ترجمات

مغامرات في الإدراك: ستان براكِج بكلماته الخاصة

لقد كان لي شرف دعوة ستان براكِج صديقًا عزيزًا وزميلاً وموجِّهًا خلال السنوات الاثنتي عشرة قبل وفاته في عام 2003. زُرعت بذرة صداقتنا في أوائل التسعينيات عندما بدأتُ تسجيل ما أصبح مقابلةً غير رسمية لم تزد على ساعتين. كنت آنذاك في حالِ اكتشاف أعمال براكِج في أمسياته أيام الآحاد في بولدر، كولورادو، حيث كنا زميلَين في الجامعة. كان يعرض أفلامه بالإضافة إلى تجميعاته التجريبية الشخصية في هذه الصالونات التي كانت في البداية تُعقد في غرفة المعيشة لعدد قليل من الأشخاص ثم انتقلت لاحقًا إلى الحرم الجامعي، حيث أتيحت للجمهور. مع زخم هذه المقابلة، لم يُقدّر لها إلا أن تستمر. في الواقع، استمرت لعدة أشهر، وهي تجربةٌ أثّرت إيجابًا في صداقتنا وعمّقتها، وفي النهاية، خلُصتْ نصًّا مكتوبًا من مئة صفحة.

لطالما أتاحَ براكِج نفسه لأولئك الذين يبحثون عنه، ونتيجة ذلك عددٌ كبيرٌ من المقابلات المطبوعة والمسجلة صوتيًا ومرئيًا. من أجل كتاب «مقابلات ستان براكِج»، الذي بدأتُ تحريره في عام 2016 ونُشر في وقت سابق من هذا العام، قضيتُ ستة أشهر في التنقيب والوصول إلى هذه الوفرة من المواد. في النهاية، اخترت مقتطفات تقدّم إطارًا فكريًّا وموضوعَ دراسةٍ للعلماء والطلاب وعشاق أفلامه، فضلاً عن أولئك الذين يبحثون عن نقطة دخول إلى إنتاجاته الهائلة. بالإضافة إلى ذلك، أردتُ عرض مقابلات من مجموعة واسعة من المدارس الفنيّة والتخصصات. لذا، لا يتضمن الكتاب علماء سينمائيين بارزين مثل ب. آدامز سيتني وسكوت ماكدونالد فحسب، بل يتضمن أيضًا الشاعر رونالد جونسون، والمخرج هوليس فرامبتون، والرسام فيليب تاف، وأستاذ الفلسفة فوريست ويليامز، والكاتب والمخرج بيب شودوروف.

تُعدُّ أفلام براكِج واحدةً من التعقيدات الاستثنائية، حيث امتدت على مدار اثنين وخمسين عامًا، واشتملت على 350 فيلمًا، منها الأفلام النفسية وأفلام السيرة الذاتية وأفلام النشوة الفرويدية ودورات الأغاني وأفلام الميلاد وتأملات بصرية، وأفلام مرسومة باليد، وتتراوح مدّتها بين تسع ثوانٍ وأكثر من أربع ساعات بكل صيغة تقنية من سوبر 8 ملم إلى 70 ملم آي-ماكس. ومع ذلك، الذي يكمن وراء كومة أعماله المختلفة هو اعتقاده بسيادةِ الرؤية في الفيلم ورغبته في تحرير الوسط الفني من جميع التأثيرات الأدبية والمسرحية. أراد لأفلامَه أن تجسد ما يُسمى بـ«مغامرة إدراكية»، وهي رؤية جوّانيّة، جسّدها بوجود الكاميرا ومن دونها.

مقتنعًا بأن هناك مستوىً أساسيًا من التفكير يسبق اللغة، كتب براكِج عن «العين غير المُدرَّبة» التي يستخدمها الأطفال لإبصارِ واقعيات محجوبة عن البالغين، إذ ينبغي لهم «إعادة تدريب» أعينهم لتلقّي روائع العالم التي لا يمكن وصفها. نظرًا لأن الرؤية تتخذ أشكالاً متعددة ومعقدة، سعى براكِج إلى خلق مرادفات لرؤيته الذاتية، غالبًا ما جُسّدت بخربشةٍ أو رسومٍ على الفيلم. يكمن جزءٌ كبيرٌ من أعماله في تحفيز الذاتية الإنسانية، سعيًا لإثارة عملية الفكر وتدفق الضوء والألوان والأشكال التي تلدها وتتجذر فيها. في سنواته الأخيرة، نادرًا ما استعمل الكاميرا، مفضلاً الرسم على الفيلم من أجل تشكيلِ ما سماه «تفكيرًا بصريًا متحركًا».

يوضح كتاب «مقابلات ستان براكِج» فكره الذي حفَّزَ ممارسته الفنية، بدءًا من عام 1963 وانتهاء في عام وفاته، 2003. خلال جزءٍ كبير من السنوات الأربعين، ظلّت أفكاره بشأن السينما ثابتة على نحوٍ لافت، والمقابلات داعمٌ مهم لكتاباته الذاتية الواسعة، والتي تتضمن نظريته الكبرى «استعارات حول الرؤية». لكن مع ابتعاده في أواخر ثمانينيات القرن الماضي عن الأفلام النفسية والسِيَر الذاتية وكتاباته الاعترافية التي ساعدت في تحديد سينماه، كان يتوق إلى التخلص من جميع العوالق التي تمسكتْ به منذ بداياته. تحدث عن انتقاله من اسم «براكِج» إلى SB، وعن أمنيته في التخلص من عبء «كلب نجم رجل» (ربما أشهر فيلمٍ له) حتى يتمكّن من اعتناق «بتواضعٍ كبيرٍ مذهبَ المجهوليّة». كانت هناك رغبة متتابعة من براكِج في تجريد الفيلم عن بقايا التمثيلات وحتى التنازل عن العناوين، بحيث يمكن للفيلم أن يحظى بـ«دورة حياة طبيعية مثل أي شيء آخر». تُعَدّ مقابلات سِنِيِّهِ الأخيرة مفتاحًا لفهم هذه الحاجة العميقة والهاجسية إلى إنتاج «أفلامٍ تكون، بالمعنى المعتاد للكلمة، عن اللاشيء»، أفلامٍ «لا يستطيع أحدٌ أن يصنفها بالكلمات».

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

أ. محمد هيثم
March 30, 2024
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا