يتناول رولان بارت في كتابه «لذة النص» ما يسميه «خطم الإنسان»، وذلك عند حديثه عن تجربة مشاركة الطعام مع الآخرين. يعتبر بارت أن هذه المشاركة هي شكل حميمي من أشكال التواصل، تعزز الشعور بالارتباط الجسدي والعاطفي بين الأفراد. بالنسبة له، مشاركة الطعام ليست عملية استهلاكية أو مجرد عملية ابتلاع، بل تتضمن إحساساً أعمق بالتواصل من خلال الحواس المرتبطة بهذه العملية.
يقول في كتابه الثاني «أسطوريات» و ذلك في معرض حديثه عن المطبخ الزخرفي: "تعتمد الزخرفة على طريقتين متناقضتين: الهروب من الطبيعة باللجوء إلى نوع من الباروكية الهذيانية (تحميض القريدس بالليمون، تحمير الدجاجة، تقديم الليمون الهندي ساخناً من جهة)، ومن جهة ثانية، إعادة تكوين تلك الطبيعة باللجوء إلى الحيل المضحكة (وضع الفطر المغموس بمزيج السكر والبيض، إعادة وضع رؤوس القريدس حول بيشاميل متكلّف يغطي أجسامها)".
لا يبتعد المخرج الفرنسي من أصول فيتنامية «تران آن هانغ» كثيراً عن أفكار «بارت» و ذلك في فيلمه: «طعم الأشياء - The Taste of Things (2023)» الذي حاز عنه على جائزة المخرج الأفضل في مهرجان كان السينمائي عام 2023. الفيلم يدور حول الطعام ويستكشف هذا الموضوع بشغف عميق، حيث يبني طبقات فوق طبقات لتعليم معنى حب الطعام، وكيف يمكن خلق قصة حب بسيطة وجذابة من خلال فنّ الطهي وأطباقه وزينته.
تدور أحداث الفيلم في تسعينيات القرن التاسع عشر، في قرية الشيف «دودين» الشخصية الرئيسية والذي يلعب دورها الممثل «بينوا ماجيميل». يبدأ الفيلم بمشهد افتتاحي مدته 35 دقيقة معظمه بدون حوار، مشهد مخصص للتحضير التفصيلي لوليمة يعدها مع «يوجيني» التي تلعب دورها «جولييت بينوش» ومساعدته «فيوليت» ولاحقا قريبتها «بولين».
تكشف مشاهدتهما معاً في المطبخ عن الكثير من تفاصيل علاقتهما؛ فهي علاقة منسجمة ولكنها مشوبة بالتوتر بسبب رفضها الزواج منه. تتجلى الأجواء «المطبخية» الحقيقية بوضوح، حيث لا صوت يعلو فوق الأصوات الطبيعية التي تصدر أثناء الطهي -فتح وإغلاق الأفران، خفق البيض، وتقطيع الخضروات، صوت الزبدة وهي تنصهر، الماء المغلي على الموقد، والمقلاة التي تصدر أزيزاً على النار، مصحوبة بزقزقة للطيور في الحديقة. أصوات تجعل الجمادات تنبض بالحياة. لا يوجد موسيقى في هذا المشهد، استخدامها سيقضي على هذا المزج الصوتي الفريد. تذوب الشخصيات في أصوات المطبخ، وتنتقل الكاميرا بسلاسة بين الوجوه والأطباق والأواني ولوح التقطيع وتعود إلى الوجوه كما لو أننا في فيلم صامت.
تبلغ الأمسية ذروتها مع تقديم عشاءٍ فاخر لأصدقاء «دودين»، الذين يصرّون على انضمام «يوجيني» إليهم على الطاولة. لكنها ترفض، موضحة أن كل ما يمكنها قوله قد عبرت عنه من خلال فنّ الطبخ. في ختام الأمسية، يتوجه «دودين» إلى غرفتها في العلية ويجدد طلبه لها بالزواج. ترفض مجدداً، لكنها تلمح إلى أن الباب كان مفتوحاً، مفضلةً أن تبقي لنفسها الحرية في غلقه أمامه عندما تشاء.
يخلو الفيلم تقريباً من الصراعات. هناك الدُّوار المستمر الذي تعاني منه «يوجيني»، والذي ينذر بحدوث شيء حزين لاحقاً. بالإضافة إلى ذلك، هناك حدثٌ يتعلق بغرور وريث المملكة الأوراسية الذي يحاول بطريقته غير المباشرة إهانة «دودين» من خلال إبهاره بوجبة تستغرق ثماني ساعات لتحضيرها. يقرر «دودين» كرد فعل انتقامي تقديم طبق بسيط يتكون من السمك واللحم والخضروات.
تفتقر كِلا الشخصيتين إلى العمق وتغيب الدوافع الدرامية، باستثناء حبهما المشترك للطهي. يوجد تناغم هادئ بين «دودين» و «يوجيني»، نراهما مستمتعان بصحبتهما لبعضهما البعض. يُعبر عن هذه المتعة من خلال الطعام أكثر من الكلمات. تقول «يوجيني» في إحدى المشاهد: "أتواصل معك من خلال الطعام الذي أعده لك"، تظهر محبة «دودين» لـ «يوجيني» المريضة في المعجنات الرقيقة التي يعدها لها. تُعبر الأومليت المطبوخة بحب عن عمق المشاعر بنفس القدر الذي تعبّر به قصيدة شعرية. الكلمات فارغة على عكس الطعام. الطعام هنا هو استعارة عن الحب.
يبدو كل شيء حيوياً في المشاهد الافتتاحية، يمكنك أن تشعر برائحة الأعشاب في المطبخ. حركة الكاميرا سلسة والمطبخ كائن حي له روح. أشعة الشمس تسطع، الشخصيات تتحرك بإيقاع سريع ومرح. يبدأ كل شيء بالتغير عندما تبدأ نوبات المرض تزداد على «يوجيني». يصبح الإيقاع تدريجياً أكثر بطئاً وقتامة حتى اللحظة التي تموت فيها. يموت المطبخ و يُهجر بموتها. يفقد «دودين» حبه للطهي بموت شريكته.
مآدب السينما و الأدب
يأخذك الفيلم في رحلة غامرة من المتع الحسية والجسدية، حيث تتحرك الكاميرا بسلاسة بين مشاهد تعكس العلاقة الوثيقة بين الإيروتيكا والطعام. من صورة فاكهة مقشرة ومطهية بعناية تسبق لقطة لجسد «يوجيني»، إلى مشهد مائدة فاخرة تتلألأ بنبيذ معتق يليه تصوير لحظات «يوجيني» الحميمة وهي تستحم. هذا التزاوج بين الإيروتيكا وفن الطهو ليس جديداً؛ ملذات الطعام كانت دائماً جزءً من التعبير الفني في الأدب والسينما والثقافة الشعبية.
الشغف بالطهي و اللقطات المقربة من تفاصيل الطهي يجعلنا قريبين من الاحساس بنكهات وملمس الأطباق. يبدو الطعام قريباً منا ويمكننا تقريبًا أن نتذوقه. يظهر «دودين» وأصدقاؤه في مشهد آخر من الفيلم، وهم يغمرون وجوههم في الطعام، منغمسين تماماً في الطعام، يظهر الفيلم التذوق كوسيلة لتعميق الروابط العاطفية. المشاركة في الطعام ليست مجرد فعل استهلاكي، بل هي طقس اجتماعي يعزز الروابط ويجعل من تجربة الأكل تجربة مشتركة تعكس شكل العلاقات الإنسانية.
في عالم السينما، يعتبر مشهد العشاء في فيلم «توم جونز - Tom Jones (1963)» مثالاً كلاسيكياً على كيفية تجسيد الطعام لرغباتنا الحسية. يجلس الزوجان أمام مائدة مكدسة بالأطعمة الشهية، يتبادلان النظرات المشبعة بالشغف ويتغازلان من خلال الطريقة المثيرة التي يتناولان بها الطعام، وكأن الطعام نفسه أصبح امتداداً لرغباتهما الجنسية. هنا، يتحول الطعام إلى لغة جسدية تعبر عن المشاعر والرغبات.
في السينما العربية، أبدع المخرج «محمد خان» مثلاً في استخدام الطعام كرمز لمتع الحياة وتجاربها الحسية. يبقى مشهد استمتاع «يحيى الفخراني» بتناول اليوسفي في فيلم «خرج ولم يعد (1984)» محفوراً في ذاكرة المشاهدين، ليس فقط كفعل، بل كتعبير عن التلذذ بجماليات الحياة والتفاصيل الصغيرة التي تجعلها ذات معنى.
يمكن الإحساس بالتقاليد الخاصة بالسينما الآسيوية التي تبرز الحب والاهتمام بالطعام في فيلم "طعم الأشياء"، السينما التي تربط الطعام بلحظات مهمة ومختلفة من حياة البشر. على سبيل المثال، يمكننا استحضار ولائم العائلة في أفلام «ياسوجيرو أوزو»، حيث يصبح الطعام رمزاً لاستمرارية الحياة وتواصل الأجيال، كما في مشهد تناول الطعام في فيلم «قصة طوكيو - Tokyo Story (1953)» الذي يعكس بساطة الحياة اليومية وعمق الروابط الأسرية.
يغدو طعام الشارع في فيلم «في مزاج للحب - In the Mood for Love (2000)» للمخرج «وونج كار-واي» عنصراً رئيسياً يعكس الحالة العاطفية للشخصيات. يتم تجسيد مشاعر الوحدة والرغبة في التواصل من خلال الطقوس المحيطة بالطعام.
و أخيراً تجسد الوليمة في فيلم «باراسايت - Parasite (2019)» للمخرج «بونج جون-هو»، والتي تقام في المنزل الفاخر، الفجوة الاجتماعية الهائلة بين الطبقات، حيث يتحوّل الطعام إلى رمز للتفاوت الاجتماعي والسلطة والتحكم في الثروة. الطعام هنا لا يمثل مجرد تغذية للجسد، بل يرمز إلى صراع اجتماعي أعمق.
لا ننسى أخيراً في الأدب الولائم المفرطة عند «فرنسوا رابليه» التي تعكس انتقاده للمجتمع والسلطة في عصره وفي «البحث عن الزمن المفقود» للكاتب «مارسيل بروست» حيث يصف في الجزء الأول من روايته كيف بإمكان قطعة صغيرة من المادلين المغموسة في الشاي أن تثير ذكريات طفولته المنسية. بدورها تستكشف «إيزابيل آييندي» في كتابها «أفروديت» العلاقات بين الشهوة والأكل والفن والحب من خلال وصفات طعام وحكايات شخصية وأدبية.
الطهي كشكل من أشكال الفنون
الجدال حول إمكانية أن يوسم الطهي بصفة الفن كان ولا يزال مجال نزاع. إدراك الأهمية الجمالية لحاسة الذوق يساهم في توسيع نطاقها الجمالي، ويؤسس لفن الطهي كفن حقيقي. يتبنى الفيلم هذا البعد على الأقل من خلال جمال التصوير السينمائي؛ حيث تتحرك الكاميرا مثلاً بسلاسة بين المطبخ والحديقة، وتظهر أناقة طاولات الطعام وروعة الأزياء.
ما الذي يجعل الطهي فناً أيضاً؛ وصفات الطبخ لها تقنيات دقيقة، مثل باقي الفنون. يتحدث «دودين» في أحد المشاهد عن وجبة «بريد ألاسكا» التي تعتمد على اكتشاف فيزيائي لعزل بياض البيض. نتذكر أن هذه الوصفات تعكس التراث الثقافي والمهارات التقليدية للطهي، مما يجعل من الطعام وسيلة للتعبير عن التمايزات الثقافية والاجتماعية والسياسية بين المجتمعات.
التذوق أيضاً تجربة ذاتية، فكل شخص يشعر بطعم مختلف لوجبة معينة، تماماً كما تختلف ردود فعلنا تجاه سماع سوناتا لبيتهوفن. في بلادنا عادة ما يمدح الطباخ بالقول أنّ «نفسه طيب في الطبخ». بمعنى أنه يضيف إلى طبخه من روحه وعاطفته وشغفه ما يمنح هذه الوجبة أو تلك طعمها.
الفيلم يعزز فكرة أن فن الطهي، رغم افتقاره لعظمة الأدب أو الموسيقى الكلاسيكية، يمكن أن يكون فناً بحد ذاته، يحمل في طياته عمقاً ومعانٍ خاصة. الطعام ليس مجرد وسيلة للتغذية، بل هو ممثل للتاريخ والمجتمع والثقافة، ويمكنه، مثل الرسم أو الأدب، أن يعيد إنتاج العالم ويعبر عن المشاعر. ورغم عدم وجود لغة محددة للطعام كما هو الحال في الموسيقى، إلا أن له قدرة فريدة على إثارة المشاعر والتأثير على الحواس بشكل فنّي أو هذا ما يفترضه «تران آن هانغ» على الأقل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش