تحتاج إلا لبريق محلول الورنيش من ريشته، متجاهلاً على إثرها العلاقة اللاتوافقية مع الجنس الآخر، متخليًا عن حدسيته المفرطة، فالخطة المحكمة هنا لسرقة اللوحات منه هي أن يسلّم قلبه لهذه الفتاة -كلير- رغم أن الرسائل كانت واضحة بالنسبة إلى رجل متّقد الذهن ومدرك لأدق التفاصيل، لدرجة إدراك اللوحة الحقيقية من الزائفة، فعندما سُئل عن جمال «كلير» عندما رآها لأول مرة وهي تخرج من عزلتها قال: «أفترض أن الشعور بشيء معيّن تجاه شخص يُظهر رؤيتك له بشكل جميل بالضرورة. كانت فتاة شاحبة مثل لوحات "دورر"».
وهذا الشحوب المستند إلى رؤيته الأستطيقية المضللة وادعاءات «كلير» الكاذبة مناقضٌ تمامًا لما حصل بالواقع -وإن برره المخرج بحيلة النص- حيث اكتشف «فيرجيل» -بعد سرقتها له- أنها خرجت من المنزل الذي كانت تدّعي عزلتها به 237 مرة خلال عام ونصف. ولكن التشبيه كان غزَلاً، وبرأيي مرتبطًا بنظرته الفنية المعوّلة على تجربته الجمالية وفق إدراكه السيميائي المستند إلى استدلالاته من الفن، فقد قرأتُ سابقًا بأن الشحوب في القرون الوسطى دلالة جمالية على أرستقراطية فتاة مدللة لا تخرج للشمس!
ولعل هذا الفشل الذي قاده إلى صدمة عاطفية يعتبر امتدادًا لتجربته الجمالية التي تحدث عنها «أدورنو» بالأعلى، كما أن الفيلم بالنسبة إلينا تجربة مصغرة لهذا المفهوم الفني المبوّب الذي قادنا إلى صورة محبطة.
إن هذا الإدراك العاطفي الأقرب للوعي بالفارق ما بين الفنون والبشر يقودني مباشرة إلى الفيلم المقتبَس من حكاية رجل الأعمال ج. بول غيتي «كل المال في العالم» عندما برر حبه لاقتناء الفنون والأنتيكات قائلاً: «هي لا تتغير. عليك أن تحافظ على جمالها. هناك صفاء يسكنها لم أجده في البشر»، وهذا مالم يدركه مقيّم التحف «فيرجيل».
ولعل الفنون لم تكن معنية بتأريخ التجربة الجمالية بظروفها المنقولة بكبسولة المستقبل في بداية استحداثها، أو حتى إعطاء العمل الإبداعي قيمته العالية، وأقصد خطوة ما قبل ابتداعه، حتى حضرت الذهنية النقدية والرغبة التأريخية للسِيَر الذاتية وبقية الفنون المهتمة بالصورة الكاملة وأحدها الفن السابع، والذي بإمكانه مثلاً تأريخ رحلة الشاعر والمترجم أحمد رامي الذي سافر إلى باريس لتعلّم اللغة الفارسية ليستشعر جمالية «رباعية عمر الخيام» لينقلها معرّبة لاحقًا لأم كلثوم، لندرك الأبعاد التاريخية لهذا الجهد الذي نصغي إليه بكامل جوارحنا، ولعلها التجربة نفسها التي جعلتنا نتعاطف لاحقًا مع نفس الشاعر بعدما تأثر برحيل «كوكب الشرق» فعاش منعزلاً حارمًا الناس من إبداعاته التي عهدوها، ولعل هذه الحكاية أيضًا تسطيحية ولكنها مغذية للتجربة الجمالية!
ولا أنسى كذلك هَوَسي في لوحة «الجحيم» التي استلهمها الفنان «ساندرو بوتشيلي» من كوميديا «دانتي أليجييري» الوعظية. كنت قد تأملتها بانغماسية صوفية بعدما قرأت رواية دان براون «إنفيرنو»، الروائي الذي عوّدنا على تجربته من فيلم «شيفرة دافينشي» المقتبس من إحدى رواياته كذلك، العمل الذي ارتبطت به ثنائية الدين والفن بديالكتيكية معقدة. ولعلي أضيف بهذه التجربة ما أحبه من أدبيات، فالكتب المعنية بالتجربة بالنسبة لي هي التي تجعل علاقتي مع الهاتف علاقة بحثية، أبحث بسببها عن مَعلَم.. متحف.. مقهى تاريخي في باريس.. مكتبة محلية في براغ أو القاهرة.. صرح.. ميدان في سمرقند.. كاتب كتالوني مغمور قتله «فرانكو».. قرية آسرة بكرواتيا.. بل وحتى أتقصّى جودة برتقال بساتين صقلية، أو أتأمل شلّال، أو أقرأ تاريخ معتقل تحوّل إلى مزار!
وهكذا وبنفس الآلية البحثية استشعرت رهبة رحلة «دانتي» المفعمة بالخشوع المرئي المستجلب لكل مقروء، عندما نقل «بوتشيلي» بلوحته سفر صاحب الكوميديا المتأرجحة ما بين اللاهوت المسيحي والميثولوجيا الإغريقية برفقة الشاعر «فيرجيل» إلى طبقات الجحيم التسع التي عُذب بها الجبناء والكسالى والقتلة والنهمون والمنتحرون والمنافقون واللوطيون والمحايدون بشتى الطرائق وبإتقان مهيب، أما في السينما فكانت للتجربة تتمة، عندما تحوّلت رواية دان براون «إنفيرنو» إلى فيلم من بطولة «توم هانكس»، الذي ظل الشرير فيه يردد عبارة دانتي: «أحلك الأماكن في الجحيم هي لأولئك الذين يحافظون على حيادهم في الأزمات الأخلاقية»، مطوّعًا العبارة لتكون بمثابة محفّز يتخذ من خلاله تضحيته بجزء من البشرية من خلال تنفيذ عملية إرهابية كبرى غرضها إعادة التوازن، لإسعاف الأرض من مهالك الجوع والتضخم السكاني وفساده. ويا له من رعب ذلك الفن الذي يختبر بوصلتك الأخلاقية ويريك العذاب الذي قد تتذوقه بسبب تخاذلك الدنيوي الحيادي!
ولعل جميع الأفلام أعلاه يجمعها شيء من القبح الجمالي، وهناك أمثلة كثيرة مثل فيلم «الرجل الذي باع ظهره» للمخرجة التونسية «كوثر بن هنية» الذي تحدّث عن لاجئ سوري يتحصّل من قِبَل فنان عالمي على تأشيرة تكفل له لقمة عيشه في بلجيكا بشرط أن توشَم هذه التأشيرة على ظهره كعمل فني، وأن يكون سلعة تتنقل من متحف إلى آخر، وهو فعل يذكّرني بفن «الهوريمونو» الياباني، وهو فن الوشم لدى الفنانين المبدعين، ومن يمتلك واحدًا باستطاعته أن يبيع جلده. وقد ذُكر هذا الفن أيضًا في فيلم «حديقة الضباب» للمخرج التايواني «توم شو يو لين» المقتبس من أجمل رواية قرأتها -حسب رأيي- والذي تحدّث عن ناجية من معسكر اعتقال إبان احتلال اليابان لماليزيا، تسعى لإنشاء حديقة تذكارية لأختها التي قضت نحبها بالمعتقل، ومن أجل ذلك تلجأ إلى «أريتومو» الياباني الذي كان يومًا ما بستانيًا لإمبراطور اليابان، والذي ينفتح لفكرة تدريبها على فن «الشاكي»، لتمضي معه في رحلة ممتدة يتكشّف بها الماضي، ليرسم على ظهرها وشمًا يلجأ إليها بسببه بعض مقتفي الفنون بعد عدة سنوات، وذلك بعد أن يموت الفنان وتكهُل الناجية، بغرض التوصل إلى حل لشرائه بعد وفاتها، وأقصد بذلك سلخ ظهرها. ويا لها من مسيرة تلك التي أدرك بها هذا الفن الذي بدأ مع المجرمين في القرن الخامس عشر، حيث كانوا يعاقَبون بالوشم باعتبارهم قتلة ومغتصبين ومتمردين ولصوصًا، بغرض تسهيل عملية التعرّف عليهم وقطع الصلة معهم، حتى خلق هؤلاء لأنفسهم آلية تمويه، فصنعوا وشومًا واضحة فوق وشومهم الأصلية، ومع القرن السابع عشر أصبح الوشم زينة ثم انتقل إلى اليابان!
ولكن يبقى فيلم «منتصف الليل في باريس» للمخرج «وودي آلن» أكثر ما صوّر عملية «التجربة الجمالية في السينما» بكامل حذافيرها، فقد كانت الفنون والآداب بالنسبة إلى بطل الفيلم «جيل» الذي قام بدوره «أوين ويلسون»، تعكس تمظهرات العالم الذي كان يحلم بأن يعيشه، وتحديدًا باريس العشرينيات والثلاثينيات، فعلى الرغم من أن الفيلم فن مكتفٍ بذاته من دون ضرورة التطرق لفنون داخل فنه، فإنه كان كذلك، فمن الوهلة الأولى نلحظ رؤية «جيل» الرجل غير المقتنع بذاته وهو كاتب لمسلسلات تلفزيونية، وهو ينغمس برومنسية المكان مخاطبًا خطيبته «إينيز» قائلاً: «تخيلي هذه المدينة الرائعة تحت المطر» مطعمًا العبارة، بالحقبة الزمنية التي يودّها وهو يعيد تكرارها. كإلهام يشحذ به مخيلته، في محاولة منه لكتابة الأدب العالي، لتتحقق له لاحقًا أمنية السفر عبر الزمن وهو يجتاز إحدى المنعطفات في منتصف الليل، ليتفاجأ بمقابلة الزوجين «فيتزجيرالد» والكاتب «جان كوكتو» والملحن «كول بورتر» والناقدة «جيرترود ستاين» جامعة التحف وصاحبة الصالون الأدبي الذي استضاف رواد الحداثة، و«توماس ستيرنز إليوت» و«سلفادور دالي» وحتى «بيكاسو» الذي كان يستلهم من «أدريانا» -الفتاة التي وقع في حبها غيل لاحقًا- و«همنغواي» الذي كان بمثابة المرآة التي واجهت «جيل» مع إنكاره لخيانة خطيبته له، والتي حين أكدت له ذلك -معترفة بخيانتها- قابلها بنوع من التسامي بسبب ما تشربته نفسه من شخصيات عظيمة استوجه بها فأبدت له ما تتمتع به خطيبته من قشورية لا تناسبه. وإحدى قشورياتها المقنعة -برأيي- اعتقادها بأنه مصاب بورم في عقله بعدما أخبرها عن مغامراته الليلية وسفره عبر الزمن، وهذه برأيي سريالية مضمرة، وضعها المخرج «وودي آلن» بذكاء، متوافقة مع وجود عرّابها «سلفادور دالي»، فالسريالية هي فن حلمي مستمد من تدوين رموز في غاية الغرابة والدهشة، فقد أباح السرياليون لأنفسهم الرسم تحت سطوة المرض، بل واستخدام المخدرات للحد من رقابة العقل أثناء تجاربهم الفنية في محاولة لخلق عالمٍ مبطون بالهواجس والأمنيات والمخاوف، عالم يفلت من قبضة الواقع، حيث لا حدود له ولا فواصل زمنية أو مكانية، حياة لا تحتكم للقاموسية الإدراكية. وهذه الفكرة المتداخلة قابلة للتطبيق في عالم الأدب الذي يود «جيل» اقتحامه. وما حصل له بالحقيقة مشابه لما يحصل للمصاب بسرطان الدماغ، وهذا التداخل عبّر عنه «سلفادور دالي» الذي قام بدوره «أدريان برودي» حين اقترح على «جيل» رسمه كرجل حزين تذرف من عينه دموع تتخذ هي أيضًا شكل وجهه الحزين!
وفي هذه الخلاصة التي توصلتُ إليها بسوداوية نعود إلى ما قاله «أدورنو» حيال التجربة الجمالية التي نُصاب بصدمة بسببها، ولعل نظرتي منقوصة وبحاجة إلى أن يكون الفن شارحًا لذاته بلا تأويلات نقدية وتحريات متذاكية ليس لها مكان من الصحة. ولكن -برأيي- هكذا يُبنى تقديرنا للجمال، من خلال الرؤى المتعددة والحكايا التي يٌعاد ابتكارها واختراعها وتقديمها، فاللوحة ليس من المقدّر لها أن تبقى حبيسة إطارها، وكذلك جِلدتَا الكتاب حين تتحولان إلى أجنحة، فالرفوف قد تتحول إلى أقفاصٍ للكتب المقروءة، فتصبح نافذة هروبها شاشة السينما.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش